مقالات

إشراقات ليس لبريقها نهاية / بسم الله الرحمـــــــــــــــن الرحـــــــــــــيم: الطيب علي أبوسن.

لا ريب أن للقرآن إشراقات ليس لبريقها نهاية، فهي على الدوام تُنَزِّلُ على عقول البشر أبعاداً من المعاني هي المعجزات الدَّالة على سبل الرشاد بعمق الدلالات وصدق المقاصد . إن مداومة مصاحبة الآيات تكسب القارئ المتمعن متعة تتجدد بتجدد الاصطحاب. إن العجايب لا تنقضي ، والعطايا لا تنفد ، والخيرات لا تُعد في كل وقت وكل حين .
اتضح لكفار قريش بما لا يدع مجالا للشك أن هذا القرءان ليس من عند غير الله وذلك لأنه قد تعامل مع لغة التخاطب والحوار بمستوى من الدقة واندياح المعاني أورث القلوب والعقول رجفات الدهشة ، وهزات الإعجاب التي ظنوها سحراً محكم الحبك ليس للخلاص من مقوده من محيص ؛ لقد اقتنعوا ألاَّ خلاص من قبضته إلا بعدم الاستماع ، والاكتفاء بإيراد اللغو من الحديث حول آياته لطمس المعاني وصرف الناس عنه ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون) فصلت ٢٦.
غاصت الكلمات في لُجِّيِّ ألْسِنَةِ القبايل فجاءت بخبايا المعاني ، فقد وقف خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر فقاده الحديث إلى آية أثارت بين جنبيه سؤالاً ( أو يأخذهم على تَخَوُّف فإن ربكم لرءوف رحيم ) النحل ٤٧، قال رضي الله عنه: ويحك يا عمر ما التّخَوُّف ؟! وعندها أجاب أحد الحضور من قبيلة هذيل بقوله : هذه هي لغتنا يا أمير المؤمنين،الأخذ بالتخوُّف عندنا يعني الهلاك على مهلٍ دون عجلة.
وصلت القناعة درجة من اليقين لدى القرشيين تفضي إلى اعترافهم بالفضيحة أمام دلالات ألفاظ هذا الكتاب الذي أعجز قدراتهم ، وتركهم في دهشة وضلال(… فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها…) الكهف ٤٩.
إن الموقع المحوري الذي تدور حوله مقالتي هذه يُسمى في اللغة بالاحتباك ، والاحتباك فن من فنون الأداء اللغوي الذي لفت الأنظار إلى إحصاء الصغاير والكباير من الأمور إحصاءً جلب الويلة أي الفضيحة إلى نفوس الرافضة من كفرة قريش وفجرتها . الاحتباك أسلوب يحترم المخاطب بمشاركته في توليد المعاني المستتره وراء الحروف ،فقول الله تعالى ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافره …) آل عمران ١٣. لقد سمَّى الزركشي هذا الفن بالحذف المقابلي،فمدلول الآية مفاده يحكي عن الفئتين وقد حذف الكلمات بغرض إشراك السامع احتراماً لعقله وقدرة استنتاجه ، فالعقل المكتمل يجعل من هذه الآية بناءً هو الأثاث والرئيا ،فمن الجزء الثاني ندرك أن الأولى مسلمة ، ومن الجزء الأول ندرك أن الثانية تقاتل في سبيل الطاغوت فيكون السياق : فئة مسلمة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت. ذلكم هو القرءان عندما نُسَلِّط على مفاتحه مفاتيح التدبر المُزيلةللأقفال.
إن قول الله سبحانه وتعالى لإبليس في سورة الأعراف الآية الثانية عشرة (قال مامنعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)، في هذه الآية يبدو من ظاهر القول أن المنع صادرٌ لإيقاف عدم السجود ، وهذا يعني الأمر بالسجود ،غير أن المنع هنا يخفي القول احتباكاً ليجعل مجيئَ الامتناع نتاجاً لاقتناع ، وهذا يعني : من الذي خاطبك بلغة المنع بألاَّتسجد إذ أمرتك بالسجود ؟ ، وفي سورة (ص) التي كان نزولها قبل الأعراف [ الأعراف ترتيبها التاسع والثمانون، و(ص) الثامن والثلاثون] جاءت الآية الخامسة والسبعون بقول الله تعالى (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ أستكبرت أم كنت من العالين) ففي (ص) المتقدمة في النزول كان السؤال عن منعٍ بسلطان القهر ، أما في الأعراف كان السؤال عن المنع بسلطان الحجة حيث أضمر الإقناع حديثاً ينمُّ عن حوار بالقول أفضى إلى المنع تحت باب الاحتباك الذي يكسب التعبير معان صامتة بين السطور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق