مقالات

رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة” 6-7-8-9-10-11-12”

محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة: “سكوتٌ يُزكّي الظالم: خيانة الصمت في حضرة الجريمة” (6)
– الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مدخل:
– ليس كلّ نُطقٍ فضيلة، كما أنّ ليس كلّ صمتٍ حكمة.
ثمة صمتٌ خائن، يُجمّل القبيح، ويُعطي القاتل صكّ براءة، إنه صمت المتعلّمين والعلماء، صمت الخطباء والوعّاظ، صمت الوجهاء والقيادات، حين يعلو صوتُ الجريمة، وتنزف الحقيقة في الطرقات.
* أولاً: الصمت حين تكون الكلمة واجبة
– في موازين الشريعة، الصمتُ عن قول الحق عند الحاجة إليه خيانة للأمانة، ونكوص عن الواجب، لا يُبرَّر بحذر، ولا يُغتَفر بتقوى زائفة.د، قال رسول الله ﷺ: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودِّع منهم” (رواه الحاكم). أي أن الأمة التي تكمِّم أفواهها أمام الجريمة، قد فقدت بوصلتها الأخلاقية والدينية، وصار سكوتها شهادة زور مغلّفة بورع كاذب.
* ثانيًا: حين يكون الصمت تزكيةً للقاتل
– الساكتُ عن الظلم ليس حياديًا؛ إنه يُسبّح بحمد الطغيان، ولو بلا لسان، فحين يُضرب الفقير، ويُشرَّد الحرّ، وتُسفك دماء الأبرياء، يبقى الصمت في مجلس الفتوى والموعظة شهادة زور صامتة، ومباركة خفيّة للجريمة، قال تعالى: ﴿ولا تَرْكَنوا إلى الذين ظَلَموا فتمسَّكمُ النار﴾ (هود: 113). والركون يشمل كلّ صمت يُطمئن الظالم ويثبّت له كرسيه، أو يُقنع العامة أن كل شيء بخير.
* ثالثًا: الدين لا يصمت أمام الجريمة
– لقد نطق موسى في وجه فرعون، ولم يُكلَّف بقطف رأسه، بل بكلمةٍ: ﴿فقولا له قولًا لينًا لعلّه يتذكر أو يخشى﴾ (طه: 44). لم يُطلب من موسى قلب نظام الحكم، بل كسرُ هيبة الباطل بكلمة حقّ، فكيف يصمت اليوم من يحمل علم الدين، ويُجلس على المنابر، ويُقدَّم في المجالس، حين يُغتصب حقّ، ويُسفك دم، وتُخنق الكلمة الحُرّة؟ بل كيف يتحوّل بعضهم إلى فقهاء تزكية، يُسبّحون بحمد الجلاد، ويكفّرون الضحية؟
* رابعًا: الصمت خيانة لا يغسلها الوضوء
– الصمتُ المريب لا تبرّره “الفتنة”، ولا تغسله طهارات الليل، فمن سكت يوم كانت الأمة تحتاج إلى كلمة، فقد خان، وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم، قال الحسن البصري (رحمه الله تعالى): “ما دخلتُ على سلطانٍ إلا وخرجتُ وأنا ألعن نفسي”، وهو من كبار التابعين، فكيف بمن يدخل ليُدافع، ويُجمل، ويبرّر؟ بل إن الشريعة سمّت الشاهد الصامت في الجريمة بـ”الشيطان الأخرس” أليس كذلك؟
* خامسًا: كلمة الحق ليست شغَبًا
حين ينطق العلماء بالحق، يوصمنون بأنهم “مخرّبون”، “ليس وقت الكلام”! لكن الصمت ليس حكمة حين يكون الثمن روحَ شعب، وعدالة قضية، وكرامة أمة، قال رسول الله ﷺ: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” (رواه أبو داود)، ألم ترَ كيف رفع النبي ﷺ الكلمة لتصبح جهادًا؟ فكيف بمن يرفع راية “المصلحة” ليُسكت صوت الحق؟!
* سادسًا: حين يصبح الصمت سياسة دينية
لقد تحوّل الصمت عند بعض المتدينين إلى “استراتيجية بقاء”، يُغلّفونه بالحكمة والتقوى، بينما هو في جوهره جُبنٌ مؤطَّر بلباس الشرع، يُقصون النصوص التي تأمر بالصدع، ويتكئون على نصوص السكينة والصبر، في غير موضعها، ويؤسّسون لصمتهم فقهًا مُحرّفًا مفصّلاً على مقاس الطغاة، وهنا تكمن الكارثة: أن يُستخدم الدين نفسه ليُبرّر الجريمة بالصمت، أو يُجعل من الوَعظ ستارًا لقتل الوعي، ومن المسجد دهليزًا إلى القصر.
* ختامًا: الصمت شريكٌ في الجريمة
– في كل دمٍ يُسفك، هناك قاتل مباشر، وهناك شريكٌ ساكت يلوذ بجدار المسجد، أو يقف على منبر لا ينطق،
– في كل سجنٍ يُزجّ فيه الأحرار، هناك ظالمٌ بأصفاده، وهناك عالمٌ بصمته.
-وفي كل راية ظلمٍ تُرفع، هناك يدُ الطاغية، وهناك أفواه العلماء التي لم تقل: “حرام”.
– فلنتذكّر أحبتي أنّ: الساكت عن الحق لا يختلف عن الجلاد، إلا أنه يلبس عباءة التُّقى، لا زيّ الجند.. ولكم مني كل تحية وسلام.
-عنوان مقالة الغد إن شاء الله:”المحراب الذي خان: كيف تم تزييف صورة الدين في وعي الناس؟ ”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1959)
* 15. ذو القِعدة. 1446 هـ
* ألثلاثاء . 13.05.2025 م
**************
رؤية 7

* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة: “المحراب الذي خان: كيف تم تزييف صورة الدين في وعي الناس؟ ” (7)
– الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* المحراب.. منبَتُ القداسة أم بوابة الخديعة؟
كان المحرابُ رمزًا للسكينة والخشوع، ومقامًا يقف فيه الإنسان بين يدي الله متجردًا من الأهواء والمصالح، لكنه، في بعض محطات التاريخ، تحوّل إلى منصة تمتهن الخداع باسم الدين، وتبيع الرضا السلطاني مقابل تدجين الضمير، حتى صارت بعض المحاريب لا تنطق إلا كلمات ملوّنة برائحة البلاط، لا أثر فيها لكلمة الحق، ولا صدى فيها لصوت السماء.
* من التقديس إلى التدجين
لم يكن تزييف صورة الدين عملية فجائية، بل هو مشروع متدرج بدأ بتقريب بعض الفقهاء إلى مجالس السلطان، وشراء صمتهم أو فتاواهم، ثم انتقل إلى استبدالهم برجال يُؤتمَرون ولا يُفتُون، يُملى عليهم ولا يُصدعون، حتى أصبحت معاني الدين تُعاد صياغتها في القصور قبل أن تنزل على المنابر، فالدين الذي كان يحمل شعلة تحرير الإنسان من عبودية البشر، حُوِّل إلى أداة تُقنّن الطغيان وتُبرر الظلم وتُرهب الناس باسم السماء.
* صناعة الوعي الزائف
حين تتكرر على مسامع الناس خطب تُشيد بالحاكم وكأنه ظل الله في الأرض، وتُقزّم المعاني الكبرى للإسلام إلى طقوس مُفرغةٍ من القيم، تُزرع صورة مشوهة في الوعي الجمعي، يصبح الدين عند كثير من الناس مرادفًا للركوع للطغاة، والخنوع للظالمين، والتقوقع داخل الأسوار بعيدًا عن قضايا الإنسان والكرامة والعدل.
وكم من مرة سمعنا خطيبًا يصف المظلوم الخارج في وجه ظالمه بـ”المفتون الخارج عن الجماعة”، بينما يمطر الظالم بالدعوات والتمجيد!
* المحراب بين عهدين
ما أبعد ما بين المحاريب التي صدع فيها الأنبياء بكلمة الحق، والمحاريب التي امتلأت بجبن المهادنين! فهذا محراب موسى يصدح فيه ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ (طه:44)، ومع ذلك لم يَخْشَ بطش فرعون، وذاك محراب إبراهيم الذي كسر الأصنام ولم يخفَ المُلْك، ومحاريب الصحابة التي نطقت بالحق في وجوه الجبابرة دون تردد.
أما اليوم، فإن بعض المحاريب قد أُحكم إغلاقها على الحقيقة، فلا يدخلها إلا من لبس عباءة الولاء الأعمى، ولا يعتليها إلا من اختار السُّكون على الصدع، والتمويه على التبيين.. هل أبالغ يا معاشر السادة؟
* آثار الخيانة المحرابية
إن تزييف صورة الدين في وعي الناس يخلّف جراحًا عميقة ومنها:
– فقدان الثقة بالدين:
حيث يختلط عند الناس الدين الحقيقي بدين السلطة، فيكفر بعضهم بالاثنين.
– تشويه رسالة الإسلام:
حيث يتحول الإسلام من دين رسالة عالمية عادلة إلى طقوس تكرّس الواقع الظالم.
– تراجع صوت الإصلاح:
إذ يُعاقَب كل صوت حر، وتُغلق أبواب الاجتهاد، وتُحاصر كل محاولة للفهم النزيه للنصوص.
* وماذا بعد؟
إن أول خطوة لإعادة الدين إلى صورته النقية في وعي الناس، هي فضح هذا التواطؤ بين السلطان والمحراب، ومن أجل تحقيق هذا الهدف لا بد من أن تعاد للمنبر هيبته، وللخطاب صدقه، وللمحراب وقاره، وأن نُميّز بين الدين المنزل والدين المؤوَّل، بين الفقيه الرباني والموظف الديني.
– فالدين الحق لا يُختزل في فتوى تُرضي الحاكم، بل يُترجم في موقف يُرضي الله، وإذا خان المحرابُ أمانته، فعلى الصادقين أن يشيّدوا من قلوبهم منابر جديدة، يعلو فيها صوت ” ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)، لا صوت “اسمعوا وأطيعوا وإن جَلد ظهركم”.
– المحراب الذي خان، ليس نهاية القصة. فثمة أقلام تكتب، وقلوب تصحو، وأصوات تخرج من تحت ركام التزييف، تُعيد للدين بهاءه، وللناس ثقتهم، وللحق سلطانه… ولكم مني كل تحية وسلام.
-عنوان مقالة الغد إن شاء الله:”حين تُستبدل النصوص بالأوامر: سقوط المرجعية أمام السلطة”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1960)
* 16. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألأربعاء . 14.05.2025 م
*************
رؤية 8

* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة:
* “حين تُستبدل النصوص بالأوامر: سقوط المرجعية أمام السلطة”

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– حين تتنازل المرجعية عن سلطان النص، وتلوذ برضا السلطان، تُولد أزمة مزدوجة: أزمة في الفتوى، وأخرى في الضمير، فالعالِم الذي كان يُنتظر منه أن يكون صوت الحق، يتحوّل إلى صدى القرارات، يُبارك كل ما يُملَى عليه، ويُخيط للنظام عباءة شرعية يختبئ تحتها القمع والفساد.
– في لحظة الانقلاب هذه، لا تعود الفتوى اجتهادًا شرعيًا نابعًا من النصوص ومقاصد الشريعة، بل تصبح توجيهًا سياسيًا مغلفًا بلباس ديني. تتوارى النصوص خلف التعليمات، ويختفي “قال الله” و”قال الرسول” ليحلّ محلّهما “قال الوزير” و”قال الحاكم”، وهكذا، لا يُعاد تأويل النص فقط، بل يُعاد توجيه البوصلة الدينية كلها، نحو ما يخدم السلطة لا ما يُرضي الله.
– ويبدو السقوط أكثر وضوحًا حين نرى خطباء منابر يبرّرون الظلم باسم الاستقرار، ويُسوّغون البطش بذريعة “درء الفتنة”، وكأن الفتنة الحقيقية ليست في الظلم ذاته! هؤلاء الذين كانوا يُفترض أن يُنذروا الأمة من عذاب الاستبداد، صاروا ينعقون بما يرضي القصر، ولو سُفكت دماء الأبرياء أمامهم، اكتفوا بالصمت أو المواربة.
– لقد أصبح بعض العلماء ـ للأسف ـ يوقّعون على فتاوى لم يكتبوها، ويُقرّون أحكامًا لم يفهموها، فقط لأن السلطة أرادت ذلك، فتُعقد المؤتمرات، وتُكتب المُقرّرات، وتُرصُّ العبارات الملساء، ليُقال في النهاية: “الدين معنا”، وفي الحقيقة الدين بريئٌ مما يُقال.
– وما أخطر أثر هذا الانحدار على العامة؛ إذ تُربّى أجيالٌ على تقديس القرارات لا النصوص، وعلى الطاعة العمياء لا الاجتهاد النزيه، وعلى الانقياد لا المراجعة، فإذا احتجّ أحدٌ بآية أو حديث، قيل له: “الفتوى صدرت من أعلى”، وكأن الشريعة أصبحت نظامًا عسكريًا له رتبة ومراتب!
لكن المرجعية لا تُسترد بالضجيج، بل بالرجوع إلى الأصل: إلى النصّ، إلى القرآن والسنة، إلى المقاصد العليا، وإلى عالمٍ لا يخاف في الله لومة لائم، إلى عالمٍ يضع النص فوق رأسه لا تحت أوامر السلطان، ويقول للحق “حقّ” ولو على نفسه، وللباطل “باطل” ولو أغضب الحاشية.
– والمفارقة أنّ من كانوا يدّعون حماية الشريعة، صاروا هم أول من يفرّط بها عندما تتعارض مع مصالح الحاكم أو تعليماته، وكأن النص الشرعي لا يُفَعَّل إلا إذا مرّ على مكاتب الأمن وأوكار المخابرات والموافقة المسبقة! هكذا تُختزل مرجعية الدين في توقيع، وتُفرّغ الفتوى من جوهرها، ويصبح الخطاب الديني غطاءً ناعمًا لعنف خشن.
– ومن المؤلم أن هذا التحالف بين المنبر والسلطان لا يُنتج إلا شعبًا مرتبِكًا، يتلقى خطابًا دينيًا متناقضًا: فيه يُحذَّر من الظلم نظريًا، ويُبرَّر عمليًا، يُمجَّد فيه العدل في الكتب، ويُقمع المطالبون به في الساحات.
– وحين تسقط المرجعية، لا يسقط العالِم وحده، بل تسقط معه الثقة، وتسقط القدوة، ويسقط الأمل في الإصلاح، لذلك فإن الصمت عن هذا التواطؤ يُعدّ خيانة معرفية ومجتمعية، لا تقلّ خطرًا عن خيانة السيف والبندقية.
– فيا أيها العالِم، إما أن تكون لسان النص، أو ستصبح بوق السلطة، ولا منزلة بينهما… وماذا تقولون انتم يا معاشر القراء والسادة؟
ولكم منّي كل تحية وسلام.
-عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “من وعظ الناس إلى تزكية المتنفّذين: رحلة الانحراف الخفي”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1961)
* 17. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألخميس . 15.05.2025 م
************

* رؤية 9
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة: “من وعْظِ النّاس إلى تزكية المتنفّذين: رحلة الانحراف الخفي” (9)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* حين تنحرف البوصلة…
– كان المنبر يومًا منصةً للحق، يرتقيه الواعظ ليقول: “اتقوا الله، ولو في وجه سلطانٍ جائر!”، أما اليوم، فقد أصبح المنبر نفسه طاولة بيضاء تُفرش فوقها خطبٌ مموّهة، تتجنب الحواجز الحمراء، وتُزيِّن الوجوه العابسة للمتنفذين بماء الكلام.
– هذا التحوّل لم يكن فجائيًا، بل تسلّل خفيّ، بدأ باسم “الحكمة”، و”درء الفتنة”، و”فقه المآلات”، حتى تحوّل بعض الوعّاظ من رُعاة للضمير العام إلى ناطقين باسم الدولة العميقة.
* حين يُصاب المنبر بالخَرَس
– تخيل معي واعظًا قديرًا، كان يُبكي المصلين بحديثه عن الصدق والعدل، فإذا به اليوم يختار السكوت عن الظلم الصارخ، ويعلّق على قضايا الأمة بعبارات هلامية مثل: “اللهم أصلح الراعي والرعية”، دون أن يملك الجرأة ليسمّي الراعي، أو يصف طبيعة الخلل.
– فما الذي جرى؟ كيف انتقل خطاب الدعوة من وعظ النّاس إلى تزكية المتنفذين؟ ومن الذي رسم حدود هذا التحوّل؟ وهل كان دافعُه الخوف؟ أم فتنةُ القرب من السلطة؟ أم سكرة التصفيق الإعلامي؟
* حين تصبح المنابر صدى للقصور
– لم يعد صوت المنبر يسبق صوت القصر، بل بات أحيانًا يُعاد بثّه بعد تحريره رقابيًا! أصبحت بعض خطب الجمعة أشبه بنشرة أخبار رسمية، تُدبّج فيها الأدعية للزعماء؛ – بمعنى تُزيّن- وتُقصى منها قضايا الأمة الحارقة، حتى صارت بعض المساجد تبدو وكأنها “ملحق ثقافي للديوان”، لا بيوتًا لله.
– في لحظة كهذه، يفقد الخطاب الديني دوره الحيوي في الإصلاح والتغيير، ويتحوّل إلى غطاء شرعي للواقع، لا إلى محفّز على تعديله، وهنا يصبح الخطر مضاعفًا: فالدين المسجون في خطاب رسمي، هو دين منزوع الروح، مشلول الفعل، بارد الرسالة.
* بريق القصور… وغبار الميادين
– في عمق هذه الرحلة الخفيّة، نجد أن السلطان هنا لا يُرغِم بالحديد، بل يُغري بالذهب؛ يعطيك القرب، والمكانة، وربما حتى صكّ النجاة من المساءلة، ومن هنا، يبدأ اختبار النفوس: فإما أن يبقى الخطيب صوتًا للناس في وجه السلطان، أو يصبح صوتًا للسلطان في وجه الناس.
– قال الإمام مالك يومًا: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛- بالمناسبة، يظن البعض أن هذا القول حديث نبوي، لا هو من كلام الامام مالك (رحمه الله تعالى)- ولكن بعض خطباء اليوم يبدو أنهم يؤمنون أن آخر الأمة يصلح بـ”مداهنة السلطان”، وتقديم “الإصلاح التدريجي” كتفسير لكل سكوت مريب؛ هل أبالغ؟
* الفتوى التي تُطلب على الهاتف
– أصبح بعض الدعاة يجيبون عن المسائل السياسية بأحاديث الأخلاق الفردية، يُسأل عن الاستبداد، فيحدّثك عن برّ الوالدين. يُسأل عن السجون والمظالم، فيُحيلك إلى الصبر والزهد في الدنيا، ليس لأنه يجهل الواقع، بل لأنه يخشى أن يُطلب للحديث على غير الهاتف!
– هذا النوع من “الانحراف الخفي” هو الأخطر؛ لأنه لا يُمارس عبر صدام واضح، بل عبر تدجين بطيء يغيّر جوهر الخطاب الديني دون أن يشعر المتلقّي أن شيئًا تغيّر… -لأنه من كلام عالمٍ أو علمٍ غير أنه تابع للبلاط- أليس كذلك؟
* وظيفة العالم ليست التجميل
– الدين لا يحتاج إلى من يروّج له داخل بلاط السلاطين، بل إلى من يحفظ له كرامته خارج أسوارهم، فالعالِم الحقيقي لا يزيّن صورة المتنفّذ، بل يُذكّره بأنه عبدٌ مهما عَلا، وأن الله سائله يوم الحساب.
– قال ابن المبارك: “إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، فتح له باب الذل والانكسار، وأغلق عنه باب الكِبر والفخر.” فكيف بمن يغلق أبواب الذلّ لله، ويفتح باب التزلّف للطغاة؟
* كلمة أخيرة…
– من وعظ الناس إلى تزكية المتنفذين، لا تحتاج الرحلة إلى انقلاب ظاهر… يكفي أن يستبدل الخطيب بوصلته، ويُعيد ترتيب أولوياته، فيجعل رضا السلطان مقدمًا على خشية الرحمن، هناك فقط يبدأ اختطاف الدين، لا من قِبل السياسي فقط، بل أحيانًا من على المنبر نفسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله… ولكم منّي كل تحية وسلام.
– عنوان مقالة الغد إن شاء الله:”الخطبة التي لم تُلقَ: أين صوت الحق في زمن الطغيان؟”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا، جمعة مباركة
* مقالة رقم: (1962)
* 18. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألجمعة . 16.05.2025 م

**********

* رؤية 10
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* “خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين”

عنوان المقالة: “الخطبة التي لم تُلقَ: أين صوت الحق في زمن الطغيان?” (10)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* توطئة: منبرٌ صامت.. وضميرٌ غائب
في زمانٍ تتهاوى فيه الكلمات تحت أقدام السلطان، وتُخنق الأصوات في فم الإمام، يصبح الصمت خيانة، والسكوت عن الحق شراكة في الظلم.
وهنا نسأل بمرارة: أين الخطبة التي كان ينبغي أن تُلقى؟ وأين الإمام الذي كان يجب أن يتكلّم؟ وأين صوت الحق حين استبدّ الطغيان بالرقاب والعقول؟
الخطبة الغائبة ليست مجرد كلمات لم تُنطق، بل هي مواقف لم تُؤخذ، وضمائر أُسِرت في بلاط السلطان.
* حين يُؤجَّر المنبر ويُؤسَر الخطاب
كان يُنتظر من المنبر أن يكون قلعة للحق، وسيفًا على رقاب الظالمين، لا وسادةً تُمجّد الطغاة وتُبرر الفساد،
لكن الطغاة ما استتب لهم الحكم إلا حين صعد إلى المنبر إمامٌ مأجور، ينسج آيات الوعيد للضعفاء، ويخيط آيات الرحمة لجلاديهم.
لقد عرف المستبد أن الدين إذا نُزع من أيدي العلماء الربانيين، وسُلم لمن يُزيّنون الباطل باسم “الفتوى”، صار أداةَ ترويضٍ لا تحرير، وصار المنبر جسراً يعبر عليه الاستبداد نحو قلوب الناس.
* الخطبة الغائبة.. ومفهوم “الغياب المقصود”
الخطبة التي لم تُلقَ، ليست فقط تلك التي مُنع صاحبها من قولها، بل هي أيضًا تلك التي سُكِت عنها عمدًا، واتُّخِذ قرارٌ ضمنيٌّ ألا تُقال، حتى لا تُزعج السلطان، أو تُحرّك الغافلين.
هي خطبة “الميزان”، التي تعيد ترتيب القيم في زمن اختلط فيه المجرم بالبريء، والسجان بالشهيد، والجلاد بالعارف بالله، كان يجب أن تقول: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ (هود: 113)، لكنها صمتت، كان يجب أن تهتف: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر!”
لكنها خنَقت أنفاسها بين دفتي دفتر الأمن والمخابرات.
* منابر الرخاوة وغياب التربية على الحق
غياب صوت الحق لم يكن وليد لحظة واحدة، بل نتيجة عقودٍ من إخصاء المنابر، وتدجين الخطاب الديني، وتهذيب الكلمات حتى تفقد روحها.
تُرك الناس بلا تربية على الجرأة في قول الحق، ولا على فقه المواجهة، ولا على أدب الاعتراض.
والنتيجة: مجتمعات تصفق للجلاد، وتصلي خلفه، وتدعو له بالنصر، لأنه “وليّ الأمر”، ولو جلد ظهورهم وسرق أعمارهم!
* حين يُختطف الدين من أهله
إن أعظم مأساة في عصر الطغيان ليست فقط في تكميم الأفواه، بل في تزوير الضمائر.
في أن يتقدّم رجل الدين ليُعطي الشرعية للظلم، ويُلبس الجلاد عباءة الورع، ويحوّل الشريعة إلى “ديكور سلطوي” يخدم الباطل باسم الدين.
وهنا نذكر قول الإمام مالك، حين قال: “ليس كل من حمل المصحف بقارئ، ولا كل من لبس العمامة بعالم.”
* ماذا لو أُلقِيت الخطبة؟
لو أُطلقت الخطبة من قيدها، لقالت للناس إن الطغيان لا يُدفع بالتصفيق، بل بالمواجهة، ولا يُجتث بالخوف، بل بالإيمان. ولقرأت عليهم: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر: 19)
ولذكّرتهم أن من باع دينه للسلطان، فقد خسر الدنيا والآخرة.
لكنها لم تُلقَ… وبقيت الشعوب تتلوى في ظلمات الجهل، تُسلِّم للجلاد باسم الطاعة، وتخاف من الحرية كأنها رجس من عمل الشيطان.
* وأخيرًا وليس آخرًا: إحياء الخطبة الغائبة
لقد آن الأوان أن تُبعث الخطبة التي لم تُلقَ، لا من فمٍ واحد، بل من آلاف الضمائر الحية!
من كل مؤمن يرى في الدين قوة تحرير، لا وثيقة خنوع وخضوع!
آن لنا أن نستعيد منابرنا، ونعيد للدين صلابته، وللحق جرأته!
لأن الخطبة التي غابت كانت بداية السقوط، والخطبة التي ستعود هي بداية النهوض!
فالحق لا يصمت، والدين ليس خادمًا ولا خاتما بيد السلطان
آن الأوان أن تُعاد الخطبة إلى مكانها!
فهل لك أن تكون أنت صوتها؟.. ولكم منّي كل تحية وسلام.
– عنوان مقالة الغد إن شاء الله:”دعاء للسلطان أم دعاء على الظلم؟ اختبار الموقف في ساعة الحقيقة ”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1963)
* 19. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألسبت . 17.05.2025 م
************

* رؤية 11
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* “خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين”

عنوان المقالة: “دعاء للسلطان أم دعاء على الظلم؟ اختبار الموقف في ساعة الحقيقة” (11)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد: ساعة يتكلم فيها الدعاء
حين يُقبل الخطيب على الدعاء في نهاية خطبته، وتشرئبّ الأعناق، وتصمت القلوب، يتوقّف الناس ليسمعوا ما سيُقال: أهو ثناءٌ على السلطان؟ أم توسلٌ لرفع المظالم؟ هل يُذكر اسم الحاكم مقرونًا بالدعاء له بطول العمر، أم تُذكر المآسي والدماء وأوجاع الناس مع طلب العدل ورفع القهر؟
هنا، تُختبر المنابر، وتُفتضح الأقنعة، وتُعرف موازين الرجال.
* ثنائية الدعاء: بين من يدعو للسلطان ومن يدعو لرفع الطغيان
الدعاء للحاكم ليس بدعة، وقد دعا النبيّ ﷺ لبعض الولاة بالعدل والهدى، فقال: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به” (رواه مسلم).
لكن حين يتحوّل الدعاء إلى تلميع وتزكية في غير محلها، وحين يُخصَّص للدعاء للسلطان في كل جمعة، ويُغفل الدعاء لرفع الظلم عن المسحوقين، فهنا تختلّ الموازين، ويُسخَّر الدين لشرعنة القهر.
* المنبر في ساعة الحقيقة: هل ينطق بآهات الناس؟
المنبر ليس منصة مديح، بل مقام تبليغ وأمانة، وهو لسان الأمة حين تُكمّم الأفواه، وملاذها حين تسكت الصحف والفضائيات.
عندما يُسجَن العلماء، وتُغلق الجمعيات، ويُغتال الأحرار، ثم يصعد خطيب إلى المنبر فيدعو: “اللهم احفظ الملك أو الأمير أو السلطان أو الرئيس، وأيّده، ووفّقه، وأطل في عمره، وألبسه ثوب العافية”، دون أن يذكر دمًا مسفوحًا أو حقًا مضيّعًا أو مشرّدًا ونازحًا أو جائعًا منسيًّا… فهنا يصبح الدعاء خيانة، والمنبر بوقًا لا رسالة.
* حين يصبح الدعاء غطاءً سياسيًا
في بلاد الأعراب، تحوّل الدعاء إلى سياسة رسمية، يُطلب من الأئمة تخصيص فقرات دعاء للحاكم، يُراجع نصّها في وزارة الأوقاف، وتُشطب منها عبارات “اللهم انصر المستضعفين”، أو “اللهم عليك بالطغاة المعتدين”، لأنها تخرج عن “الخط العام”.
هكذا يصير الدعاء جزءًا من سلطة الاستبداد، ويُمنع الإمام من أن يعبّر عن ضمير الأمة، وكأنَّ منبره ليس منبر رسول الله، بل منبر الحاشية.
* بين الورع والتورط: تأويلات فقهية تشرعن السكوت
يتذرّع بعض الدعاة بأن “الدعاء للحاكم فيه مصلحة عامة”، وأن “إظهار الولاء يحفظ الأمن”، ويستدلّون بفتاوى ظاهرها الحكمة، وباطنها الخضوع والاستسلام والخنوع، لكن هؤلاء يغفلون أن الورع الحقيقي ليس في مداهنة الظالم، بل في قول الحق، حتى لو كلّف صاحبه منصبه أو حياته، وقد قال الإمام مالك يومًا لمن طلب فتوى تبرّر ظلم السلطان: “إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب، فانظروا في قولي، فخذوا ما وافق الكتاب والسنة، واضربوا بالباقي عرض الحائط”.
* الدعاء موقف لا ترف
الدعاء ليس نَفَسًا يُطلق في الهواء، بل هو موقف، وميزان إيمان، ودليل على الاصطفاف الحقّ، فالدعاء على الظالم من الجهاد باللسان، وقد قال النبي : ﷺ
“أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”. (أخرجه أحمد والنّسائي)، وهو دعاء لا يستعدي الأشخاص، بل يستعدي الظلم ذاته: “اللهم خذ الظالمين أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم إنهم لا يعجزونك”..فمن يملك الجرأة أن يصدع بذلك إذا كان السلطان حاضراً؟
هنا يكون الاختبار… ساعة الحقيقة.
* الفارق بين العلماء والبُغاة
في مثل هذه اللحظات، يتمايز العلماء الربانيون عن أدعياء الدين، ويُفرز من ينهض بالدين ليحمي الناس، عن من ينهض بالدين ليحمي السلاطين.
أولئك وقفوا أمام خلفاء وسلاطين، كما وقف سعيد بن جبير، وأحمد بن حنبل، والعز بن عبد السلام… لا ليطيلوا الدعاء، بل ليقصروا الطريق نحو الحق، أما المُزيَّفون، فتصعد فتواهم مع بخور القصر، وتهبط معها هيبة الدين.
* وفي الختام: هل دعوتك عبادة أم نفاق؟
في نهاية الخطبة، حين يقول الخطيب: “اللهم ولِّ أمورنا خيارنا، ولا تولِّ أمورنا شرارنا”، يجب أن يسأل نفسه:
هل أنا صادق في هذا الدعاء؟
وهل أجرؤ على أن أسمي الظالم ظلمًا؟
أم أنني أُسقِط الدعاء على من يحكم ويبطش، فأُزيِّن جرائمه برداء الشريعة؟
هنا يُعرف الخطيب الحق من الخطيب المزيف.في ساعة الحقيقة، يصبح الدعاء موقفًا لا دعاء، ويُكشف من يصلي للعدالة، ومن يسجد للسلطان، ممن لا يخش إلا الله تعالى..ولكم منّي كل تحية وسلام.
– عنوان المقالة الأخيرة في هذه السلسلةصبيحة الغد إن شاء الله: “استرداد الدين من قبضتهم: كيف نُعيد للدين روحه؟”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1964)
* 20. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألأحد . 18.05.2025 م
**********

* رؤية 12
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* “خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين”

عنوان المقالة: “استرداد الدين من قبضتهم: كيف نُعيد للدين روحه؟” (12)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* مدخل: بين الخطف والاسترداد
لقد عشنا في هذه السلسلة رحلة مُرَّة بين دهاليز الاستغلال الديني، حيث يُختطف الخطاب باسم الله ليخدم أجندات الطغيان، وتُشوَّه صورة الدين ليُزيَّن بها وجه القهر، وتُجهض رسالة الإصلاح لتُبعث من جديد كأداة تخدير وتكريسٍ للواقع. وفي نهاية هذه الرحلة، لا بد من السؤال الجوهري: كيف نُعيد للدين روحه؟ كيف نفكّه من قيودهم؟ وكيف نحرّره من خطاب نُصب على منابر الاستبداد؟
* أولًا: استرداد الدين من اختطاف الخطاب
استرداد الدين لا يكون بشعارات مضادة، بل بإحياء المعنى الذي اختطفوه، والنفاذ إلى جوهر الرسالة قبل أن تلبسها لحى البلاط عباءة التزوير. الدين ليس مرآة للحاكم، بل ميزان يُقوّم الحاكم. إنه صوت الضمير، لا بوق السلطان. فلا بد من العودة إلى خطاب القرآن الأول، ذلك الخطاب الذي خاطب فرعون بـ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾، لكنه لم يُهادنه، بل عرّى طغيانه، ورفع شعار: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ﴾ (الدخان: 18)
* ثانيًا: إحياء روح المقاومة في الدين
لا تُختزل مقاومة الباطل بالبندقية وحدها، بل تُصنع أيضًا بالكلمة الصادقة، بالوعي الحر، وبمنابر تقف لله لا للحاكم، لقد قُتِلَ الحسين لأن خطابه خرج من تحت عباءة الطاعة العمياء، وأُسكت ابن تيمية لأن قلمه رفض تبرير ظلم المماليك، وسُجن عبد القادر الجزائري لأنه لم يُفصّل الإسلام على مقاس المستعمر، وأُعِدم سيد قطب، لأنه لم يوقّع لظالم، من هنا، فإن استرداد الدين يعني إحياء روح المقاومة فيه، وتخليصه من فتاوى “الطاعة العمياء”، و”سد الذرائع” حين تسدّ بها أفواه الأحرار.
* ثالثًا: تحرير العلماء من سلطان السلطان
أخطر ما فعله الطغاة أنهم اشتروا العلماء أو خوّفوهم أو عزلوا أصواتهم، فمن أراد استرداد الدين، فعليه أن يعيد للعلماء استقلالهم، وأن يدعم الأحرار منهم، وأن يُحرّك المجتمع ليحمل العلماء الشرفاء على أعناقه، لا يجوز أن يبقى الناس أسرى فتاوى التلفزيون الرسمي، ولا أسرى مراكز الفتوى التي أُسِّست لحراسة الأنظمة لا لحراسة القيم، إن العالم الذي يخاف الله لا يخاف أن يقول: “الحق أحق أن يُتبع، ولو على رقاب الجبابرة”.
* رابعًا: من منابر التزيين إلى منابر التبيين
لقد صعدت إلى المنابر في زماننا خُطَب التبرير، وغابت خُطَب التنوير. وتحول المنبر من صاعق للقلوب إلى مخدّر للضمائر، فاسترداد الدين يمر عبر تحرير المنابر، وإعادة ربطها بهمّ الأمة، لا بهيبة السلطان، على المنبر أن يعود أداة توجيه لا تطويع، وأداة إصلاح لا تسويق. حين يعود الخطيب ناصحًا لا موظفًا، حرًا لا مأجورًا، سيبدأ الدين يستعيد كلمته الأولى.
* خامسًا: عودة الدين إلى الناس لا إلى القصور
الدين في أصله لم يكن يومًا مُلكًا للقصور، بل كان مع الضعفاء، في بيوت الفقراء، وفي الطرقات حيث يُنصر المظلوم، لقد نزل الوحي بعيدًا عن العاصمة، وعاش النبي في كنف المستضعفين، وانطلقت دعوته من دار الأرقم لا من مجلس شورى السلطان، فحين نعيد الدين إلى الناس، حين نجعل فهمه متاحًا لقلوبهم لا حكرًا على بطاناتهم، يبدأ الدين بالتنفس من جديد، فالدين ليس بوقًا فوق رؤوس الناس، بل نورًا بينهم.
* خاتمة: كي لا يُختطف من جديد
لقد اختُطف الدين مرارًا عبر التاريخ، لكن روحه بقيت عصية على الأسر، واليوم، ونحن نعيش مرحلة اختطافٍ جديدة، لا بد أن نكون على قدر المسؤولية، فالدين أمانة، لا سلعة سياسية، هو مشروع تحرير، لا وسيلة تخدير، هو صوت الحياة، لا جثة يُستعمل اسمها لشرعنة الموت.
فليكن شعارنا:
“نستردّ الدين، لنستردّ الإنسان”.
ولنُشعل شموعًا على طريق الإصلاح لا لعنًا في ظلمة التواطؤ.
ولنُذكّر كل من تسلق منبرًا أن الخطبة على عتبة السلطان قد تُفرح السلطان…لكنها حتمًا تغضب الرحمن.
ولكم منّي كل تحية وسلام.
– أما صبيحة الغد إن شاء الله: فموعدنا مع سلسلة جديدة

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا
* مقالة رقم: (1965)
* 21. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألأثنين . 19.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق