مقالات
مقال غاية في الاهمية «الحاج بول جيلوت»: مذكرات موظف استعماري عن رحلة الحج / كتب أحمد نظيف
كيف كانت السلطات الاستعمارية الفرنسية تنظر للحج بدايات القرن العشرين، وما الذي عناه لها التقاء مسلمين من أماكن مختلفة من العالم على سيطرتها على العديد من بقاع العالم؟ أحمد نظيف يقدّم قراءة في وثيقة من الأرشيف الفرنسي تستعرض هذه النظرة الاستعمارية.
الحج أكثر من مجرد طقس ديني. لا يخرج الحج، بوصفه ممارسة فردية، عن حيز الشعيرة الإسلامية، لكن النظر إليه من بعيد، بوصفه حالة تجمع طوعي، محدود في الزمان والمكان، ظاهرة «سوسيوثقافيّة» تحتاج تأملًا. وهذا الانتباه لها، ليس جديدًا، بل هو حاضر حتى في جوهر التفكير المقاصدي الفقهي الإسلامي، فضلًا عن حضوره الراسخ في العلوم الاجتماعية. فهذا التجمع الهائل للبشر من مختلف المنابع والمنابت والملل، كان دائمًا، وسيبقى، مختبرًا كبيرًا للتاريخ والجغرافيا والاقتصاد وخاصة للسياسة. وبشكل مبكر، التفت الاستعمار الفرنسي في الجزائر، رغم علمانية الدولة الفرنسية الموغلة في اللائكية، إلى ضرورة الاهتمام بالحج، من وجهة نظر استعمارية هدفها الأساسي المزيد من إحكام السيطرة على المجال والسكان. ونزوع إمبريالي لفهم ما يجري في الشرق، لاسيما في مناطق النفوذ العثماني، الذي أخذ في الانحسار قبيل الحرب العالمية الأولى.
يظهر هذا الاهتمام بوضوح فيما كتبه المسؤول الاستعماري الفرنسي بول جيلوت. هذه الوثيقة، المحفوظة في الأرشيف الفرنسي لما وراء البحار، هي في البداية مجرد تقرير إداري بسيط كتبه، جيلوت، المسؤول عن الإشراف على رحلة حجاج وهران بين كانون الثاني وآذار 1905. تكمن قيمة هذه الوثيقة قبل كل شيء في سلسلة الصور المصاحبة لها، وقدرة الكاتب على الوصف والاهتمام بالتفاصيل. وقد نشر التقرير محققًا عن جامعة بروفانس، في كتاب[1] حرره كل من لوك شانتر، الذي نشر سابقًا كتابه المرجعي حول «سياسات الحج منذ القرن السابع عشر حتى اليوم»،[2] وفيليب بتريات ولويس بلين. في هذا الكتاب، ترك لنا جيلوت، مدفوعًا بفضول شخصي واضح وكذلك برغبة في الترقي في سلم الإدارة الاستعمارية، تقريرًا مفصلًا عن تنظيم الحج إلى مكة خلال العصر العثماني. متجاوزًا الأسلوب الإداري الثقيل في التدوين، يوسع الكاتب مصادره نحو الصحافة ومحفوظات القنصلية الفرنسية، ويستجوب الشهود ويلتقي بالشخصيات المحلية. بعناد مراسل صحفي، يعتزم جيلوت تسليط الضوء على ما يسميه «الجانب السفلي من الحج»: المضاربة على أسعار المياه، وحركة المرور في تذاكر العودة، وفساد السلطات المحلية. تكشف الصورة القاتمة التي يرسمها لأواخر عهد الإمبراطورية العثمانية، ووصفه الشخصي للحج إلى مكة، عن العقلية الاستعمارية في ذلك الوقت. فيما تشكل المئة صورة التي التقطها خلال عبوره -أعيد نسخها في هذا الكتاب- شهادة ثمينة على تاريخ الحج إلى مكة والدوران في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر في بداية القرن العشرين.
ولد بول جيلوت في 28 تشرين الثاني 1857 في مدينة قسنطينة، غرب الجزائر، لعائلة من الأقدام السوداء. فهو الابن الأكبر للمحامي إيمانويل جيلوت. غادر يافعًا إلى فرنسا لنيل شهادة البكالوريا ثم دراسة القانون. ثم عاد إلى الجزائر عام 1877، وأدى خدمته العسكرية كملازم في الفوج الرابع في الجزائر العاصمة، بعد اجتياز امتحان ضابط الاحتياط بنجاح. ساهم نفوذ عائلته في انخراطه المبكر في صفوف الإدارة الاستعمارية. تم تعيينه كمساعد متدرب من الدرجة الثانية في كانون الأول 1880 في المناطق النائية لقسنطينة، وسرعان ما سعى للعب على نفوذ الأسرة من أجل الاقتراب من المناطق الأكثر تحضرًا على الساحل. بعد سنوات من الخدمة المحلية تقدم بطلب للحصول على رتبة مفوض حكومي مسؤول عن مرافقة الحجاج من دائرة وهران إلى مكة لأداء فريضة الحج عام 1905.
منذ الإشراف على حركة الحجاج الجزائريين إلى مكة، فضلت السلطات الفرنسية في الجزائر الطريق البحري على طرق القوافل التقليدية، مثل قافلة شمال إفريقيا الشهيرة (المحمل المغربي)، التي تنطلق من فاس على طول المنحدر الجنوبي للأطلس مرورًا بساحل قابس في تونس ومن هناك إلى القاهرة ثم البحر الأحمر. كان الطريق البحري بالنسبة للفرنسيين سريعًا وأكثر أمانًا، كما أتاح لهم كسب تأييد عدد من أعيان المسلمين من خلال منحهم امتياز السفر. وهذا ما دفع الجنرال بيجو، الحاكم العام للجزائر، أن ينظم في ست مناسبات، بين عامي 1842 و1847، حجًا رسميًا من أجل ضمان ولاء بعض الأعيان، ولتشتيت الأذهان عن المقاومة التي كان يقودها آنذاك الأمير عبد القادر. لكن جرى التخلي عن هذه المبادرة بعد خمس سنوات من التنفيذ بسبب تكلفتها. إلا أنها ساهمت في تعريف السلطات الاستعمارية بممارسات إدارة السفر، من خلال إنشاء جوازات المرور وتأكيد الوكالة القنصلية الفرنسية في جدة، التي أنشئت عام 1839، في إطار مهمتها لحماية الحجاج.
القنصلية الفرنسية في جدة
كانت السياسات الفرنسية الاستعمارية المتعلقة بالحج محكومةً بهاجسين، هاجس سياسي يتعلق أساسًا بخشية السلطات من أن يعود الجزائريون من مكة أكثر «تعصبًا» -وهو المصطلح المستخدم كثيرًا في التقارير الإدارية في ذلك الوقت- كأن يتأثروا بأي خطاب مناهض للاستعمار في الحجاز من منطلقات دينية أو قومية، أو ببساطة أن يستغلوا السفن المتجهة إلى الحجاز للفرار من الأراضي التي يحكمها غير المسلمين. وهاجس صحي، فقد تأثرت الحجاز منذ عام 1831 بشكل دوري بأوبئة الكوليرا التي تنتشر أثناء الحج. لاسيما وباء الكوليرا الكبير عام 1865 الذي اجتاح الحجاز -مخلفًا بين 15 إلى ثلاثين ألف قتيل من الحجاج- قبل أن يصل إلى مصر ثم أوروبا. بين عامي 1880 و1905، اتخذ 17 قرار حظر لأسباب صحية أو سياسية مرتبطة بالطاعون والكوليرا ومناخ انعدام الأمن الناجم عن القتال الذي قادته القوات الأنجلو-مصرية ضد ثورة الإمام المهدي في السودان. لكن في 26 تشرين الثاني 1904، بعد ملاحظة عدم وجود مخاطر صحية في الحجاز، قررت وزارة الداخلية الفرنسية أخيرًا السماح بحج المسلمين من الجزائر.
بمجرد تعيينه مفوضًا حكوميًا لحجاج وهران، شرع جيلوت بدايةً من 23 كانون الثاني 1905 في تدوين تقريره يومًا بيوم على متن الباخرة «أمريكا»، وهي سفينة بخارية تابعة لشركة الملاحة الفرنسية سيبريان فابر. وفقًا للسجلات الفرنسية بلغ مجموع حجاج شمال إفريقيا في ذلك العام حوالي 6400 حاجًا، موزعين على 2200 مغربي، و2326 تونسي، و1866 جزائري، ويرجع السبب الرئيسي في قلة العدد مقارنةً بالمشرق وأقصى الشرق، إلى صرامة إدارة الحج المفروضة من طرف الفرنسيين بذريعة المحاذير الصحية، والتي تدفع العديد من المغاربة إلى المغادرة سرًا إلى الأماكن المقدسة. وفي العام نفسه نزل حوالي 70 ألف حاج في ميناء جدة، بينهم 13 ألف مصري وثمانية آلاف من رعايا الدولة العثمانية و10 آلاف مسلم من آسيا الوسطى تحت الحكم القيصري.
مغادرة الحجاج السفينة أمريكا
عند قراءة الصفحات الأولى من تقرير جيلوت، لا يبدو أن مفوض الحكومة اختار الانحراف عن أسلوب الكتابة التي تحكم هذا النوع من الوثائق. لكنه في الوقت نفسه يكشف عن مواهب إضافية في تسجيل المشاهدات وتنويع المصادر وجمع البيانات التاريخية والصور الفوتوغرافية والشهادات الميدانية.
وصف جدة وعجائبها
في جدة على نحو خاص، حيث تصل السفينة البخارية «أمريكا» في السابع من شباط 1905، سيمارس جيلوت مواهبه الاستقصائية. على عكس أسلافه، فإنه لا يأخذ معلوماته عن المدينة من قصص الرحلات بل من خلال الملاحظة والشهادات المباشرة، وعبر التوثيق باستخدام التصوير الفوتوغرافي. التقطت نصف الصور التي يتضمنها التقرير في جدة، حيث أمضى جيلوت ثلاثة أسابيع طويلة بصحبة عدد من مواطنيه: ضباط الطيران، ومفوض الحكومة الفرنسية وخاصة تشارلز فيير، مدير القنصلية الفرنسية، التي كان مقيمًا فيها.
مكتب بريد جدة
وبالإضافة إلى الصور النادرة، ترك لنا جيلوت خريطة يدوية لمدينة جدة. يمكننا من خلالها تمييز التحصينات والبوابات الرئيسية وكذلك الخدمات العامة الرئيسية (دار البلدية، ودار قائم مقام المدينة، والمستشفى المدني والعسكري، والمدارس، والثكنات). أمضى جيلوت أيامًا يتجول في الشوارع معجبًا بالمنازل، التي وصفها بأنها «جواهر حقيقية»، ويتجاذب أطراف الحديث في المقاهي المغربية العديدة التي يذكرها، أو يتجول في الأسواق حيث يوجد، بجانب الصيارفة، تجار الأقمشة والعطور وغيرهم. وقد صُعق عندما وجد ألعابًا مصنوعة في ألمانيا يستوردها التجار الهنود. وإن لم تكن المؤشرات الطبوغرافية وأسماء المواقع الجغرافية التي يستخدمها المسؤول هي الأكثر دقة، فإن الصور المصاحبة لتعليقاته تتيح لنا فهمًا أفضل لطبيعة الحياة التي تميز المدينة الساحلية خلال موسم الحج.
يقول جيلوت واصفًا جدة:
«تُظهر المدينة من البحر بمآذنها البيضاء، مظهرًا مهيبًا: فهي محاطة بمربع من الجدران على بعد كيلومتر واحد من أحد الجوانب مع الأبراج والحصون. استُخدم أول هذه الحصون ثكنة لمفرزة من الجنود الأتراك والثاني أصبح سجنًا. توجد بالمدينة ثلاثة مداخل مطلة على البحر ولكن اثنين منها لم يعودا مستخدمين اليوم. عند الخروج من جناح الصحة، يعبر المرء ساحة ضخمة تُستخدم كمكان تخييم للحجاج عند الوصول والمغادرة. إنها، بعبارة أخرى، غرفة انتظار المدينة حيث يتوافد الحجاج من جميع أنحاء العالم، ولا بد من القول، إنها واحدة من مراكز العدوى الرئيسية. يدخل المرء إلى داخل المدينة من خلال بوابة الجمارك التي يرفع فوقها العلم العثماني. ثلاثة مساجد لها مآذن مرئية من البحر، وفي حالة عدم وجود إشارات تكون بمثابة علامة، يهتدي بها الملاحون والبحارة. أمّا المرفأ الداخلي، فربما يكون أحد أكثر الموانئ غير المسبوقة لطبيعة تكوينه. محمي جيدًا من جميع الرياح بخطوط الشعاب المرجانية بحيث يكون البحر هناك هادئًا نسبيًا حتى في الطقس القاسي. ومع ذلك، للوصول إلى هناك، لا يوجد سوى طريق واحد معترف به. إنه الذي يمر عبر خط من الشعاب المرجانية اتفقنا على تسميته «الباب الأوسط»، وهو الباب الوحيد الذي يمكن لسفينة مثل سفينة «أمريكا» أن تتبعه بأمان».
بوابة الجمارك في جدة
ثم يسترسل الكاتب في وصف حركة التجارة الكبيرة في المدينة، مستندًا إلى بيانات القنصلية الفرنسية في جدة، وإلى جولته في الأسواق. متابعًا بدقة جنسيات التجار والسفن التي ترسو تباعًا في ميناء المدينة. كما لم ينس أن يبدي إعجابه بتطور وسائل الاتصال مثل التلغراف، معيدًا ذلك إلى تلازم تطور التجارة في أي بلد مع تطور أدوات التواصل. كما أبدى إعجابه بتنظيم عملية تزويد المدينة بالماء الصالح للشرب، من خلال الصهاريج التي تنقل المياه من آبار معدة لهذا الغرض حفرت خارج المدينة، مع أنه لا يبدو راضيًا على نوعية المياه التي يصفها بـ«السيئة للغاية وغير صحية»:
«قامت الحكومة العثمانية بأعمال عظيمة لجلب المياه إلى جدة. عملت الآبار المزودة بمضخات عجيبة. يوجد في جدة، 200 صهريج خارج المدينة وحولها. صهاريج عملاقة، طويلة وعالية وعريضة بشكل مذهل، يمكن أن تحتوي على المياه لتزويد المدينة لمدة عامين. كانت رغبتي الكبيرة هي قياس سعة هذه الخزانات. كل محاولاتي للقيام بذلك ذهبت سدى. لإعطاء فكرة عن أبعاد هذه الصهاريج، إليك المعلومات التي تم جمعها من سائق القنصلية الفرنسية، وهو شخص يستحق التصديق. يكفي أن نقول إنه في أحد الأيام اكتشفنا جملين غرقا لمدة خمسة أشهر، يطفوان في هذه المياه مثل قطتين صغيرتين في حوض عادي».
لكن اللافت في التقرير هو ما كانت تزخر به مدينة جدة في مطلع القرن الماضي من مقاهٍ. يشير الكاتب إلى وجود عدد قليل من الساحات العامة تتركز فيها المقاهي التركية، مما يوفر للسكان أماكن للالتقاء. كما يوجد في المدينة عدد كبير من المقاهي المغربية، ولكن يسمح فيها فقط بالقهوة وتدخين النرجيلة مقابل عشرة سنتات. مما اضطر أصحاب المقاهي إلى تخصيص مكان داخلي كي يجلس فيه الكاتب مع مواطنيه الفرنسيين للغداء وشرب الخمر، لأن ذلك ممنوع على الرصيف. وقبل ذلك، كان على جيلوت الحصول على إذن من الجمارك لتمرير كمية من النبيذ، وفوقه رشوة لحراس الجمارك كما يقول. وفي مقدمة تقريره لا ينسى الكاتب أن يذكر بأن جدة، تعود تسميتها إلى جدة البشر حواء، التي يقال إنها نزلت من الجنة في ذلك المكان. لذلك يعود لاحقًا إلى هذه الأسطورة بعد زيارته قبر حواء المزعوم في المدينة.
مقهى تركي في جدة
يقع قبر حواء داخل مقبرة إسلامية محاطة بجدار. على بعد خطوات قليلة من الباب الأمامي، بين عمودين من الطوب، يوجد ضريح نشرت خارجه سجادة لتلقي القرابين. وفقًا للشرح الذي قدمه لنا مرشدنا، كان رأس حواء مستقرًا هناك، وعلى بعد ستين مترًا، قبة تمثل سرة أم البشرية. وسجادة جديدة مخصصة لهدايا الزوار. ثم جزء ثالث من القبر طوله حوالي 40 مترًا، يمثل القدمين. وفقًا للأسطورة، سيكون طول أمنا حواء 90 مترًا.
قبر حواء
عون الرفيق: شريف مكة وأحواله
يستمد الحجاز خصوصيته من ثنائية تنفيذية، شكلها الوالي (حاكم الحجاز)، وهو الممثل الإداري للدولة العثمانية، وشريف مكة، وهو زعيم سياسي وديني، ويصفه جيلوت بأنه «السيد الكبير لمراسم الحج». ورغم ظهور صورة عون الرفيق في تقريره، إلّا أن جيلوت لم يقابله شخصيًا ويفترض أنه حصل على معلوماته عنه من مدير القنصلية. الشريف عون الرفيق كان شخصية معروفة جيدًا للقناصل الغربيين الذين غالبًا ما يسعون للحصول على خدماته. في عام 1894، وصفه السفير الفرنسي في إسطنبول بأنه «شخصية قوية للغاية» تصنع حكامًا وتفككهم. يصفه البريطانيون بأنه «نشيط وماكر». لكن طبيعته الاستبدادية وعدالته التعسفية تثير انتقادات كثيرة، بدءًا من سجونه التي تشبه غرف انتظار الآخرة، كما يصفها أحد البدو الذي توفي عام 1902 في سجون الشريف بعد صراع عشائري، كما ينقل تقرير لوزارة الخارجية الفرنسية مؤرخ في 14 تشرين الأول 1902. لكن أكثر ما يسجله المراقبون الأوروبيون عنه هو «جشعه المخزي»، على حد تعبير القنصل البريطاني سيسيل وود. وهكذا يصفه جيلوت بأنه «الوسيط الكبير للسمسرة المنظمة على الحجاج من جميع أنحاء العالم»:
«علمت بشكل غير مباشر أن الشريف يتقاضى راتبًا يتراوح بين 30 و40 ألف فرنك شهريًا، ومع ذلك، فإن الشريف يزود الحكومة العثمانية، كل موسم حج بستة إلى سبعة ملايين. المطوّفون بين يديه بالكامل، كما يمتلك جميع الوسائل الرئيسية لنقل الحجاج (مثل السنبوك (قوارب شراعية صغيرة) والإبل».
ويشير جيلوت إلى الضغط الذي تمارسه إدارة الشريف على الحجاج لإجبارهم على استخدام خدمات سائقي الجمال على الطريق إلى المدينة المنورة. بالإضافة إلى تكلفته -كان من الممكن أن يرتفع سعر إيجار الجمال بمقدار النصف في أقل من عشر سنوات- يخضع هذا الطريق البري لغارات دورية من قبل القبائل البدوية. ولتهدئتهم، عقد الشريف معهم صفقة يحصلون بموجبها على الحبوب مقابل تأمين الطريق. وينقل الكاتب على لسان شاهد عيان من جدة قوله إن «الحقيقة المعروفة في جميع أنحاء الحجاز: ثلث الغنائم يحتفظ به البدو، والثلثان الآخران يتم التبرع بهما لخزائن الشريف».
قافلة حجاج من مكة تدخل جدة
نظرة استعمارية على الحج
على مدار التقرير، تظهر عنصرية الإدارة الاستعمارية وانعدام الثقة في السكان المسلمين. لذلك ينتقد جيلوت بشدة بعض الحجاج بسبب افتقارهم للولاء. إن مسألة ولاء الحجاج المسلمين هي موضوع متكرر في الأدبيات الإدارية للحج. تخشى السلطات الاستعمارية في الواقع أن يستغل الحجاج المسلمون حجهم، إما للهروب من الوصاية الفرنسية، أو للاقتناع بخطابات دينية من شأنها أن تضاعف من «تعصبهم» ضد المستعمر، أو تلقي أوامر «العصيان» من الشريف أو مبعوثي السلطان العثماني. ويظهر ذلك بوضوح أكبر عندما يتعلق الأمر بـ«حماية» الرعايا السابقين للسلطان مثل التونسيين، الخاضعين للاستعمار الفرنسي منذ عام 1881. كما يلاحظ جيلوت:
«إن التونسيين الراغبين في أداء فريضة الحج هم، مثل رعايانا الجزائريين، يحصلون على جواز سفر يجب أن يوافق عليه القنصل الفرنسي. ومع ذلك، في 24 شباط، كتب القائم مقام، نائب الوالي في جدة، إلى قنصل فرنسا للاحتجاج باسم السلطان ولإبلاغ هذا المندوب الدبلوماسي بأن الباب العالي لم يعترف بحماية فرنسا على المسلمين في تونس».
في الواقع، يجد العديد من الحجاج أنفسهم محرومين من أي حماية فعالة. في مواجهة عجزهم، غالبًا ما يميل القناصل الأوروبيون في الحجاز إلى الظهور كمدافعين عن الحضارة في مواجهة البربرية المفترضة للشرق. عند قراءة تقريره، فإن جيلوت ليس بعيدًا عن مشاركة وجهة النظر هذه.
جيلوت، القادم من عائلة علمانية راسخة، شديد العقلانية. يجد صعوبة في أن يرى في الحج أي شيء آخر غير تقليد ثقافي، مشيرًا بالقول إن «الحج إلى مكة عادة قديمة احتفظ بها الرسول لأنها كانت وسيلة لإتاحة الفرصة للمسلمين للقاء مرة واحدة في السنة بأعداد كبيرة وبالتالي تقوية أواصر الأخوة الدينية التي توحدهم». مثل هذا التصور منعه من الشعور بأدنى تعاطف مع الحجاج الذين يرافقهم. فعندما يستحضر فرحة الحجاج الذين يقتربون من الأماكن المقدسة، فإنه يشبهها بـ«إثارة ذهنية تقترب من الهذيان». وعندما يزور قبر حواء، ينزع نحو السخرية في الشعور والوصف. يبدو جيلوت مقتنعًا بأن التطور التاريخي سيؤدي حتمًا إلى تقليل اهتمام المسلمين بالحج. إلا أن التاريخ نفسه سيتعهد بإثبات عكس ذلك