شعر وشعراءمقالات

غُروب / أ. د. لطفي منصور

لِلْغُروبِ عِنْدِي إحْساسٌ آخَرُ.
أَشْعُرُ كَأَنِّي فَقَدْتُ شَيْئًا نَفِيسًا
لا يُوزَنُ بِثَمَنٍ . شُعُورٌ لَيْسَ عارِضًا، بَلْ قَدِيمٌ مُنْذُ الصِّغَرِ، عَمِيقٌ في الْفِكْرِ وَالرِّوحِ . لا أَعْرِفُ لَهُ سَبَبًا. إذا سَمِعْتُ جُمْلَةَ “غَرَبَتِ الشَّمْسُ” أُحِسُّ أَنَّها نَعْيُ يَوْمِ جَدِيدٍ مِنْ هَذا الْعُمْرِ الْمَكْتُوبِ، الَّذي يُعَدُّ عَلَيْنا دَقائِقَ وَساعاتٍ وَأَيّامًا وَأَسابيعَ وَأَشْهُرًا وَسِنِينَ. كُلُّها تَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ. فَالْعُمْرُ قَصِيرٌ مَهْما طالَ. كُلُّ شَيْءٍ مَعْرُوفَةٌ نِهايَتُهُ قَصِيرٌ. وَفي الَمَثَلِ :”الَّذِي يَنْقُصْ يَخْلُصْ”
قالَ زُهَيْرُ:
أَرَى الْعَيْشَ كَنْزًا ناقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ
وَما تُنْقِصُ الْأَيّامُ وَالدَّهُرُ يَنْفَدِ
فَإذا تَعاوَرَتِ الْأَيّامُ وَنَوائِبُ الدَّهْرِ عَلَى الْعُمْرِ يَنْتَهِي.
لا أَعْرِفُ لِماذا يَنْتابُنِي شُعُورٌ غَيْرُ مُرِيحِ وَقْتَ الْغُرُوبِ، هَلْ مِنٍ حُلُولِ الْمَساءِ وَهُجُومِ الظَّلامِ ؟ لَكِنْ هُناكَ أُمْسِياتٌ جَمِيلَةٌ لا تَقِلُّ جَمالًا عَنِ الْإشْراقِ . وَهُوَ السَّهُرُ وَالسُّهادُ وَالْبَرامِجُ اللَّيْلِيَّةُ.
وَأَخِيرًا اهْتَدَيْتُ إلى سَبَبِ هَذا الِانْكِماشِ النَّفْسِيِّ. وَجَدْتُ أَنَّهُ مَحْصورٌ في عامِلَيْنِ :
الْأَوَّلُ كَلِمَةْ “غُرِوب” نَفْسُها. تُثِيرُ عِنْدِي عَدَمَ الرّاحَةِ. كثِيرون منّا لا يَعْرَفُونَ كُلَّ مَعاني “غَرَبَ”، ومنٍها الذَّهابُ وَعَدَمُ الْعَوْدَةِ. فَإذا قُلْنا لِشَخْصٍ: اُغْرُبْ عَنّا أيْ اِبْتَعِدْ وَلا تَعُدْ. الْأَفْضَلُ أَنْ نَقُولَ: غابِتِ الشَّمْسُ، لِأَنَّ الْغائِبَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ كما قالَ شَوْقي:
وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَعُودُ يَوْمًا
إذا رُزِقَ السََلامَةَ وَالْإيابا
الْمُسافِرُ غائِبٌ نَتَرَقَّبُ عَوْدَتَهُ.
أمّا الْمُتَغَرِّبُ هُوَ الَّذي يَتَغَرَّبُ لِلْإقامَةِ.
فَمَعْنَى غَرَبَتِ الشَّّمْسُ مَضَى يَوْمٌ جَديدٌ لَنْ يَعُودَ. قالَ أَبُو العَلاءِ:
أَمْسِ الَّذي مَرَّ عَلَى قُرْبِهِ
يَعْجَزُ أَهْلُ الْأَرضِ عَنْ رَدِّهِ
الثّاني: النََوْمُ. النَّوْمُ لا يُحْسَبُ مِنَ الْعُمْرِ لِأَنَّهُ صِنْوُ الرَّدَى. كَما قالَ الْخَيّامُ في رُباعِيّاتِهِ:
ما فَتَقَ النَّوْمُ كُمامَ الشَّبابِ
أَفِقْ فَإنَّ النَّوْمَ صِنْوُ الرَّدَى
فَاشْرَبْ فَمَثْواكَ فِراشُ التُّرابِ
يا قَلْبُ كَمْ تَشْقَى بِهَذا الْوُجُودْ
وَأنا أَقُولُ:
هَلْ سَمِعْتَ الدِّيكَ طالَ الصِّياح
وَقْ بدا في الْأُفْقِ نُورُ الصَّباحْ
ما صاحَ إلّا نادِبًا لَيْلَةً
وَلَّتْ مِنَ الْعُمْرِ السَّريعِ الرَّواحْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق