الرئيسية
سبيطة، رواية للكاتب الفلسطيني عبد الله دعيس قراءة وتحليل: نزهة أبو غوش
في روايته سبيطة. بنى الكاتب المقدسي عبدالله دعيس في 432 صفحة، وبلغته القويّة الرّصينة؛ مدينة كبرى جنوب فلسطين، محاذية لصحراء سيناء؛ أسماها، سبيطة: برجالها ونسائها، وشيوخها ومسؤوليها، وبحرها وقوافلها، وكرومها، ومخلصيها، ومفسديها، ومساجدها وكنائسها، ورهبانها، وبسطائها….
لقد بنى هذه المدينة من محض خياله الجامح، الّذي صنع منه فانتازيا مشوّقة للقارئ.” تأتي الخيول الجسيمة الغريبة تصهل وتزأر من كلّ مكان، تطير في السّماء تنفث من أفواهها حمما”
اعتمد الكاتب دعيس على أحداث وأسماء تاريخيّة. قبل ألف عام تقريبا: عهد الأنباط، وأمراء بغداد، مدينة عبدة، واد الزوّاتين، الحاكم بأمر الله، الملك الحارث،… وبنى عليها أحداثا وصورا ببصمته الأدبيّة وما يحمل في داخله من فلسفة وتجارب خاصّة. ساعدت تلك الأمور سواء في نموّ مدينته، أو في هلاكها، في نهاية المطاف.
ماذا أراد الكاتب أن يوصل لقارئه؟ ش
أراد أن يكشف عن أسرار هذه المدينة، لماذا لم تعمّر طويلا؟ لماذا انهدمت على بعضها، وأصبحت كومة من الرّكام، بعد أن وصلت من العزّة عنان السّماء؟ هل هو سوء الإِدارة، هل هي الفتنة الّتي دمّرت وقسّمت المجتمع، هل هو الطّمع والجشع، أم هل هو الخنوع والطاعة العمياء لألي الأمر؟ هل هي عباءة الدّين الّتي لبسها بعضهم؛ أم هي الفرقة وعدم التجمّع على كلمة واحدة، أم هو القتل وقطع الرؤوس للأبرياء، أم كلّ هذه الاحتمالات مجتمعة؟ نعم هي كذلك فعلا.
لقد أراد كاتبنا أن يقول: مدينتي سبيطة قبل ألف عام، هي نفسها مدننا اليوم بعد ألفي عام؛ لذلك أرى أنّ الرواية
آمن القدماء بأنّ الخليفة هو ظلّ الله على الأرض، وهو المنفّذ لأقداره؛ وماذا يفعل زعماء هذا العصر في شعوبهم؟ ألم تكثر الفتن؟ ألم يكثر القتل؟ ألم يحتمِ الكثيرون تحت تلك العباءة؟ الرّواية إِذن رمزيّة بامتياز.
استطاع الكاتب عبدالله دعيس أن يسرد روايته بصبر وطول نفس؛ فاستخدم عدّة تقنيّات من أجل أن يطبّق خياله المفرز، منها: توظيف الشخصيّة الرئيسيّة – القاصّ – عيسى، الّذي تحدّث بصيغة ضمير الأنا، ويكنّى بمجنون سبيطة. إِنّ توظيف تلك الشّخصيّة ساعدت في اختراق الواقع والوصول إِلى أبعد حدود: تخترق الجبال والوديان وتقفز فوق الأسوار، وتحلّق بعيدا في تصوّراتها وأفكارها. عامله أهل المدينة كمجنون، فلا اثم عليه بما يفعل، أو يقول؛ لكنّ حكّام المدينة المتسلّطين عذّبوه وجلدوه دون رحمة. والغريب بالأمر أنّ هذا المجنون كان ينطق بالحكم والمنطق في بعض الأوقات، فهل كان يدّعي الجنون، أم أنّ النّوبات الجنونيّة كانت تفارقه أحيانا؟ ” ألم أكن أنا المطرقة التي هشّمت هذه الجرّة؟ وهل تُلام المطرقة ولا ينظر إلى بطشة يد حاملها!”
لم يتّضح تماما للقارئ الشعور الحقيقي، هنا نجد أنّ الكاتب أراد التّمويه لهدف ما بذاته.
في الرواية وضحت رؤية الكاتب المستقبليّة لمصير بيت المقدس” يأتي فوج من الغربان يحلّق حتّى يقف على أسوارها، وبيوتها، وينعق نعيقا مخيفا رهيبا”
“بيت المقدس التي اكتنفها الخراب، وباتت تنتظر مصيرا يأتيها من الغرب البعيد.”
الشّخصيّة الثانية، هي شخصيّة لؤلؤة القاصّ في حمّام المدينة، حيث كان يسرد الحكايات القديمة عن مدينة سبيطة: التّاريخ، حيث الولاة الّذين سجد لهم السّامعون وصفّقوا وهلّلوا، فقط عند سماع أسمائهم. على لسان الر ّاوي كانت تحبك القصص والرّوايات، وتلفّق، ويروّج لكلّ شيء يريده الكبار، وتحاك الأكاذيب، والخدع، والفتن والمؤامرات؛ فانقلب الحقّ باطلا صدّقه الجميع، والّذي على أثره طارت آلاف الرّقاب والرّؤوس البريئة.
كان لشخصيّة القاصّ لؤلؤة تأثيرا كبيرا على سامعيه. يقول عيسى” يقنعنا لؤلؤة القاصّ يوما أننا مجانين، وسنصدق ذلك! ألم نصدّقه بكلّ شيء؟
أرى أنّ ما كان يفعله القاصّ وأعوانه في ذلك الوقت، يشبه تماما ما يجري في الإِعلام العالمي في عصرنا هذا.
لقد أثارت إِعجابي فكرة الإِسقاط النّفسي الّتي خلقها الكاتب، في شخصيّة عيسى – مجنون سبيطة – حيث كان عيسى يلجأ إِلى كرم العنب، ( تليلات العنب) الّذي كانت كلّ دالية من العنب فيه محاطة بالحجارة، أو الرّجم؛ كي تنمو وسط الرّمال الصّحراويّة. لقد أبدع الكاتب في تصوير نفسيّة عيسى وقت الغضب، أو الحزن، أو الألم، أم الفرح؛ وقد سمى كلّ دالية على اسم أحد الأشخاص الّتي يعرفها؛ فكثيرا ما كان يحضن دالية الشّماء الّتي أحبّها، ويشكو لها همومه، وأسراره؛ ويبوح لها بحبّه الدّفين، ويمسح دمعها، وأحيانا يتغزّل. كم دمّر من رجوم ورمى حجارتها بعيدا وقصف أغصان الدّوالي ورماها بعيدا عندما كان يغضب من أحدهم، وكم بكى أمام دالية الرّاهب يوحنا، أو الشّيخ نور الدّين شاكيا لهم ألمه وظلمه.
للكاتب كما نلاحظ بين سطور الرواية رؤيته الفلسفيّة، وقوّة الإِيمان بالقضاء والقدر “هذه الحياة غامضة رغم كلّ حواسّنا ومداركنا، أشعر أحيانا أنّنا نعيش دورا مرسوما لنا ونسلك نهجا قادنا إليه القدر دون أن يكون لنا خيار” كما أنّنا نشعر بتلك النّفحات الدّينيّة الصادرة من الأعماق، والاستشهاد بالآيات القرآنيّة “: “وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا.”
الوصف: لقد وصف الكاتب عبد الله دعيس شخصيّاته من الدّاخل والخارج بشكل مباشر؛ بينما شخصيّة عيسى فقد أبدع في وصفها من خلال الأحداث والحوار الذّاتي، فأوصل للقارئ ما بداخله من تقلّبات نفسيّة.
إِن استخدم الكاتب لأسلوب الحوار الذّاتي، خاصّة على لسان عيسى بطل الرّواية، فهو الحكيم والمجنون في آن واحد. من خلال هذا الحوار، يمكن للقارئ أن يستوحي عدم جنونه، بل ادراكه وحكمته، وهو في الوقت نفسه يطلب من الله أن يبعد عنه هذا الجنون؛ كأنّه مدرك تماما لجنونه، لكنّه يصعب عليه التّخلّص منه؛ وهذه كما أرى، حالة غريبة لم تُعرف في علم النّفس من قبل.
مثال على أحد الحوارات:
“إن كان هذا مصيرنا فلمَ نتصارع؟ لـــِمَ نزهق أرواحا، ثمّ لا نلبث أن نتبعها إلى عالمها العلويّ ويكون مصيرنا كمصيرها؟ كيف ينسى الإنسان نهايته ويتربّع على الدّنيا وكأنّه سيتملّكها أبد الدّهر”ص155.
في رواية سبيطة، مضى بنا الكاتب عبر الزّمن الف عام للمستقبل؛ فوصل بيت المقدس وشاهد ما شاهد من أسر وقيود وتسلّط على العباد أهل البلاد.