بارعات العالم العربيمقالات

المضيّ قدما في طريق الحياة، في رواية طيور المساء(2021) للكاتبة أسمهان خلايلة

قراءة الدكتورة روز اليوسف شعبان

طيور المساء رواية للكاتبة أسمهان خلايلة ، إصدار دار الهدى كفر قرع، أ. عبد زحالقة

. تدوّن الرواية مجزرة كفر قاسم التي نفّذها بعض الجنود الإسرائيليين بحقّ تسعة وأربعين عاملًا وذلك في 29/5/1956حين كانوا عائدين في ساعات المساء من عملهم، وكانت السلطات قد فرضت حظر تجوّل، لكنّ العمال لم يعلموا بذلك، فتعرّض لهم الجنود وأطلقوا النيران عليهم، وقد نجا من العمّال امرأة ورجل، قاما بسرد هذه المذبحة على سكان القرية.
فارس هو شابّ من قرية كفر قاسم، قرّر أن يكتب رواية توثّق المجزرة ويوزّع الرواية على الأهالي في العرس الجماعي الذي قرّرت القرية ان تقيمه في نفس تاريخ المجزرة، بحيث يزفّ في العرس الجماعي 49 عريسا وعروسا بعدد شهداء المجزرة، وذلك تخليدًا لذكراهم ولبث رسالة أنّ الحياة أقوى من الموت،:” بعد اليوم لن نحيي ذكرى المجزرة بالبكاء والرثاء، ولن نتذكّر شهداءنا بالدموع فقط. بل سنمضي قدما في طريق الحياة”. ص 147.
ذهب فارس إلى بيت هنا المرأة الناجية الوحيدة من بين أربع عشرة عاملة، كنّ في طريق عودتهنّ الى القرية بعد يوم شاق في مستوطنة بجانب قريتهم. في بيت هنا سجل فارس في آلة التسجيل كل ما حكته هنا عن المجزرة :” بعد العصر بقليل في حوالي الثالثة والنصف اقتحم العساكر القرية يتقدمهم بعض الضباط، توجهوا الى بيت المختار، طلب الضابط من المختار أن يعلم الناس بأمر حظر التجوّل وأن كل من يتأخر عن الساعة الخامسة مساء لن يتحمل الجيش مسؤولية تعرضه لأي مكروه وسيطلق الجنود النار عليه دون تردّد. طلب المختار من الأهالي تبليغ العمال بالعودة فورا الى القرية. ص 103-104.
توزع الجنود في القرية ثم سمع صوت اطلاق نار وحين خرج الشباب لرؤية ما حدث اتّضح لهم ان الجنود أطلقوا النار على أرملة كانت تخبز في الطابون بعد أن اغتصبوها بوحشيّة. ص 108-109.
تتابع هنا روايتها فتقول: “يومها كنا مروحات من الشغل طلب الجنود من السائق محمود أن يقف وطلبوا منا النزول من السيّارة وما أن أتّمت البنات نزولهن من السيّارة حتى صرخ أحدهم: انتباه كان صوته يشبه نهيق الحمار. اطلقوا النار! ولعلع الرصاص اهتزت الأرض كأنّها تنوح تحت أقدامهن وخيوط دمائهن القانية تنساب لتروي عطشها، واستمرّ زخ الرصاص ينهمر على الفتيات وقد شكّلن دائرة هي حلقة رقصهنّ الأخيرة “.ص 118 -119
وقد وصلت أحداث المجزرة الى مسامع عضوي الكنيست (ماير فلنر )وتوفيق طوبي من الحزب الشيوعي، فحضرا إلى كفر قاسم واجتمعا ببعض الأهالي، كتبا تقريرا مفصلا عن المجزرة وعمما التقرير على وسائل الاعلام. ص 149..
ورد في الرواية أيضا وصفا مفصلا لظروف الحياة الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها أهالي كفر قاسم، إضافة إلى ظروف تعليميّة صعبة ومجحفة، غرف مستأجرة صغيرة وأثاث قديم، أما المعلّم مروان(والد فارس) فقد تمّ تعيينه في مكان بعيد عن كفر قاسم بسبب انتمائه للحزب الشيوعي وكانت السلطات تلاحقه وقد اعتقلته ذات مرّة وعذّبته.
تتطرّق الكاتبة أسمهان أيضا الى دور المرأة الفلسطينيّة في حفظ الذاكرة الفلسطينيّة فتقول على لسان الراوي:” كانت هنا( الناجية الوحيدة من النساء في المجزرة) كثيرا ما تبكيهم، وهذا ما شجع فارس أن يتوجه اليها ولم يتوجّه إلى أحد الرجال الناجين من المجزرة، فهو يؤمن أن المرأة قادرة والذاكرة النسويّة غنيّة ولم تأخذ حقها في رواية قصص الأبطال والثوّار وغيرهم. فالرواة معظمهم كانوا من الرجال، وفارس كغيره من المثقفين وغير المثقفين يؤمن بصلابة المرأة الفلسطينيّة وقدرتها على الصمود والتعاون مع زوجها في الأعمال الشاقّة المضنية التي تقوم بها متنقلة بين الأرض وأعمال الزراعة المختلفة، وشغل البيت إضافة الى تربية الأولاد، “طاقة جبارة ومتفجرة هي المرأة”، هكذا كان فارس يؤمن”. ص 14.
يبدو في الرواية أيضا الفكر اليساري الذي يؤمن بإمكانية العيش المشترك والتعاون بين اليهود والعرب، :” التحق مروان بنقابة المعلمين وتمكن من التواصل مع بعض الزملاء اليهود في النقابة من الذين يؤمنون بحق العرب في المساواة والحياة الكريمة وهو بدوره تعاون معهم لاعتباره أن العمل المشترك أكثر نجاعة واقناعا”. ص 68.
لم تغفل الكاتبة ذكر سياسة جمال عبد الناصر وتأميمه لقناة السويس كما نرى في الحوار التالي بين مروان وابو العبد:” سمعت يا مروان انه عبد الناصر رح يشتري السلاح من الاتحاد السوفييتي. هذا زعيم بحق وحقيق شجاع وجريء الله يقّدره ويقف بوجه الاستعمار من ثلث شهور أمّم القناة ومن يومها وهني بترصدوله مش رح يسكتوا أكيد رح يدبروله اشي.
– افتح الراديو يا أبو العبد خلينا نسمع الأخبار. انبعثت الأصوات تهتف بحياة ناصر..”. ص 75-76.

المكان في الرواية:
يعتبر المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة.
يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ السرديّة، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله.( الطويسي، 2004، ص. 167. )
ويبرز البعد النفسانيّ للمكان داخل النصّ، فالمكان ليس أبعادًا هندسيّة وحسب، إنّما هو المكان المصوّر من خلال خلجات النفس، وتجلّياتها، وما يحيط بها من أحداث ووقائع.( النابلسي، 1994، ص. 16. ) إلى جانب الأبعاد الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تكون وثيقة الصلة بالمكان، من دون أن تنفصل عنه. حتّى أنّ المكان الذي يسكنه الشخص مرآة لطباعه، فهو يعكس حقيقة الشخصيّة، ومن جانب آخر فإنّ الحياة الشخصيّة تفسّرها طبيعة المكان الذي يرتبط بها”.( قاسم، 1984، ص. 84. ).
وقد ظهرت في الرواية الأبعاد الاجتماعيّة والتاريخيّة للمكان وذلك من خلال الحوارات بين الشخصيّات ومن خلال الأغاني والأمثال الشعبيّة وكل ما يتعلّق بالتراث الفلسطينيّ وطبيعة الحياة في القرية. فنجد مثلا وصفا دقيقا للحياة الاجتماعيّة وللبيئة الزراعيّة في القرية كما في الاقتباس التالي الذي جاء على لسان هنا:” أيام الصيف نزرع خضرة وبأوّل الشتا قمح وشعير وسمسم وحمّص، وبآخر الصيف ننزل عكروم الزتون، نقضّي شهر في القطف وجمع الموسم، لا كان سيارات ولا ماكينات تجمع حبّ الزتون، وأخوي وحيد، مسكين لولا مساعدة اولاد عمّي وبنات خالتي ما كان ممكن نخلّص بشهرين…. كبرت وصار عندي صاحبات من هالقرايب وبنات الجيران، واشتغلنا سوا في السهول، نقطف البندورة ونجمع البطاطا، هالأرض أرضنا صرنا نشتغل فيها بالأجرة مثل عبيد السخرة”. ص 24.
:” كنا نجمع مؤونة البيت ونعبّيها بالجرار ونخزّنها. قمح وطحين وبرغل وفريكة وزبيب وقطين، البيتنجان والبندورة كنا نشّفهن كمان وندفنهن تحت التبن والقش والبامية والثومات إنشكهن قلايد ونعلقهن. ص 24-25.
وفي وصف الرواية للمكان في قرية كفر قاسم، نستدل على طبيعة القرية، وعمل سكانها والعلاقات الاجتماعيّة بينهم كما نرى في الاقتباس التالي:” كانت كفر قاسم موسومة بطابع الحقبة الزمنية التي تعيشها، خلو المساحات حول القرية، وتمركز السكان في بقعة واحدة، في بيوت متقاربة يتوسّطها مسجد صغير. على أطراف القرية خاصة من جهة الغرب يمتدّ سهل من الأراضي الزراعيّة الخصبة، يملكها معظم أهالي القرية والقرى المجاورة، يفلحونها ويعتاشون من خيراتها. وصباح كل يوم صيف شتاء ، كانوا مع بعض دوابهم، يتتبّعون خطوات الفجر إلى حقولهم.”.ص 52.
وفي وصف الساردة لقرية برطعة التي عّين أبو فارس ليعلّم فيها، نقف على ظروف التعليم الصعبة وسياسة الدولة في تقسيم برطعة الى قسم اسرائيلي وآخر أردني :” بدأ أبو فارس عمله كمعلّم مبتدئ عام 1954 في قرية برطعة وسط فوضى عارمة وضياع يحتاج إلى الكثير من التضحية والصبر. الكتب المدرسيّة شحيحة وكتب المطالعة نادرة الوجود ووسائل الايضاح المطلوبة لدعم الطلاب والمعلّم غير متوفرة. يمشي التلاميذ مسافات طويلة للوصول إلى المدرسة، ملابسهم رثّة كثيرة الرّقع. معظم أهاليهم فقراء يعملون في البناء يبنون بيوتا للقادمين الجدد، بينما هم يعيشون في ظروف أقرب إلى القرن الماضي”. ص 59-60.
لقد اصطبغ مكان المجزرة بدماء الشهداء وجاء المكان هنا ليجمع الألم والحزن والقهر والنواح وليعكس مأساة قرية بأكملها :” لكن كومة الجثث ببشاعة منظرها أصبحت ماثلة أمامهم في ساحة القرية. الشهداء غرقى بدمائهم ، ونصبت النسوة حلقات النواح والندب والتصفيق للعرسان الذين ترجّلوا عن خيولهم قبل انتهاء مراسيم الزواج:” سبّل عيونه ومد ايده يحنونو” “خصره رفيّع وبالمنديل يضمونه”. ص 140.
اللغة في الرواية:
هي القالب الذي يصّب فيه الروائيّ أفكاره، ويجسّد رؤيته في صورة مادّيّة محسوسة، وينقل من خلاله رؤيته إلى الناس والأشياء من حوله( تاورتة، 2004، ص. 52. ). فباللغة تنطلق الشخصيّات، وتتكشّف الأحداث، وتتّضح البيئة، ويتعرّف القارئ إلى طبيعة التجربة التي يعبّر عنها الكاتب( عسيلي، 2012، ص. 287. ). هكذا فإنّه بواسطة اللغة يتعرّف المتلقّي، مثلًا، إلى أعماق الشخصيّة الروائيّة التي تحمل الأفكار والرؤى التي يهدف الكاتب إلى طرحها، ويتعرّف القارئ، قبل ذلك، إلى الصورة الخارجيّة لهذه الشخصيّة، وإلى مكانتها الاجتماعيّة ومواقفها من الأحداث والناس، وبالتالي إلى مدى إيجابيّة الشخصيّة أو سلبيّتها. كما يتعرّف القارئ، بواسطة اللغة أيضًا، إلى البيئة، وإلى الجوّ العامّ الذي يطرح من خلاله الموضوع في الرواية، أو في أيّ عمل أدبيّ يكتبه كاتب أو قارئ أو متلقٍّ.( تاورتة، 2004، ص. 52. ).
تنوعت مستويات اللغة في رواية طيور المساء، فقد جاءت باللغة الفصحى خلال السرد وباللغة المحكية خلال الحوارات بين الشخصيّات. كما عكست اللغة الجوانب الثقافيّة والاجتماعيّة والتراثيّة لسكّان القرية. فنجد الكثير من الأمثال الشعبيّة والاغاني منها أغاني الاعراس، الطهور وغيرها من الامثال الشعبيّة:” الدار دار أبونا وأجو الغرب طحونا” ص 74.:” شو اللي رماك على المرّ اللي أمرّ منه”. ص 94. . من أغاني الطهور:” يا مطهّر الصبيان يا قاعد ع السنسول لا توجّع فارس محبّة بالرسول “. ص 83. ومن الأغاني الشعبية:” جفرا ويا هالربع بين البصل الاخضر مكتوب ع جبينها كعكبان وسكر
هي يا راعي الجفرا والجفرا راعيها ومطرح ما كان الوعد وحياتك لاقيها”. ص 96.
بالرغم من الواقعية التي أضفتها اللغة المحكيّة في الرواية إلا أنها جاءت أكثر مما ينبغي مما قد يشكل ذلك خطرا على لغتنا الفصحى.
إجمال:
طيور المساء رواية الألم الفلسطيني، لمجزة نفّذت في مجموعة من العمال والعاملات، بدون ذنب اقترفوه، وبدون وازع من ضمير وإنسانيّة بمن نفّذ هذا العمل الاجرامي.
هي رواية تنزف ألما وتقطر حسرة على أرواح بريئة أُزهقت، وأرض اغتصبت، وحق طوي في صفحات التاريخ، لكنّ الذاكرة تأبى النسيان، فتستعيد المأساة وتتذكر المجزرة بتفاصيلها الدقيقة، لتبقى هذه الذكرى الأليمة خالدة في نفوس سكان كفر قاسم وكافة شرائح الشعب الفلسطيني، ولتبقى الطيور تحلّق في الآفاق باحثة عن أمل ونور يبدّد وحشة المساء.
المراجع:
تاورتة، 2004​​تاورتة، محمّد العيد (2004)، “تقنيّات اللغة في مجال الرواية الأدبيّة”، مجلّة العلوم الإنسانيّة، الجزائر: جامعة منتوري، ع. 21، حزيران.
الطويسي، 2004​​الطويسي، محمود (2004)، “الفضاء الروائيّ عند غالب هلسا رواية (سلطانة)”، وعي الكتابة والحياة: قراءات في أعمال غالب هلسا، مجموعة كتّاب، عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، ص. 166-195.
عسيلي، 2012​​عسيلي، ثريا (2012)، أدب عبد الرحمن الشرقاوي، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.
قاسم، 1984​​قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق