شعر وشعراء
أ.د. لطفي منصور جُمْلَةٌ مِنَ الأَمْثالِ الشِّعْرِيَّةِ:
فيها فائِدَةٌ عُظْمَى أَدَبِيَّةٌ وَلُغَوِيَّةٌ وتاريخِيَّةٌ، اخْتَرْتُها لَكُمْ مِنْ عُيونِ الأدَبِ الْعَرَبِيِّ الْجَمِيلُ.
ما هُوَ الْمَثَلُ؟ الْمَثَلُ هو جُمْلَةٌ أو بَيْتُ شِعْرٍ لَهُ قِصَّةٌ فِيها عِبْرَةٌ. وهُوَ نِتاجُ الْحَضارَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالتَّجْرِبَةِ الإنْسانِيَّةِ. وَهُوَ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّة، يُتَمَثَّلُ بِها عِنْدَما يَحْدُثُ أَمْرٌ يُشْبِهُ مَضْمُونُهُ قِصَّةَ مَثَلٍ ما، عِنْدَئِذٍ يُذْكَرُ الْمَثَلُ.
وَقَدِ اشْتَهَرَ الْعَرَبُ قَدِيمًا بِضَرْبِ الأَمْثالِ التي تَكْشِفُ لَنا جَوانِبَ مِنَ الْحَضارَةِ العربيَّةِ القَديمَة، كَنَمَطِ حَياتِهِمْ، وَمَنْهَجِ تَفْكيرِهِم، وَنَظْرَتِهِمْ إلَى الْحَياةِ، وَقَدْ صِيغَتْ بِلُغَةٍ فَصِيحَةٍ عالِيَةٍ.
وَأَشْهَرُ الأَمْثالِ ما كانَتْ شِعْرًا وهيَ أَبْلَغُ، وَهِيَ أَقَلُّ بِكَثيرٍ مِنْ أَمْثالِ الْجُمَل. وَقَدْ عُنِيَ الدَّارِسونَ الْعَرَبُ بِتَحْقيقِها وَطَبْعِهاوَأَشْهَرُها:
كتابُ الأَمثالِ لِلْمَيْداني مُجَلّدَيْنْ ضّخْمَيْنِ، وَجَمْهَرَةُ أَمْثالِ العَرَب لِأَبي هِلالِ الْعَسْكَرِيِّ بُمُجَلَّدَيٍنِ، والمُسْتَقْصَى في أمْثالِ الْعَرَبِ بِمُجَلَّدَيْنِ لِلزَّمَخْشَري صاحبِ التَّفْسِير القُرْآنِيِّ الْمَعروف، وَكَثيرٌ كَثير؛ وفي مَكْتَبَتِي لا يََقِلُّ عَنْ عِشْرينَ مُجَلَّدًا في الأَمْثالِ القَديمَةِ التي تُغَطِّي الْعُصُورَ الأَدَبيَّةَ الثَّلاثَةَ الأُولَى. هذا بِالإضافَةِ إلَى الأمْثالِ الشَّعْبِيَّةِ،وَلِكَلِّ قُطْرٍ عَرَبِيٍّ أمْثالُهُ الْخاصَّةُ بِهِ مَعَ تَشابُهٍ في كَثيرٍ مِنَ المَوادِّ اللُّغَوِيَّةِ.
أَبْدَأُ بِأَبْياتٍ في الْمواعِظِ وَالأَمْثالِ لِشاعِرٍ مَجْهولٍ (العقد الفَريد، كتابُ الجَوْهَرَةِ، مجلَّد 3:138 ): من الطَّويل
– إذا كُنْتُ لا أَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ مِنْ أَخٍ
وَقُلْتُ أُكافيهِ فَأَيْنَ التَّفاضُلُ
(التَّفاضُلُ: فَأَيْنَ فَضْلِي عَلَيْهُ، فَأَنا مِثْلُهُ)
– فَإنْ أَقْطَعِ الْإِخْوانَ في كُلِّ عُسْرَةٍ
بَقِيتُ وَحِيدًا لَيْسَ لِي مَنْ أُواصِلُ
– وَلَكِنَّنِي أُغْضِي الْجُفونَ عَلَى القَذّى
وَأَصْفَحُ عَمّا رابَنِي وَأُجامِلُ
(الْفَذَى: ما يَعْلُو عَيْنَ الْماءِ من شَوائِبَ، كَالْقَشِّ وَالتُّرابِ وَذَرْقِ الطَّير. وخاصَّةً في الصَّحْراءِ، فالْعَطِشُ إذا لم يُغْمِضْ عَيْنَيْهِ وَيَتَقَبَّلِ الْمَوْجُودَ وَيَشْرَبُ يَقْتُلْهُ الظَّمَأُ. وَوَجَدْتُ مِثْلَ هَذا عِنْد بِشّار الذي يَقولُ: منَ الطَّويل
إذا أَنْتَ لَمْ تشْرَبْ مِرارًا عَلَى الْقَذَى
ظَمِئْتَ وَأَيُّ النّاسِ تَصْفُو مَشارِبُهْ؟)
– مَتَى ما يَرِبْنِي مِفْصَلٌ فَقَطَعْتُهُ
بَقِيتُ وَما لِلنُّهُوضِ مَفاصِلُ
(مَتَى: اسْمُ شَرْطٍ مُبْتَدَأ جارِمٌ لِفِعْلَيْنِ يُفيدُ الزَّمانَ، ما : زائِدَةٌ، يَرِبْنِي: مُضارِعٌ مَجْزُومٌ وَفاعِلٌ وَمَفْعُولٌ. والْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ “بَقِيتُ” جَوابُ الشَّرْطِ، ومَجْموعُ جُمْلَتَيْ الشَّرطِ والجواب في مَحَلِّ رَفْعٍٍٍ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَإ مَتَى)
– وَلَكِنْ أُداويهِ فَإنْ صَحَّ سَرَّنِي
وَإنْ هُوَ أَعْيا كانَ فيهِ التَّحامُلُ
( التَّحامُلُ: الضَّغِينَةُ)
وَقالَ أَبُو فِراسٍ: البسيط
– تَرْجُو النَّجاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسالِكَهَا
إنَّ السَّفينَةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
وِقالَ آخَرُ: الطّويل
– مَتَى تَنْقَضِي حاجاتُ مَنْ لَيْسَ صابِرًا
عَلَى حاجَةٍ، حَتَّى تَكُونَ لَهُ أَخْرَى
وَأَعْظَمُ الشُّعَراءِ ضَرْبًا في الأَمْثالِ أَبو الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، وَمِنْ مُعْجِزاتِهِ ضَرْبُ مَثَلَيْنِ في بَيْتٍ واحِدٍ كَقَوْلِهِ: البسيط
– شَرُّ الْبِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهْ
وَشَرُّ ما يَكْسِبُ الإنْسانُ ما يَصِمُ
وَيَقُولُ: بالوَزْنِ نَفْسِهِ
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً
أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ
– وَما انْتِفاعُ أَخِي الدُّنْيا بِناظِرِهِ
إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأَنْوارُ وَالظُّلَمُ
وَقالَ: من البسيط
– ما كُلُّ ما يَتَمَنَّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ
تَجْري الرِّياحُ بما لا تَشْتَهِي السُّفُنُ
وَشَبَّهَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ بالبَحْرِ، وَشَبَّهَ الْمُلُوكَ الآخَرينَ بالرَّمْلِ حَيْثُ قالَ: الطَّويل
– وَزارَكَ بِي دُونَ الْمُلوكِ تَحَرُّجِي
إذا عَنَّ بَحْرٌ لَمْ يَجُزْ لِي التَّيَمُّمُ
وَقال: الطَّويل
– قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيْرِهِ
وَمَنْ قَصَدَ الْبَحْرَ اسْتَقَلَّ السَّواقِيا
أَكْتَفي إلى هُنا وَأُوصيكُمًْ بالقِراءَةِ بِهذا الجانر (jener)مِنَ الأَدَبِ الذي لا مَثِيلَ لَهُ في الآدابِ الأُخْرَى.