كِتابُ الِاخْتِيارَيْنِ صَنَعَهُ الْأَخْفَشُ الْأَصْغَرُ (ت ٣١٥ هج). عِنْدَنا في الْأَدَبِ الْقَدِيمِ
ثَلاثَةُ عُلَماءَ كِبارٌ لُقِّبُوا بِالْأَخْفَشِ. والْخَفْشُ ضَعْفُ الْبَصَرِ خِلْقَةً، وَهُمْ:
الْأَخْفَشُ الْأَكْبَرُ (ت ١٧٧ هج) وَهُوَ أَبُو الخَطّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ ابنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، وُلِدَ في هَجَرَ في الْبَحْرَيْنِ. وَانْتَقَلَ إلى الْبَصْرَةِ وَسَمِعَ مِنْ أَبي عَمْرِو ابْنِ الْعَلاءِ، وَأَخَذَ عَنِ الْأَعْرابِ، كانَ نَحْوِيًّا أَخَذَ عَنْهُ عُلَماءُ الْبَصْرَةِ، وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ، وَاشْتُهِرَ بِذَلِكَ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ شَرَحَ الشِّعْرَ تَحْتَ الْبَيْتِ، وكانُوا يَشْرَحُونَ الْقَصِيدَةِ في نِهايَتِها.
الْأَخْفَشُ الْأَوْسَطُ (ت ٢١٥ هج) هُوَ أَبُو الْحَسَنِ سَعيدُ بنُ مَسْعَدَةَ الْبَصْري، أَصْلُهُ مِنْ بَلْخٍ ، كانَ مَوْلَى بَنِي دارِمِ بْنِ تَمِيمٍ رَهْطِ الْفَرَزْدَقِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ الثَّلاثَةِ، لَهُ مَعاني الْقُرْآنِ.
فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِالْعَرَبِيَّةِ، مُبْتَعِدًا عَنِ الٍحَديثِ وَالْقَصَصِ والْإسْرائيلِيّاتِ، وَفَتَحَ الطَّريقَ بِذَلِكَ لِلزَّجّاجِ والزَّمَخْشَرِي وَغَيْرِهِما.
الْأَخْفَشُ الْأَصْغَرُ (ت ٣١٥هج)
صاحِبُ الْكِتابِ الَّذي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، هُوَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ ابنِ الْفَضلِ، وُلِدَ في بَغْدادَ، وَأَخَذَ عَنِ الْمُبَرِّدِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزيدَ الْبَصْرِيِّ كِتابَهَ “الْكامِل”، وَعَنْ أَبي الْعَبّاسِ ثَعْلَبٍ الْكُوفِيِّ مَجالِسَهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ مَدْرَسَتَيٍ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ مَعًا في الْمَدْرَسَةِ الْبَغْدادِيَّةِ.
اِهْتَمَّ الْخُلَفاءُ الْعَبّاسِيُّونَ في الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِالشِّعْرِ وَالْأَدَبِ. فَهذا أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصورُ يَسْتَدْعِي الْعالِمَ الْكَبِيرَ الْمُفَضَّلَ الضَّبِيَّ لِيُعَلِّمَ ابْنَهُ الْمَهْدِي وَلِيَّ الْعَهْدِ الْعَرَبِيَّةَ والشِّعْرَ، وَأَنْ يَخْتارَ لَهُ مِنْ شِعْرِ الْمُقِلِّينَ الَّذينَ يَهْتَمُّونَ بِالْقَصيدَةِ، فَجَمَعَ لَهُ ما يُعْرَفُ بِالْمُفَضَّلِيّات وهي مَطْبُوعَةٌ.
ثُمَّ جاءَ الرَّشيدُ وَاسْتَدْعَى الْأَصْمَعِيَّ لِيَخْتارَ مِنَ الشِّعْرِ أَحْسَنَهُ لِيُعَلِّمَهِ لَوَلَدِهِ الْأَمِينً، تَمامًا كَما فَعَلَ جَدُّهُ مَعَ والِدِهِ فَاخْتارَ قَصائِدَ الْأَصْمَعِياتِ، وَهِيَ مَطْبوعَةٌ أَيْضًا.
وَكانَ الْأَخْفَشُ الْأَصْغَرُ بَعْدَ قَرْنٍ مِنَ الزَّمانِ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى الِاخْتِيارَيْنِ ، فَعَمِلَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُما وَشَرْحِ هَذا الْجَمْعِ شَرْحًا وافِيًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ “كِتابُ الِاخْتِيارَيْنِ”.
ثُمََ قامَتْ مُؤَسَّسَةُ الرِّسالَةِ في بيروتَ بِطَبْعَ الْكِتابِ بِتَحْقيقِ الدُّكْتور فخر الدين قباوَة سَنَةَ 1974م طَبْعَةً عِلْمِيَّةً ضَمَّتْ 788 صَفْحَةً مَعَ كُُلِّ الْفَهارِسِ اللّازِمَةِ وَالْمُفِيدَةِ.
وَقَدْ اخْتَرْتُ قَصيدَةً مِنْ هذا الْمَجْمُوعِ النّادِرِ لِطَرَفَةَ بنِ الْعَبْدِ غَيْرَ مُعَلَّقَتِهِ.
يُلَقَّبْ بِشاعِرِ الْعِشْرِينِياتِ، لِأَنَّهُ أُعْدِمَ شابًّا في الْبَحْرِين بِأَمْرٍ مِنْ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ مَلِكِ الْحِيرَةِ.
لا أُومِنُ بِهَذِهِ الرِّوايَةِ، لِأَنِّي قَرَأْتُ رِوايَةً أُخْرَى تَقُولُ: قُتِلَ في الثَّلاثِينِيّاتِ مِنْ عُمْرِهِ، لِأَنَّهُ لا يُعْقَلُ أَنَّ ابْنَ الْعِشْرِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْظُمَ مُعَلَّقَةً مِثْلَ قَصيدَةِ طَرَفَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ عُيُونِ الشِّعْرِ الْعَرَبي. وَأَنَّ بَيْتَ أُخْتِهِ الْخِرْنِقِ :
عَدَدْنا لَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حِجَّةً
فَلَمّا تَوَفّاها اسْتَوَى سَيِّدًا فَخْما
هذا الْبَيْتُ يَبْدُو عَلَيْهُ الصِّناعَةُ وَالرَّكاكَةُ.
الْقَصيدَةُ: مِنْ بَحْرِ الطَّوِيل
– قِفِي وَدِّعِينا يا ابْنَةَ مالِكٍ
وَعُوجِي عَلَيْنا مِنْ صُدُورِ جَمالِكِ
(عوجِي: اِعْطِفِي)
– قِفِي لا يَكُنْ هَذا تَعِلَّةَ ساعَةٍ
لِبَيْنٍ وَلا ذا حَظَّنا مِنْ نَوالِكِ
(التَّعِلَّةُ: ما يَتَعَلَّلُ بِهِ الْإنْسانُ لِيَهْدَأَ، الْبَيْنُ: الْفَراقُ)
– أُخَبِّرْكِ أَنَّ الْحَيَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ
نَوًى غُرْبَةٌ ضَرّارَةٌ لِي بِذَلِكِ
(النَّوَى: الْبُعْدُ، ضَرّارَةٌ: ضَرَرٌ. يَقولُ: ابْتِعادُها في الْغُرْبَةِ يُسَبِّبُ لَهُ الضَّرَرَ)
– وَلا غَرْوَ إلّا جارَتِي وَسُؤالُها
أَلا هَلْ لَنا أَهْلْ؟ سُئِلْتِ كَذَلِكِ
(لا غَرْوَ: عَجَبًا. يَقُولُ: صِرْتِ غَريبَةً كَما صِرْتُ، وَتُسْأَلِي كَما سُئِلْتُ)
– تُعَيِّرُ سَيْرِي في الْبِلادِ وَرِحْلَتِي
أَلا رُبَّ دارٍ لِي سِوَى حُرِّ دارِكِ
(حُرُّ الدّارِ: أَحْسَنُها وَأَوْسَطُها)
– ظَلِلْتُ بِذِي الْأَرْطَى فُوَيْقَ مُثَقَّبٍ
بِبِيتَةِ سَوْءٍ هالِكًا أَوْ كَهالِكِ
(بِِيتََةُ مَباتٌ، الْأرْطَى: نَوْعٌ مِنْ شَجَرِ الصَّحْراءِ، الْمُثَقَّبُ: اسْمُ مَكان)
– تَرُدُّ عَلَيَّ الرِّيحُ ثَوْبِيَ قاعِدًا
لَدَى صَدَفِيٍّ كَالْحَنِيَّةِ بارِكِ
(الصَّدَفِيُّ: جَمَلٌ مَنْسوبٌ إلى قَبيلَةِ صَدَفَةَ، الْحَنِيَّةُ: الْقَوْسُ،
شَبَّهَ ضُمُورَ جَمَلِهِ بِالْقَوْسِ)
– رَأَيْتُ سُعُودًا مِنْ شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ
فَلَمْ أَرَ سَعْدًا مِثْلَ سَعْدِ بنِ مالِكِ
– أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً يَعْقِدُونَها
وَخَيْرًا إذا ساوَى الذُّرَى بِالْحَوارِك
( يَقُولُ: إذا أَجْدَبَ النَّاسُ وَأَوْدَى بِالسَّنامُ وَما بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ يَكونُ بِرُّهُمُ أَكْثَرَ. مَدْحٌ لَهُم)
– وَأَنْمَى إلى مَجْدٍ تَليدٍ وَسَوْرَةٍ
تَكُونُ تُراثًا عِنْدَ حَيٍّ لِهالِكِ
(أَنْمَى أَفْعَلُ مَعطوفٌ عَلَى أَبَرَّ. التَّليدُ القَديمُ العَريقُ، السَّوْرَةُ: المنزلَةُ العاليَةُ، تُراثٌ أَصْلُها وُراثٌ، مِنْ وَرَثَ يَرِثُ. قَوْلُهُ: لِهالِكِ أيْ مِنْ هالِكِ)
– أَبي أَنْزَلَ الْجَبّارَ عامِلُ رُمْحِهِ
مِنَ السَّرْجِ حَتَّى خَرَّ بَيْنَ السَّنابِكِ
(يفتخرُ بِأبيهِ الذي أَسْقَطَ الْجَبّارَ بِمُقَدَّمِ رُمْحِهِ مِنْ فَوْقِ فَرَسِهِ، فَخَرَّ قَتيلًا بَيْنَ حَوافِرِ الْخَيْلِ)