مقالات
اقرأ وتأمل * سكينةُ الداخل * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية * عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”(3-4-5-6-7)

اقرأ وتأمل
* سكينةُ الداخل
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: “ألم نشرح لك صدرك، رحلة الداخل نحو السكينة” (3)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* حين يضيق صدرك، ولا تعلم لماذا.
حين تشعر أن روحك مثقلة، رغم ما تملكه من أسباب النجاح والقبول.
حين لا تسعفك الكلمات، ولا تبهجك اللقاءات، ولا تُطفئ الزحام داخلك إنجازاتك المتراكمة…
حين تشعر أنك تبتسم خارجيًا، لكنك تختنق من الداخل…
توقّف واسأل نفسك:
– هل شُرح صدري كما شرح الله صدر نبيه؟
– هل وجدت سكينتي في قلبي، أم أبحث عنها خارجه؟
– هل أنصتُّ يومًا لذلك النداء القرآني الحنون: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؟
* شرح الصدر… رزقٌ لا يُشترى
إن أعظم النعم ليست مالًا ولا علاقات، بل سَعة في الداخل.
– اتساعٌ داخلي يجعلك تعبر الألم، دون أن تسقط في قاعه.
– أن تحتمل ما ينهار حولك دون أن تنهار معه.
– أن تكون ممتلئًا بالسكينة، حتى لو كانت الحياة تمطرك بالتحديات.
وهذا الشرح… لا يعلّمه علم، ولا تصنعه بيئة، بل هو عطية من الله.
قد تملك السلطة، لكنك لا تنام ليلك.
قد تحقّق الأحلام، لكن يظلّ قلبك خائفًا.
أما من شرح الله صدره، فإنّه يبتسم في وجه الابتلاء، ويستند إلى يقينه، ويقول: “ربي… ما أضيق الدنيا دونك، وما أوسعها بك!”
* هذا الشرح… وعدٌ قديم
الآية جاءت للنبي ﷺ في لحظة ثِقل…كأنّ الله يقول له:
أما تذكّرت يوم شرحتُ لك صدرك؟ يوم نزعتُ عنك عبءَ الخوف، وضيق الدعوة، وضجيج الناس؟ إنك لم تَكُن وحدك قط، بل كنت في كنفنا.
وهذا النداء ليس له وحده، بل لكل قلب أثقله الطريق:
– ألم نشرح لك صدرك؟
– ألم نوسّع قلبك رغم الضيق؟
– ألم نرُدّ إليك طمأنينتك بعد أن كدت تنكسر؟
* الضيق هو بداية السّعة
– كم مرة بكيت دون سبب واضح؟
– كم مرة شعرت أن الحياة لا تُطاق؟
– كم مرة شعرت أن العالم كلّه يضيق على قلبك؟
ذلك – في عُرف الله – ليس عقوبة…
بل قد يكون بابًا نحو شرح جديد.
فالذي يُذيقك ضيقًا، إنما يحضّرك لمساحة أعظم.
يُذيقك الحاجة، ليمنحك الاكتفاء.
يُشعرك بانغلاق الأبواب، ليُريك أن الأبواب تُفتح من السماء لا من الأرض.
* كيف يُشرح الصدر؟
ليس بكثرة المعلومات، ولا بالتأملات فقط.
بل بصدق التوجّه إلى الله، بخضوع النفس، بانكسارها الجميل بين يديه، أن تقول له كما قال موسى: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ (طه: 25) فهذا الدعاء ليس للأنبياء فقط، بل لمن أراد أن يكون واسع القلب رغم قسوة العالم، وضيق الحال
* السكينة ليست في الأشياء
الناس يبحثون عن السكينة في البيوت، في المال، في السفر… لكن السكينة تسكن قلبًا اتّصل بالله، لا بيتًا اتّصل بالرفاه.
هي شعور بالرضا رغم الألم، بالطمأنينة رغم الغموض، بالحياة رغم ما يُكسر فيك أحيانًا.
وقد شرح الله صدر من فَقَد، ومن طُعن، ومن خُذل، لأن السكينة لا تعتمد على الخارج، بل على ما بينك وما بينَ الرحيم الوَدود.
* خلاصة الرحلة الثالثة
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ هي آية تذكير… لا توبيخ.
هي سؤال مغموس بالحنان: أما زلت تظن أنّك وحدك؟
أما تذكّرت من بيده الشرح؟
إذا ضاق صدرك، فلا تُحمّل نفسك ما لا تُطيق، بل قل له ببساطة: “يا رب، لم أعد أحتمل… فاشرح لي صدري،
كما شرحته لحبيبك… لا أريد سعة الحياة، بل سعة القلب بك.”..
* في المقالة القادمة بإذن الله، نقف عند مشهد جديد من مشاهد الكشف الربّاني: “كأن لم يغنَوا فيها، حين تُنسفُ الحضاراتُ من جذوره”
“ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2022)
* 20 . محرّم .1447 هـ
* الثلاثاء . 15.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
************
* واللهِ نحتاج إلى تأمّل!
* زوالُ الحضارات
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: “كأن لم يغنَوا فيها، حين تُنسفُ الحضاراتُ من جذوره” (4)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* في لحظة واحدة…
يسقط الصرح، وتخفت الضوضاء، وتغيب آثار الخطى، وتذبل أحلام الأمس العظيمة.
تتراجع الذاكرة، وتغيب المعالم، وتُطوى صفحة المجد في صمتٍ مهيب، ثم تأتي الكلمة الفاصلة من القرآن:
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا۟ فِيهَا﴾ (هود: 68)، وكأنهم لم يسكنوا… لم يعمّروا… لم يضحكوا… لم يطغوا…
وكأن حضارتهم لم تكن سوى حلمٍ عابرٍ في ليلٍ طويل.
* الفتنة بالبقاء… والصدمة بالزوال
– البشر حين يبنون، يظنون أن ما صنعته أيديهم خالدٌا لا يزول.
– يألفون الصخب، ويتغنون بالحضارة، ويغترّون بالمنجزات.
– لكنهم ينسون أن سنّة الله جارية، وأن ما بُني على الظلم لا يثبت.
– تسقط القصور كما تسقط الأقنعة، وتذوب العواصم كما يذوب الثلج في أول شمس صادقة.
* التوثيق القرآني للزوال
– كم مرة وثّق القرآن سقوط حضارة؟
– كم مرة حكى عن قرى وأممٍ بادوا، فقال عنهم:
• ﴿فَجَعَلْنَٰهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ (البقرة: 66)
• ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ (الأنعام: 45)
• ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِۦ﴾ (العنكبوت: 40)
القرآن لا يسرد التاريخ عبثًا، بل يبني وعيًا عميقًا بالخطر القادم إن تكررت الخطيئة.
إنه يقول لنا: ما وقع بهم ليس أسطورة… بل تحذير ناطق.
* كأن لم يغنوا فيها… العبارة التي تهزّ القلب
﴿كأن لم يغنوا فيها﴾ ليست توصيفًا جغرافيًا، بل ضربة وجودية.
هم كانوا هناك، زرعوا، ضحكوا، طغوا، تحالفوا، احتفلوا قتلوا شرّدوا فسدوا أفسدوا…لكن الله يقول: كأن شيئًا لم يكن!
* زوال لا يُبقي حتى الذكرى.
هنا الصدمة: أن تُمحى الهوية، ويُنسف الأثر، وتُطوى الصفحة من الوجود.
* حين تقوم الحضارات على الظلم
عاد، ثمود، فرعون، قوم لوط ووو…كلّهم امتلكوا القوة، وادّعوا الخلود.
قوم عاد قالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (فصلت: 15) لكن الله أرسل عليهم ريحًا عاتية، وقال فيهم:
﴿فَأَصْبَحُوا۟ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَـٰكِنُهُمْ﴾ (الأحقاف: 25) لقد سقطوا لا لأن العدو غزاهم، بل لأنهم انهاروا من الداخل… حين ساد الظلم، واندثر العدل، وتحوّلت الحضارة إلى وثنٍ يُعبد.
* بين السطور… رسائل لا يقرؤها الغافلون
لو كانت الحضارات تُقاس بطول العمر، لبقي الفراعنة،
ولو كانت تُقاس بوفرة الذهب، لعاشت سبأ،
ولو كانت تُقاس بعدد الأسلحة، لعاش أصحاب الأيكة وعاد وثمود…
لكنها تُقاس بشيء واحد: بقدر ما تركت من عدل ورحمة وتوحيد في الأرض… فهل يفقه طغاة العصر هذا المآل؟
تلك هي المعايير الإلهية، لا كثرة النمو، ولا وفرة الإنتاج، ولا صدى الإعلام، ولهذا قال تعالى بعد إهلاك الأمم:
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ (يونس: 13).
الظلم إذًا لا يُقاس فقط بظلم الحاكم، بل بسكوت المجتمعات عن موات الضمير، وإعجابها بثرواتها، ونسيانها لغاية وجودها.
* نحن… على حافة العبارة!
الآية ليست ماضٍ نحكيه، بل مرآةٌ نحدّق فيها.
هل نحن آمنون من أن تُقال عنا: ﴿كأن لم يغنَوا فيها﴾؟
هل حضارتنا المعاصرة، التي تتفاخر بالتقنية والعمران، تأمن غضبة الله إن استكْبَرت؟
دولةٌ تُبنى في مئة عام قد تنهار في ليلة…
إن طغت، وظلمت، وابتعدت عن هدْيِ الله.
* نهاية الرحلة… أو بدايتها
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا۟ فِيهَا﴾ (هود: 68) ليست نهاية قصة، بل بداية يقظة.
أن تُعمّر العدل قبل الجدران، والحق قبل الأبراج.
أن تدرك أن الحضارة لا تحفظها الجيوش… بل تحفظها القِيَم، ويصونها التواضع، ويحييها التوحيد، فإذا قرأتَ هذه الآية، فلا تمرّ عليها مرور الكِرام أو بسلام… بل تذكّر أن الأرض لا تخلّد أحدًا…
وأن الله إذا أراد، طوى أعتى الحضارات في سطر، وقال عنها: “كأن لم يغنوا فيها”.
* في المقالة القادمة بإذن الله، نفتح بابًا جديدًا من أبواب التأمل: ﴿ووَجدَكَ ضالًا فهَدى﴾ التيه ومراحم الهداية”. ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2023)
* 21 . محرّم .1447 هـ
* الأربعاء . 16.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*************
* لحظات مع الأنوار الإلهية
* نداءُ الهدى
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: “﴿ووَجدَكَ ضالًا فهَدى﴾ التيه ومراحم الهداية” (5)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* التيه قبل الهداية
في لحظة إشراق إلهي، تنزل هذه الآية الكريمة كنسمة رحمة: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ (الضحى: 7)، لتروي قصة ليست للنبي ﷺ فحسب، بل هي مرآة لكل قلب تائه يبحث عن النور.
الضلال في هذا السياق لا يعني الكفر أو الابتعاد عن الله، بل هو التيه في التفاصيل، حيث لم يكن النبي ﷺ يعرف تفاصيل الشرع قبل الوحي، كما قال تعالى:
﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ (الشورى: 52).
هذا التيه هو مرحلة البحث والعطش الروحي، وليس نقصًا في الأصل، بل استحقاق للهداية التي تلي.
* الهداية: عناية إلهية
الكلمة “فَهَدَى” تحمل في طياتها تحوّلاً عميقًا: من الحيرة إلى اليقين، من الضياع إلى السكينة، هذه الهداية ليست مجرد معلومة، بل هي نفحة من رحمة الله، اصطفاءٌ وفتحٌ للبصيرة. قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَن أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ (القصص: 56).
وهي وعد لكل قلبٍ تاه وطلب الحق، أن الهداية ممكنة لمن صدق السعي، وأن التيه ليس نهاية الطريق.
* نور في ظلمات الحياة
كثيرًا ما نعيش لحظات تيه وضياع، سواء في القيم أو الهوية أو النفس، لكن الله سبحانه وتعالى لا يترك العبد في ظلامه، إذ يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69)، والدعاء: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الفاتحة: 6]) هو طلب مستمر لفضيلة الهداية التي تُمدّ في القلب.
* إياك أن تُطفئ النور الذي في داخلك
مهما عانيت من الضيق أو الفتور، تذكّر أن في داخلك نورًا لم يُطفأ، هو صوت فطرتك التي فطر الله الناس عليها، كما يقول تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30). قد يخفت هذا النور، لكنه لا يختفي إلا بإرادة منك حين تبتعد عن الله، أما إن جاهدت، فالله يزيدك نورًا، كما وعد: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(العنكبوت: 69).
عِش على يقين بأن الله قريب، وأنه لا يتركك تائهًا في ظلام الحياة، فالظلام مهما كثُر لا يغلب نور الصدق والإخلاص.
* بناء الإنسان من الداخل
لم يبدأ القرآن بسرد الأحكام، بل بنداء التوحيد والهدى، ذلك لأن بناء الإنسان لا يكون بتخويفه أو تحفيزه المصلحي، بل بزراعة جذور الحرية في قلبه، فيقول بصدق: “لا إله إلا الله”، معلنًا أنه لن يركع إلا لله، ولن يخشى إلا ربه، ولن يقدس إلا الحق، كما في قوله تعالى:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (محمد: 19).
إنّ التوحيد الحقيقي هو التحرير الكامل من عبودية المخلوقين، وهو بداية يقظة الوعي.
* حين يغيب المعنى… يُفرغ الشعار من مضمونه
أُفرغت كلمة التوحيد من معناها حين أصبحت شعارًا يُرفع فقط، لا مشروعًا يُعاش، تكتب على الرايات، وتُهمَل في الأسواق، وتُردّد في الخطب دون أن تلامس قلوب الناس، ولذلك تنهار الأمم حين تُحتل قلوبها قبل أن تُحتل أراضيها. قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 20)، ولكن قوة الأمة تكمن في وعيها وعلاقتها بحقيقتها.
* خاتمة: رحلة مستمرة نحو الهداية
﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ ليست فقط قصة نبي، بل هي بشارة لكل إنسان يمر بتيه في حياته، الله رحيم بعباده، يهديهم برحمته، ويرشدهم بنوره.
احرص على قلبك، واعتنِ بنورك، واطلب الهداية دائمًا، لأن الطريق نحو الله لا ينتهي، والرحلة مستمرة مع كل دعاء، وكل عمل صالح، وكل دمعة خشية… أليس كذلك يا صديقي؟.. ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
*عنوان مقالة الغد بمشيئة الله هو: “كلا إن الإنسان ليطغى” حين ينسى أنه كان نطفة”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2024)
* 22 . محرّم .1447 هـ
* الخميس . 17.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
**************
* لحظات مع الأنوار الإلهية
* نطفة.. ثم طغيان
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: ” كلا إن الإنسان ليطغى” حين ينسى أنه كان نطفة” (6)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– حين تعصف الدنيا بصراعاتها، وتختلط القيم بالمصالح، وتعلو أصواتُ الطغيان في النّفس والمجتمع، يحتاج الإنسان إلى مرآةٍ تعكس له حقيقته الأولى. تلك الحقيقة التي لخصها القرآن بكلمة واحدة: ﴿نُطْفَةٍ﴾ ﴿النحل: 4﴾.
وما بين النطفة والطغيان مسافة ضاعت فيها الموازين، وسُرقت فيها البصائر. وما بين البداية والنهاية، هناك لحظة غفلة، لحظة يظن فيها الإنسان أنه وحده السيد، وأنه مالك القرار والمصير. لكن تلك اللحظة الخادعة لا تلبث أن تنقلب حسرةً، حين يستفيق العقل على الحقيقة.
* نقطة الانطلاق: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6-7)
– “كَلَّا” ليست مجرد نفي، بل صفعةُ تنبيه، وصوتُ إيقاظ!
إنه إنذار لمن انحرف عن الفطرة، ونسي ميزان الهداية،
فالاستغناء الموهوم عن الله، عن القيم، عن التواضع، هو أصل البلاء.
– الطغيان ليس فقط في تسلّط الحاكم، أو قهر الجبّار.
الطغيان يبدأ من القلب، من نظرة كِبر، من شعور بالعظمة، من لحظة نسيانٍ للمبتدأ.
– والأخطر حين يُلبس الطغيانُ لباس الدين، أو يختبئ تحت شعارات “النجاح” و”التمكين” دون بصيرة أو خُلق.
* حين تُنسى البدايات… يُفسد المسار
“كان نطفة”…
– هذا ليس تذكيرًا بيولوجيًا، بل تذكيرٌ وجوديّ عميق.
ما من إنسانٍ على وجه الأرض إلا وبدأ من نقطةٍ ضئيلة، لا تُرى، لا يُحتفى بها، لا يُبنى عليها مجد.
حين ينسى الإنسان أنه كان نطفة، يُصاب بداء الألوهية.
يظن نفسه مركز العالم، ويطلب من الجميع أن يدوروا في فلكه.
– هذا النسيان هو جذر القسوة، أصل الغرور، ووقود الظلم، إنه انفصال عن الأصل، وانحراف عن المسار، وقطيعة مع المعنى.
* رسالة للمنكسرين: لا تُغرك صور الطغيان المؤقت
– إن الطغيان قد يبدو صلبًا، عاليًا، راسخًا.
لكن الحقيقة أن الطاغية –أيًّا كان– يحمل بداخله هشاشة النطفة، ونهاية التراب.
– هذا ليس تهوينًا من الجراح، بل إضاءة في عتمتها.
فمن ظُلِم اليوم، عليه أن يتأمل هذا القانون الرباني:
﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: 227).
– وقد طغى فرعون… فغرق.
– وتجبر قارون… فخُسف به.
– وعادٌ فؤخذوا
– وقوم لوط فخسفت بهم الارض
وساد الطغيان في لحظات… لكنه دومًا يهوي، لأن جذوره كاذبة، وسقفه من وهم، وهو أوهن من بيت العنكبوت
– والمظلوم… يكفيه أن يرفع قلبه إلى السماء، ويوقن أن الله يسمع ويرى، ويعِد ويجازي، لا يضيع دمع ولا تنهيدة ولا صبر.
* العودة إلى النطفة: تواضعٌ لا ينهزم
أن تتذكّر أنك كنت نطفة، هو قمة القوة، لا الضعف.
هو اعتراف بالافتقار لله، لا للناس.
هو طريق لبناء النفس على أُسس الخشية، لا على أوهام العلو.
حين يواجه الإنسان جراح الغطرسة من حوله، يداويها بهذا التذكر: ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ (الإنسان: 1)، فما دام هذا حالنا، فلماذا الكبر؟ لماذا القسوة؟ لماذا ننسى أصلنا؟
* التوحيد دواء الطغيان
القرآن لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدم العلاج.
والعلاج الجذري لطغيان النفس هو التوحيد: أن ترى الله أكبر منك، وأعلى من رغباتك، وأقرب إلى المظلوم من دمعته، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ﴾ (الأعلى: 14-15) هذه زكاة النفس، لا المال فقط.
تطهير من الطغيان، بالتذلل لله، بالتواضع، بالعدل، بالذكر.
ففي الصلاة، تسجد الجباه التي ربما طغت يومًا، وتعود إلى أصلها في حضرة الجلال.
* همسة صباحية
أيها القلب المتألم من الطغيان… لا تيأس، ولا تطغَ.
واذكر دائمًا:
– أنك كنت نطفة، وأن من ظلمك… كذلك كان.
– والله لا ينسى، ولا يُهمل، وإن طال الزمن.
– في حضرة القرآن… نداوي وعينا، ونُرمم إنساننا من الداخل…ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد بمشيئة الله هو: “﴿بل الانسان على نفسه بصيرة﴾، مكاشفة النفس أمام النص”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2025)
* 23 . محرّم .1447 هـ
* الجمعة . 18.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*************
* لحظات مع الأنوار الإلهية
* إدراك الذات
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان السلسلة الجديدة: “في حضرة المعنى: رحلات في التأملات القرآنية”
عنوان المقالة: “﴿بل الانسان على نفسه بصيرة﴾، مكاشفة النفس أمام النص” (7)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
في خضم الحياة المتسارعة، وسط صخب المادة وزخارف الدنيا، ينمو في النفس غولٌ يُسمى الطغيان، ذلك النزوع الخطير الذي يدفع الإنسان لأن ينسى من هو، ومن أين جاء، ولماذا خلق. يقول الله تعالى في محكم تنزيله:
﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ﴾ (العلق: 6-7)،
هذه الآية تحمل في طياتها صرخة تحذيرية، تحكي قصة النفس الإنسانية حين تنقاد وراء وهم الاستغناء والتفرد بالقدرة والسيادة، الإنسان بطبعه محدود، لكنه ينسى هذا الحد، ويظن أنه قادِر على أن يكون مستقلاً، متحرراً من القيود، وأنه لا يحتاج إلى غير نفسه.
-* وهم الاستغناء: بداية الانحراف والزلل
عندما يظن الإنسان أنه استغنى، لم يكن فقط غافلاً عن ربّه، بل كان أسير أوهام الكبرياء فيكون خاطئًا، يغلفه غبار الغفلة والنسيان، الاستغناء المزعوم، كما يقول العلماء، هو بداية سقوط الذات في مستنقع الطغيان، حيث تنقلب القيم، وتتبدل المفاهيم، ويصبح الإنسان عبدًا لشهواته، لا خادمًا لربّه.
– إن هذا الوهم هو الذي يدفع البعض إلى الظلم، والتعالي، والاستبداد، بدعوى الاستحقاق أو القوة أو المكانة، متجاهلين أن كل النعم بيد الله وحده، وأن النعمة إن لم تُشكَر تُصبح نقمة.
* آيات تحكي قصة الإنسان وحقائقه
يُخبرنا القرآن الكريم أن الإنسان مهما علا مكانه، يبقى محتاجًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر: 15)، فهذه الحقيقة الإلهية تثبت أن الاغترار بالقوة أو المال هو حماقةٌ كبرى، وأن الرفعة الحقيقية تأتي من التقوى والخشية والصدق مع الذات،
ولعل أهمّ ما يجب أن نعيه هو أن الطغيان لا يظهر دائمًا في صور فجة، بل قد يتخفّى خلف ألفاظ عذبة وأفعال مُمَوّهة، ويُلبس قناع البراءة والبر، ويُسوّق باعتباره حريةً أو استقلالًا.
* مواجهة النفس: نقطة الانطلاق للتغيير
الآية ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ﴾ تحثنا على التوقف والمراجعة: هل نحن بالفعل في وضع استغناء؟ هل نرى أنفسنا فوق حساب الله؟ هل نتصرف وكأننا لا نحتاج إلى هدايته؟
– إن الإجابة الصادقة على هذه الأسئلة هي مفتاح التغيير الحقيقي، فالاعتراف بالضعف والاحتياج ليس ضعفًا، بل هو بداية طريق الحكمة والنجاة.
* الطغيان وانعكاساته المجتمعية
حين ينسى الإنسان حقيقته ويغتر بنفسه، لا تتأثر نفسه فقط، بل ينعكس ذلك على المجتمع كله، تنشأ التفرقة، وينتشر الظلم، وتعم البغضاء، وتتبدد القيم الإنسانية، إن الطغيان الفردي إذا استشرى، يصبح داءً اجتماعيًا يُفسد الأرض ويشوه صورة البشرية التي خُلِقنا من أجلها.
* في التواضع سر الخلود والنجاة
لا غنى للإنسان عن تواضعه أمام خالقه، فالذي يعي حدوده ويقرّ بأنه عبدٌ يحتاج الرحمة والهداية، هو الأقرب إلى السلام الداخلي والرضا الحقيقي، التواضع ليس ضعفًا، بل هو قمة القوة التي تجعل الإنسان مستقرًا، لا تًزعزِعه رياح الغرور أو ويلات الطغيان،
وفي التواضع أيضًا يبدأ الانتصار على الذات، حين ينفتح القلب على التصحيح والتغيير، وتغدو الرجعة إلى الله قرارًا حاسمًا لا يُرجَأ، بهذا السلوك تتحقق الحكمة، ويستنير الطريق إلى حياة مليئة بالسلام والسكينة، في الدنيا والآخرة.
* الخاتمة: الرجوع إلى الله سبيل النجاة
ختامًا، تذكّروا: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ (العلق: 8) فالطغيان مهما استعر، فإنه مؤقت، والحق دائم، لا نملك شيئًا إلا ما وفقنا الله له، ولا نجاة لنا إلا بالعودة إلى الله، والتواضع بين يديه، والاعتراف بحاجتنا المستمرة له.
فلنحذر الغرور ولنعيش في يقين دائم بأننا عبادٌ ضعفاء، والنجاح الحقيقي هو في التقرب من الرحمن، ورفض أوهام الاستغناء… ولكم مني التحية والمحبة والسلام.
* عنوان مقالة الغد بمشيئة الله هو: “ذلك الكتاب لا ريب فيه: ماذا لو كان اليقين مفتاح النهضة؟”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله.
* مقالة رقم: (2026)
* 24 . محرّم .1447 هـ
* السبت . 19.07.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)