نشاطات

عم السيد

كان يجلس أمامها حفيدها يتجاذبون أطراف الحديث حتى ساقهم الحديث إلى كيف نشأت الجدة، فلم تجد سوى قصة سرقة البقرة الخاصة بهم مدخلًا لشرح شكل الحياة وقتها.

“عم السيد” كان شيخ الغفر فى إحدى القرى فى محافظة القليوبية. كان معروفًا بحسن خلقه وكرمه الزائد للغريب قبل القريب، ومحبوبًا من الصغير قبل الكبير. فكان لا يختلف على طيبته اثنان بعيدًا عن بنيته القوية الصارمة وطوله الفارع، وكان يمتلك يد يستطيع أن يصفع بها “دُبًا بريًا” على وجهه. وتلك النظرات الحادة الخارجة من عينين سوداوين واسعتين، وكانت بشرته تأخذ القمحي لونًا لها بملامح مصرية أصيلة.

“عم السيد” كان يمتلك دارًا فيها حظيرة للمواشي لا بأس بها، وقطعة أرض بجانب داره يزرع فيها ما طاب ولذ لأهل بيته ولأهل قريته أيضًا، لم يحظ بنعمةٍ قط مثل زوجته الحبيبة فاطمة، التي نشأت بينهما قصة حب قوية مثل تلك التي نراها على شاشات السينما، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت على خلاف دائم معه لأن “اللي في جيبك دايمًا كده مش ليك يا أبو أحمد، واحنا عندنا نص دستة عيال عايزين نربيهم”، وكانت اللامبالاة هى الرد الأمثل على كلام زوجته دائمًا. نص دستة عدد لا بأس به من الأطفال لكي تمتلئ به حياة “عم السيد” وأيضًا داره، فقد رزقه الله بخمس بنات وولد وحيد، نعيمة أكبرهم، يليها أحمد، وأصغرهم فتحية وتلك هي الجدة.

لم يفرق أبدًا بين ولد أو بنت، ولم يفكر برجعية كأبناء قريته في ذلك الموضوع، فمثلما كان يعتمد على أحمد كان يعتمد على بناته الخمس، ودائمًا وأبدًا ما يكنّ عند حسن ظن أبيهن. وتلك الأعمال كانت تتمثل في مراعة البهائم وتوصيل الطلبات وتبيلغ الرسائل وأعمال المنزل الشاقة وغيرها. وكان ذلك دليلًا أن لا فرق بين الولد والبنت، فكان أيضًا العقاب مساوٍ فلا يفرق بين أحد، والعقاب لم يكن يومًا بالضرب بل كان بزيادة الأعمال الشاقة، وعلى الرغم من ذلك لم يكلوا أو يملوا من تلك الأعمال فكانوا يحبونه، ويحبون نوعية ذلك العقاب الذي ساهم في تكوين بنية صحية وشخصية سليمة يفتخر بها هو وزوجته.

شيخ الغفر كانت الوظيفة الرسمية لـ”عم السيد”، ولكن يوم الأحد كان يومًا مختلفًا له حيث كان يعمل جزارًا، فيقوم بذبح إحدى بهائمه ويبيع ما يستطيع منها ويتصدق بالباقي، وكان يساعده أولاده في عمليات البيع وتوزيع الصدقة، فكانت وظيفتهم يوم الأحد هى توصيل الطلبات للمنازل بمفهومنا الحالي لتلك الوظيفة.

مساعدته للناس، وحبه للخير، جعلاه ذائع الصيت ومحبوبًا من جميع أهل القرية، وأهالي القرى المجاورة أيضًا. كان دائمًا ما يقول “حب الناس عمره ما بيجي بحتة لحمة ولا قرشين مساعدة، ده يبقى اسمه حب زايف.. إنما حب عمل الخير نفسه ديه نعمة فيكافأني ربنا بحب الناس اللي ميساوش الملايين”.

صوت أم كلثوم في الراديو من حفلة “لايف” من قصر عابدين، وسط الزراعات مع مجموعة من الأصدقاء من أهل القرية، وعدد لا بأس به من أكواب الشاي ثقيل كالحبر من أحد الأوعية الجالسة على نار الحطب، كانت إحدى طرق الترويح عن النفس وأقربها إلى قلب “عم السيد”. هذه الجلسة كانت الدنيا وما فيها لجالسيها، فكانت هي المكافأة الأجمل لنهاية يوم عمل شاق عصيب. العزق في الأرض والحصد والزرع والقلع والدوران في الساقية مثل البهائم، ومشاكل البيوت وغيرها، كانت كفيلة بإنشاء سجن وهمي لهم يهربون منه ليلًا ويرجعون إليه صباحًا.

كان “عم السيد” يعمل في الليل حكيمًا يأتي إليه الكثير طلبًا لنصحيته غير أنه كان يحاول دائمًا الصلح بين المتخاصمين. الكل يذهب إليه في حيرة من أمره يجد عنده الإجابة الوافية. خبرته في الحياة وثقة الناس العمياء فيه كانت تعطيه تلك المكانة التي لم ينالها أي ابن من أبناء القرية، سواء كان يمتلك المال أو السلطة.

وفي ليلة بدت سعيدة حتى رجع “عم السيد” إلى بيته، وتصبح تلك الليلة حزينة فجأة، إذ وجد أولاده خارج الدار مجتمعين أمام الحظيرة، لما رأوه قادمًا نحوهم تسابقوا إليه لإبلاغه بذلك الخبر المحزن، حيث عرف بعدها بدقائق أن ابنته الصغيرة فتحية هى من نسيت باب الحظيرة مفتوحًا، وكان الطريق ممهدًا أمام اللص للظفر بفريسته.

كان الخبر بمثابة الصدمة لـ”عم السيد”، وظل يتساءل حائرًا طوال تلك الليلة ما الخطيئة التي اقترفها لكي يجازيه الله بتلك المصيبة، لم ينم جيدًا تلك الليلة، وهَمَّ في الصباح الباكر وأخذ على عاتقه بأنه لن يرجع إلى بيته إلا وهو يجر البقرة خلفه. ذهب إلى سوق القرية لكي يبحث إذا ما كان اللص يحاول بيعها. ولكن خطر على باله فكرة البحث خارج القرية، إذ إنه من الصعب أن يأتي الأذى من أقرب الناس إليه، أحد أفراد قريته التي يكاد أن يعرفهم فردًا فردًا.

ذهب إلى خارج القرية وكان يسير وحيدًا آملًا في إيجاد بقرته الضائعة، حتى ظهر له بيت وحيد وسط الزراعات ولا يوجد حوله أي بشر. اقترب أكثر فأكثر، وكلما اقترب زادت نبضات قلبه وملأه الأمل بأنه سوف يعثر على مراده هنا. أخذ يتحرك حول البيت وهو مختبئ ويعاين الموقع من بعيد حتى وجدها. وجد بقرته بالفعل خلف البيت. لم يجعل السعادة تحاول أن تؤثر على قراره في الذهاب إلى ذلك البيت والدخول في مشاجرة قد تؤذيه، ولكنه انتظر، انتظر وسط الزراعات حتى يحل الليل.

ما حدث تاليًا كان أمر في منتهى البساطة، اقترب من البيت حتى وصل إلى بقرته وأخذها ورجع بها سالمًا إلى بيته دون أن يزعج اللص، وكان الأمر محُيرًا لأهل بيته جميعًا، إذ كادوا أن يصابوا بالجنون جميعًا، كيف له أن يتنازل عن حقه بهذه الطريقة فكان رده: “تلاقيه كان مزنوق والدنيا مقفلة في وشه، وعلى العموم أنا سبتله مكانها قرشين يمكن أكون فكيت ضيقته!”.

 

مقالات ذات صلة

إغلاق