مقالات

عن “جائحة” النجاح بامتحانات الطب في مجتمعنا … أفكار مشاغبة!

البروفيسور كريم عزب

قرأت “مقدمّة ابن خلدون” قبل فترة طويلة, وعلى ما أذكر, فقد قسّم ابن خلدون في مقدّمته المهن (أو ما أسماه هو “المعاش”) الى ثلاثة أنواع: الزراعة والصناعة والتجارة. المزارعين: يرى أنهم أهل البداوة (أو الأرياف بمفهومنا الحالي) ويصف هؤلاء على أنهم هم أصل الحضارة والعمران, وأنهم أهل الشجاعة والقيم والحياة البسيطة بمتطلباتها. لكنها الأغنى بالتجارب والعلاقات الإنسانية والتكافل الإجتماعي, وبالتالي تكون هذه الحياة سعيدة, على بساطتها, ورغم خشونتها البالغة من ناحية العمل الجسدي. هم ينتجون المواد الأساسية للعيش, ولذلك هم من أهم أسس نجاح المجتمعات. أما أرباب الصناعة: فهم ذوي الحرف المختلفة, ويقسمها لضرورية (ما يحتاجه الإنسان) وغير ضرورية (ما يريده الإنسان ككماليات). النوع الأول يكون في المدن والأرياف على حد سواء, كعمّال البناء والنجارة والسباكة وغيرها من الأحتياجات الضرورية. هذه أيضا ضمن اللبنات الأساسية أيضا لنجاح المجتمع. أما الغير ضرورية (الكماليات) فهي الأشياء التي يمكن للإنسان أن يحيى بدونها لكنه يريدها, كالفنّ والشعر والموسيقى, والترفيه بكل أشكاله. اقتصاديا, الصناعة بحد ذاتها هي ضمن الأقتصاد الإنتاجي, وأصحاب الحرف هم ضمن الأقتصاد الخدماتي. ويرى ابن خلدون أن العمران في المجتمع يعكسه مستوى “الكماليات”, فكلما زادت صناعة الكماليات كان هذا دليلا على العمران والتقدم في المجتمعات. لكن بشرط, أنه ما دامت الضروريات متوفرة, وهذه حيثية مهمة جدا, لأنه في أخر الكتاب يصرح أن أحدى علامات انهيار الدول والمجتمعات هو السعي وراء الكماليات دون توفر الضروريات. أمّا التجّار: فإنهم ذوي باع طويل بفهم النفس البشرية ولهم قدرة بالغة على فهم طبائع الناس والمساومة والمحاورة والنقاش والأخذ والرد. وعلى التاجر أن يكون براغماتيا, يتقن فن حلول الوسط, وعليه أن يكون ذا شخصية قوية وبُعد نظر بحيث “يغامر” ببضع ماله لكي يزيد من الربح. فمن لا يمتلك هذه الصفات لا يمكن أن ينجح بالتجارة. التجار لا ينتجون شيئا, بل يبيعون ويشترون ما ينتجه المزارعون والصنّاع. لكنهم مهمون لعجلة الإقتصاد وبهم تتعاظم وتتزايد الأرباح ودورة المال في المجتمع التي يستفيد منها المجتمع ككل. لكن وجب التنويه أنه لا فائدة من التجارة (كاقتصاد خدماتي) بلا وجود انتاجية في المجتمع, فالاقتصاد الخدماتي معرّض للإنهيار بأي لحظة ما لم يكن مدعوما بقاعدة إنتاجية صلبة.

لا بد أنّكم تتساءلون وتتأففون في أنفسكم …. “يا زلمة هلكتنا! شو دخل علك الحكي هذا كلّه بنجاح طلاب الطب بامتحان الدولة؟” آآآآآه … و”هون مربط الفرس”!. فبالإضافة للزراعة والتجارة والصناعة ككل, يخصص ابن خلدون بابا خاصا لما سمّاه “الصناعات النبيلة”, وهي صناعات تُنتج العلوم والمعرفة. العلوم هنا بمفهومها الواسع كالعلوم الطبيعية والعلوم الدينية/ روحانية والرياضيات والفلسفة … و … الطبّ! تاريخيا, المشترك بين كل هذه “الصناعات النبيلة” أنها تنتج منتوجا فكريا يساعد على نهضة كل باقي القطاعات (زراعة وتجارة وصناعة). وبذلك يرى أن هذه “الصناعات النبيلة” هي المرآة الحقيقة للعمران والتقدّم للدول والمجتمعات. نعود ونكرر, أهم ما في هذه الصناعات هو “المنتوج الفكري” أي استحداث أفكار جديدة, نظرية كانت أو تطبيقية, يمكن استغلالها للنهوض وللتطوير بشتى المجالات الحياتية, الضرورية منها والكمالية.

تاريخيا, كان وما زال الطبّ “صناعة نبيلة” تساهم في المنتوج الفكري للمجتمعات, والأمثلة أكثر من أن تحصى, وفي كثير من الأحيان هناك أطباء كثر يساهمون في إثراء المنتوج الفكري للمجتمع والإكتشافات والأختراعات, الخ. لكن لنقِسْ مهنة الطبّ بمفهومها الحالي في مجتمعنا, التي ينطوي تحت لوائها غالبية الخريجين الحاليين, ولأي مجموعة تنتمي من المجموعات أعلاه؟ عندما يعمل الطبيب في عيادته (خاصة أو ضمن صندوق المرضى مثلا), أو حتى عندما يعمل كطبيب معالج في المستشفى, هل يقوم بأي إنتاج فكري؟ الإجابة, للأسف, قطعا لا! ما يقوم به الطبيب بهذه الحالة هو كغيره من أرباب الصناعة يقدّم عملا خدماتيا على الأغلب ضروري (يمكن أيضا أن يكون ضمن الكماليات), تماما كعامل الميكانيكا الذي يصلح السيارة عند العطل. في الحقيقة, هناك عنصر اقتصادي آخر أضيف الى الطب الحديث, وذلك بفعل شركات التأمين الصحي والمراكز الصحية الكبرى, أن الطبيب وبالذات بالعيادات الصغيرة أصبح تقريبا لا يعالج, بل يقوم بتوجيه المرضى لمراكز أكثر اختصاصية للحصول على علاج حقيقي. بذلك, أصبح الطبيب أقرب لـكونه “تاجر مفرّق” للخدمات الصحية التي تقدّمها شركات التأمين الصحي الكبرى (تاجر الجملة), لتسويق “خدمات” توفرها المستشفيات والعيادات الإختصاصية. لذلك غدت مهنة “الطبيب” (في الغالبية العظمى من الحالات) ليس لها اي علاقة بما أسماه ابن خلدون “المهن النبيلة” والمنتوج الفكري, بل هي بمكانٍ ما بين “مهني” يقدّم خدمات صحيّة خفيفة وبين “تاجر” مفرّق للخدمات الصحية الكبيرة. هذا التغيير الدراماتيكي بمفهوم المهنة يضع طلاب الطبّ والخريجين وذويهم بمعضلة كبيرة من خيبة الأمل من واقع العمل مقارنة بعلو سقف التوقعات. وإذا أردتم دليلا, إنظروا إلى الصعوبات البالغة بأيجاد عمل أو تخصص للأطباء حديثي التخرّج, رغم حاجة السوق البالغة. وكذلك “استعباد” الأطباء المتدربين, وحتى أحيانا الأطباء المتمرسين, بالعمل لساعات طويلة غير منطقية وغير إنسانية. وكثيرا ما يتم تقييم الأطباء حسب عدد المرضى الذين يقابلهم بالساعة! شيء تقشعرّ له الأبدان فعلا! السبب وراء كل هذه الظواهر هو أن “الجهاز الصحي” (كمؤسسة ربحية أو شبه ربحية) ينظر للطبيب من منظور الربح والخسارة المادية, وبذلك يقزّم دوره من مُنتِج فكري لتاجر خدمات صحية, أو مقدّم خدمات صحيّة بأحسن الأحوال.

ما الحل إذا؟ كيف يمكن أن نُخرِج الطبيب من دائرة التجارة والخدمات ونعيده لدائرة الإنتاجيه الفكرية و”الصناعات النبيلة”؟ الحل واحد ووحيد! … الأبحاث! … المشاركة بأبحاث طبية, سريرية كانت أو تطبيقية أو في العلوم الأساسية, هي أساس “نُبل” الطب لأنها هي التي تولّد المنتوج الفكري! اليوم هناك معايير كميّة لقياس “نبل” (أو “برستيج”) المركز الطبي أو المستشفى أو حتى الطبيب المعالج كفرد, ألا وهو إسهامه في الأبحاث الطبية / العلمية. بالذات نشر أوراق علمية بحثية ومدى الإستشهاد بها من قبل زملاء المهنة في أبحاثهم (استهلاك منتوجه الفكري). الطبيب الذي لا يشارك بالأبحاث هو تاجر أو مقدّم خدمات, يستورد/ يستهلك المنتوج الفكري لأطباء آخرين ويبيعه للناس, وهو بذلك كأي مقدّم خدمات أو تاجر آخر, قاعدته المهنيّة هشّة, لأنّه يتعلق بشكل تام بإنتاج طرف ثالث.

من هنا أدعو أحبائي الأطباء والخريجين الجدد بالتوجه للبحث العلمي والطبي … وألف مبروك لكل الخريجين!

(الصورة: منتج تطبيق رسم بالذكاء الأصطناعي AI Image generator لطبيب منهك من استقبال كميات هائلة من المرضى).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق