مقالات

مؤرخ إسرائيلي: أصغيت لشهادات جنود وحدة “الكسندروني”.. وهي تؤكد ارتكاب مذبحة في الطنطورة

يؤكد المؤرخ الإسرائيلي آدم راز أن أوساطا إسرائيلية ما زالت تبذل مساع كثيرة لطمس الحقيقة التاريخية بحيل متنوعة مشددا على أن ارتكاب مذبحة في الطنطورة طبقا لمصادر إسرائيلية وفلسطينية.

ويوضح راز في تقرير نشرته صحيفة “هآرتس” أن تفاعلات قضية الطنطورة تدلل على أن أحداث حرب 1948 ليست مثيرة فحسب بل تطال قضايا مركبّة تتعلق بالهوية والقومية والأخلاق وغيرها. ويضيف “نشرت في الأسابيع الأخيرة سلسلة تقارير ومقالات تعالج أبعادا غير لطيفة وغير معروفة للإسرائيليين من فترة الحرب الأولى- وتلقيت ردودا متنوعة من بينها رد واحد أقلقني بشكل خاص وهو للمؤرخ الإسرائيلي آفي شيلون الذي بحث عن التناسبية زاعما أن طرفي الحرب ارتكبا مذابح”، كما جاء في مقال نشرته صحيفغة “هآرتس” في 09.02.2022.

ويقول راز إن شيلون لا يحب المباحثات في صفحات الصحف حول “طبيعة الحرب” زاعما أن المؤرخ آدم راز يؤجج الموضوع باختياره الكشف عن وقائعه في الإعلام بدلا من كتابتها في نصوص تاريخية مهنية وذلك بهدف نقل النقاش من أقسام التاريخ في الجامعات إلى الجمهور الواسع. لكن راز يسخر من موقف شيلون بقوله: “حسب شيلون، نحن المؤرخون علينا التباحث بين بعضنا البعض داخل أقسام التاريخ لأنه “ليس جديرا نقل النقاش لحلبة فيها المتداخلون هم أيضا أصحاب مصلحة”.

ويضيف راز “إن اختيار شيلون مصطلح “يؤجّج” يدلل على موقفه القيمي الأساسي: شيلون هو مؤرخ نخبوي يريد الحفاظ على تقاسم المعرفة بشكل هرمي. مؤرخون آخرون أمثال ميخائيل بار زوهر قاموا بمثل هذه “المفاضلة المقدسة” بيننا وبين الفلسطينيين وسط مزاعم أنه في كل الحروب ترتكب الأطراف المشاركون فيها مذابح. يشار إلى أن بار زوهر كان هو الآخر قد حمل على كل من يفضح جرائم الصهيونية بقوله الذي لا يخلو من الاستخفاف بالمؤرخين الإسرائيليين الجدد ضمن مقال نشرته “هآرتس” (24.12.2021): “ما الذي يريده كتبة المقالات عدا التشهير ببن غوريون وصحبه؟

وينبه راز لجهات إسرائيلية أخرى تبحث عن تبرير غير مباشر لاقتراف فظائع من خلال البحث عن “التناظر وعن المتماثل الافتراضي” وعما فعله الطرف الآخر مثل الصحافي الكاتب في “هآرتس” أوري مسغاف وذلك بهدف تهدئة ضميره”.

فقدان التسامح حيال الوجع الفلسطيني

وعن ذلك يقول آدم راز: “لا استطيع التحدث باسم كل كتبة المقالات ممن يستهدفهم بار زوهر لكن أمرا واحدا واضحا يستنتج من قراءة الردود الإسرائيلية على المباحثات حول الطنطورة: فقدان التسامح العميق من جهة يهود كثر حيال ألم الشعب الفلسطيني وبالأساس عذابات المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. بعكس حالات أخرى تكون فيها الضحية يهودية فإن اليهود يبدون بلادة إحساس بشعة جدا عندما يكون الضحايا فلسطينيين وعندئذ نشهد محاولات كنس المزاعم لسلة مهملات التاريخ. ويتابع راز: “هذا ما بعد الصهيونية”، يقول أحدهم فيما يقول آخر: “مناهض للصهيونية” فيما تصرخ إسرائيلية أخرى: “العرب هم من يقذفون بنا في البحر “وتقول زميلتها: “لا يجوز تصديق شهاداتهم وإفاداتهم فهم من أصحاب الخيال الشرقي”.

ويوجه راز انتقادات لهذه الأوساط اليهودية بالقول إنها تدع الحقائق جانبا خدمة لحديث أيديولوجي يكرّس واقع المتفوقين مقابل من هم في الأسفل وكافتهم يبحثون عن “تناسبية” أو حالة تماثل بين أفعال اليهود وأفعال العرب من أجل تخليص أنفسهم من مصاعب أخلاقية تطل أحيانا”.

مخاوف الوزراء الإسرائيليين

ويرى آدم راز أن ردود الفعل الإسرائيلية على ما نشره حول الطنطورة تؤكد كم صدقت مخاوف الوزراء الإسرائيليين ممن تباحثوا موضوع الفظائع اليهودية في الحرب خلال جلسات الحكومة في نوفمبر-ديمسمبر 1948. ويستعيد راز بعض أقوال الوزراء في الجلسات المذكورة منهم الوزير أهرون تسيزلينغ: “شعرت  أنه فقد تم شيئ يمس بروحي وروح بيتي وبأرواحنا كلنا. لم أفهم من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون. عرفت أن هذه ليست صدفة بل شيء يحدد مستوى حياة الأمة”. أما الوزير موشيه شابيرا فحدّق بالواقع وقال: “إذا كان هذا الوضع- لا أعرف من أي جهة يأتي خطر يهدد الدولة- من جهة العرب أو من جهتنا نحن أنفسنا. اعتقد أن أسسنا الأخلاقية تزعزعت ونحن بحاجة لمواجهة غرائزنا هذه”.

ويوضح راز في رؤيته النقدية أن اليهود “هضموا” أحداث حرب 1948 التي خدمتهم: طرد مئات آلاف السكان، تدمير بيوتهم، نهب ممتلكاتهم، تجفيف بياراتهم وحقولهم وأفعال أخرى. كل هذه الحقائق تم محوها من الذاكرة عمدا. من وجهة نظر اليهود فإن الشعب الفلسطيني الذي يقيم هنا ببساطة “اختفى”. من أجل تبرير وتعليل هذه النظرة تم  بسرعة البرق تطوير أيديولوجية لا علاقة لها بالواقع: الفلسطينيون هربوا بأوامر من قياداتهم خاصة أنهم رفضوا قرار التقسيم. بحوزتنا توثيق واسع لعمليات طرد في أرجاء البلاد تمت دون صدور تعليمات من قيادات عربية للفلسطينيين بمغادرة بلادهم وكذلك توثيق لاستنكاف الطرف اليهودي عن القيام بتطبيق حصته من خطة التقسيم الأممية لكن كل هذا لا يهم معظم اليهود”.

هتلر كان الأول

ويقول راز إنه من الصعب عدم الانفعال حيال قدرة الوزراء في الحكومة الإسرائيلية الأولى من رؤية ما ذكر بالضبط ويشير لما قاله الوزير مردخاي بن طوف الذي طالب بالتحقيق بـ”الهرب العربي واختفاء العرب فجأة وتابع (وفق مستند أرشيفي جديد) بلهجة ساخرة خلال جلسة الحكومة في نهايات 1948: “هناك مواثيق دولية خاصة بالسؤال كيف يجب التصرف مع مدنيين خلال حرب. بالطبع التهجير أمر سهل. هتلر كان الأول.. وهل هذا جدير أن يقولوا إننا نقاتل بخلاف ما تقتضيه هذه المواثيق العالمية؟ كل ما نقوم به هو مخالف للمواثيق الدولية”. ويتساءل راز: حقا من تهمه المواثيق الدولية في 1948 أو بعد 1967؟.

أساطير إسرائيلية

وعلى غرار رؤية الباحث الإسرائيلي شاؤول أرئيلي الذي صدر له قبل شهور كتاب عن الأساطير الإسرائيلية يقول راز إن أقوال الوزير بن طوف تتطرق لأسطورة إضافية تغلغلت في الرأي العام اليهودي في إسرائيل: شهدت البلاد حرب الكل بالكل، حرب جماعة بجماعة أخرى، عمليا وفي وقت مبكر، مارس/ آذار 1948، كتب بن غوريون أن سكان البلاد العرب غير معنيين بالقتال. بعد عدة شهور وعقب طرد وهرب معظم الفلسطينيين أوضح الوزير تسيزلينغ أن السكان العرب لم يقاتلوا. من قتل كانوا أغرابا. بكلمات أخرى فإن الأغلبية الساحقة من السكان الفلسطينيين لم يحاربوا وعشرات الآلاف منهم طردوا من منازلهم بالقوة”.

حالة إنكار إسرائيلية

ويؤكد راز، صوت إسرائيلي في البرية، أن قلة الإصغاء وعدم الدقة والخلط بين قضايا مختلفة كل ذلك تم افتضاحه في قضية الطنطورة. ويقول إن الطنطورة نموذج مثير لتصادم التاريخ (ما حصل فعلا) مع الكتابة والبحث عن التاريخ، منوها لنعت جهات إسرائيلية كل ما كشفه فيلم “طنطورة” للمخرج السينمائي ألون شفارتز وكل ما كتبه راز نفسه عن هذه المذبحة بـ”الأخبار الكاذبة”. يشار إلى أن المؤرخ الإسرائيلي يوآب غلبر قال في مقال واسع نشرته مجلة “ديوما” في الأول من فبراير/ شباط المنتهي إن “مذبحة الطنطورة” ليست سوى “اختراع متأخر”.

كما كان غيورا اردينست محامي الدفاع عن جنود وحدة “الكسندروني” التي احتلت الطنطورة ونفذت المذبحة فيها ليلة 22 مايو/ أيار 1948 قد زعم أنه لا يستخف بخطورة أعمال ربما تمت على هامش القتال من قبل الطرفين وربما شملت بعض عمليات قتل مقاتلين بعد استسلامهم لكن الفارق بين هذه الأفعال وبين ارتكاب مذبحة هو فارق كبير”.

عن محاولة محامي الدفاع تبييض ما جرى وتشويه الحقيقة التاريخية يقول راز إنه حتى لما قتل مقاتلون عرب بعد انتهاء المعركة كما يزعم اردينست تبقى هذه أيضا جريمة حرب. كما يتنبه راز للفارق بين أقوال المحامي غيورا اردينست قبل 20 سنة حينما رفع دعوى تشهير ضد الباحث الإسرائيلي تيدي كاتس الذي أكد في وظيفة ماجستير في جامعة حيفا ارتكاب مذبحة في الطنطورة وبين أقوال المحامي نفسه قبل شهر وفيها قال ربما قتل “عدد من المقاتلين في هامش الحرب بعد استسلامهم” وهذا ما تنكر له بالكامل قبل عقدين.

ويشير راز إلى محاولة المؤرخ غلبر استخدام لغة حذرة زاعما أن هناك شروحات متوفرة حول معركة ربما شهدت عمليات فردية شاذة”. ويتساءل راز ضمن مناقشة الجهات الإسرائيلية المتنكرة للحقيقة التاريخية: لماذا يستخدم غلبر لغة “مغسولة”- “أفعال شاذة”؟ ويضيف راز” حتى لو كان هذا ما وقع فقط فإن الفعل الشاذ يبقى جريمة حرب”.

عدد ضحايا الطنطورة ووزن الشهادات الشفوية

ومع ذلك يقول راز إنه رغم اختلاف موقفه عن موقف شيلون الداعي للتباحث في القضية بعيدا عن أعين وآذان الجمهور لكنه يرغب بالتوقف عند نقطتين: عدد الضحايا ووزن الشهادات الشفوية. ويضيف “يتطرق المحامي اردينست لكتاب يحيى محمود اليحيى، طنطورة: قرية دمرت على يد الاحتلال الصهيوني” ويحتوي على قائمة بـ52 شهيدا قتلوا في الحرب.

ويقول راز أيضا إن اردينست كتب أن عدد الشهداء حسب الكتاب الفلسطيني المذكور يتطابق مع تسجيلات الجيش الإسرائيلي وتقارير وحدة الكسندروني. ويضيف “بحال نشر اردينست سجلات الجيش المؤيدة لفحوى الكتاب المذكور تكون هذه مساهمة حقيقية للبحث العلمي. في تقرير ضابط الاستخبارات الخاص بوحدة الكسندروني جاء بعد احتلال الطنطورة أنه تم قتل 20 ضحية وهذا سبب وجيه بالنسبة لراز للتشكيك بالوثائق خاصة أنه المستند الوحيد الذي كتب وقتها ومعروف بللباحثين ومفتوح للمطالعة.

ويتابع راز “لم يزعم جنود وحدة الكسندروني يوما أن الطنطورة شهدت قتل 52 عربيا. يتسحاق شيمي أحد قادة هذه الوحدة قال عام 1978 أن 70 قرويا من الطنطورة قتلوا خلال احتلالها أي أكثر بـ50 ضحية مقارنة بما جاء في التقرير المكتوب بعد احتلال القرية فورا. لو عاد اردينست لما نشر في موقع الكسندروني تحت عنوان “القصة حول الطنطورة- نهاية قرية الدم” لكان قد قرأ العبارة التالية “تكبد العدو نحو 70 ضحية”، وهذاما أكده جنود الوحدة في المحكمة خلال التباحث في دعوى التشهير التي قدموها ضد تيدي كاتس.

دفن الشهداء

ويستذكر راز أيضا شهادة مكتوبة لمختار مستوطنة زخرون يعقوب المجاورة يعقوب ايبشطاين، عثر عليها في أرشيف المستوطنة ويقول فيها: “عالجت موضوع الأموال المتروكة في الطنطورة وقمت مع بعض شباب قرية الفريديس العربية المجاورة بدفن حوالي 75 جثة بينهما بعض النساء”.

ويتساءل راز بسخرية ضمن مناقشته الأوساط الإسرائيلية المتنكرة للمذبحة بالقول: وهل ايبشطاين أيضا مصاب بالخرف؟ وينوه أن غلبر واردينست يوليان أهمية كبيرة لكتاب اليحيى لأنه ابن الطنطورة فيكتب غلبر: “كتب اليحيى كتابه عن تاريخ الطنطورة بشكل عام وكرس فصلا لوصف المعركة دون ذكر كلمة مذبحة”. عن ذلك يقول راز: “غلبر الذي لا يجيد العربية طلب من طالب عربي ترجمة بعض مقاطع الكتاب. الكتاب فعلا يشمل سجلا بـ52 ضحية في الطنطورة لكن اليحيى في الواقع يذكر أن 52 شخصا قتلوا خلال المعركة وما يلبث أن يستكمل بالقول: فيما يلي ما تعرض له أهالي الطنطورة” ويقدم نماذج عن جرائم الحرب البربرية ارتكبت بعد انتهاء القتال (على هامش الحرب بلغة اردينست) ومما قاله الـ يحيى؟: “أمر الجنود خمسة شباب من الطنطورة جمع الجثامين من شوارع الطنطورة فتم نقلها لحفرة وبعد انتهاء عملية الدفن قام أحد الضباط بإطلاق الرصاص عليهم من الخلف وهم يقفون على حافة الحفرة فسقطوا وتراكموا على جثث أبناء بلدتهم”، منوها أن يحيى يشدد على أن هؤلاء لم يردوا في قائمة اـ 52 ضحية ويضيف راز “باختصار يعتمد غلبر واردينست على كتاب فلسطيني ينسف مزاعمهما.

ويوضح راز أنه مضطر لمعالجة مسألة عد الضحايا كي يواجه محاولة دحض الحقائق التاريخية حول ارتكاب فظائع مشددا على أن شهادات جمعها الباحث تيدي كاتس والمخرج شفارتس تسلّط ضوء مهما ومثيرا على ما شهدته الطنطورة. ويؤكد راز أن غلبر واردينست يستخدمان عدة حيل للطعن برواية شفارتس وكاتس منها الطعن بالمصادر الشفوية عندما لا تكون مريحة لهما. ويتابع “ببساطة، يتجاهل غلبر واردينست من مخزون شهادات بحوزتنا والمؤرخ غلبر لم يسمع حتى شهادات الجنود الإسرائيليين وهناك شهادتان يمكن سماعهما الآن في موقع “هآرتس” وهما تنطقان بالحقيقة وإحداهما لشلومو امبير التي تنسف مزاعمهما.

الاستنتاج القالطع

ويؤكد راز أنه سمع كافة شهادات جنود وحدة الكسندروني التي جمعها كاتس قبل 22 عاما ومنها تصرخ حقيقة قاطعة: في الطنطورة ارتكبت مذبحة. ويقول واحد من هؤلاء الشهود بصوته: “تقدم جندي لمجموعة رجال عرب في الطنطورة يقدر عددهم بـ20-15 أسيرا وقتلهم كلهم. عندما عبرت عن دهشتي واشمئزازي قالوا لي: لا تجزع هذه عملية انتقام”. ويتساءل راز مجددا باللهجة الساخرة إياها: هل أصيب كافة جنود وحدة الكسندروني بالخرف؟ لماذا يتجاهل غلبر واردينست هذه الاعترافات؟.

ويخلص راز الذي يغرّد خارج سرب المؤرخين الإسرائيليين بالقول “طبعا هناك شهادات فلسطينية كثيرة ومتنوعة منها المسجل ومنها المصور كشف عنها طيلة سنوات وتحتوي على تفاصيل غزيرة حول ارتكاب مذبحة الطنطورة ودفن الضحايا لكن أحدا لا يصغي لهم. ويختتم باللهجة الساخرة “هؤلاء ببساطة يكتبون ويتحدثون بالعربية، نحن لا نصدق هؤلاء، هم الفلسطينيون ممن نأكل لديهم الحمص في مطاعم قرية الفريديس المجاورة. نصدقهم بمقدار أقل ففي نهاية المطاف لدى هؤلاء خيال شرقي”.

المصدر … القدس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق