مقالات

بالعلم والمناهج والتجديد تُبنى الأمم؟ الدكتور علي خشان- وزير العدل الفلسطيني الأسبق

الغاية من التعليم يجب أن تقوم على احترام حقوق الإنسان والمواطنة وتشجيع التفكير العلمي

قد لا يستهوي هذا الموضوع الكثير من القراء باعتبار أننا ألفنا السياسة ونعيش في دهاليزها ليل نهار وأصبحت كالزيت والزعتر نتناولها مع فطورنا الصباحي.

ولكنني رأيت أن أبتعد قليلاً من السياسة ما استطعت الى ذلك سبيلاً محاولاً الولوج في عالم المناهج والتجديد، بخاصة أن معظم المناهج في بلادنا العربية تلقينية تمنع التفكير وتصب المعلومة صباً في عقول المتلقين وتسقيهم المنهاج كدواء لا خيار لهم إلا أخذه بحجة الشفاء؟

كما أن المناهج لا تقوم في كثير من الأحوال على التفكير والحوار والبحث العلمي والتسامح وحب الآخر، وتكون في معظم الأوقات مقولبة ومحددة مسبقاً بلا روح أو فكر أو إبداع وتنتهج ما أسميه بسياسة الترفيع الآلي بهدف الحصول على الشهادات من دون نظر للنتائج وقياس التطبيق على أرض الواقع ومدى انعكاس ذلك على المجتمع ومدى استفادته منه.

إن الغاية من التعليم يجب أن تقوم على احترام حقوق الإنسان والمواطنة وتشجيع التفكير العلمي والابتكار وتعزيز الاستقلالية والاهتمام بالتنوع الثقافي واحترام الحق بالاختلاف والحوار واحترام تعدد الثقافات، وأن توضع تشريعات تربوية وتعليمية تقوم على فلسفة واضحة ومرتكزة على أن التعليم حق وأن القراءة والاطلاع حق والتنوع في المعلومة حق وأن الاحترام حق وواجب قانوني وأخلاقي، وأن التسامح منهج حياة؟

حياد أو لا حياد هذا هو السؤال المصيري
لا بد من تطوير القدرات وفق أعلى المستويات من التأهيل والتعليم والتدريب، للتكيف مع التطور في المجالات الفكرية والعلمية والتكنولوجية وتطبيقاتها والتركيز على مهارات المشاركة والمبادرة والإبداع واتخاذ القرارات والتفاعل والتواصل، والنظر الى النماذج المميزة التي أظهرت نجاحاً عملياً يمكن القياس عليه والاستفادة منه، بدلاً من الاعتماد على التقارير الرسمية التي تكتب كل عام بطريقة نمطية وبالقلم عينه وبالعقلية عينها وبالمعلومات نفسها.

يجب أن يعبر المنهاج عن الهوية الذاتية والوطنية والانتماء والتركيز على المواطنة وثقافة الواجب، واحترام خيارات الآخرين الروحية والفكرية والثقافية، والحد من العنف والتقليل من الغلو والتطرف لكي لا تكون هناك فجوة بين ما نتعلمه وما نعيشه وما نمارسه في حياتنا.

وتأسيساً على ما تقدم تعمل بعض المؤسسات التعليمية وفق هذا النهج الذي ندعو اليه وينعكس تأثيرها الواضح والايجابي على المجتمع وتفاعلها مع المحيط العام حيث تؤثر فيه وتتأثر به، ويظهر ذلك جلياً في التجربة الرائدة لجامعة القدس العربية في مدينة القدس المحتلة التي تضع لها هدفاً واستراتيجية تقوم على رفع راية التعليم النوعي المميز ومقاومة المحتل ومواجهة مخططاته في تهويد المدينة المقدسة وتعزيز صمود الشعب والمجتمع بما تقدمه من خدمات أكاديمية ومجتمعية وثقافية للطلبة والمجتمع.

كما نرى ذلك جلياً أيضاً في استراتيجية جامعة الخليل الوطنية التي تقاوم وجود قطعان المستوطنين والمتطرفين في مدينة خليل الرحمن وتقف حجر عثرة في مواجهة مخططاته للاستيلاء على المعالم الثقافية والحضارية والدينية وعلى رأسها المسجد الإبراهيمي الذي تدنسه سلطات الاحتلال وتقسمه زمانياً ومكانياً.

ولم تتوقف كل من الجامعتين عند حد تقديم المساعدات المجتمعية والأكاديمية بل ذهبت الى تقديم المساعدات المالية للطلبة وبعض العائلات على الرغم من الظروف الصعبة التي تمر بها والإجراءات القمعية والتعسفية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي؟

وفي هذا السياق، نجد أنه من الضروري الاستفادة مما تقوم به تلك المؤسسات الأكاديمية في فلسطين والتي أشرنا اليها في وضع مناهج تدمج ما بين النظرية والتطبيق وتهدف لتطوير المجتمع ورفعته واحترام حقوق الإنسان والتركيز على المواطنة وتنمية الذات والمجتمع بحيث تكون تلك المؤسسات هي الموجه والمرشد للمواطن وليس لطلبتها فقط، وهذا بدوره يساعد في مكافحة التشدد والتطرف في بعض مجتمعاتنا، هذا التطرف الذي أضحى ضيفاً ثقيل الظل وليس بمارق عابر، ينتج ويجهز في مصانع التحريض المذهبي والطائفي والتطرف السياسي والديني المقيت وسياسة تصفية الحسابات عن الحاضر والماضي السحيق.

لقد آن الأوان أن تتصدى مؤسساتنا الأكاديمية لمشاكلنا الاجتماعية والمجتمعية وتجد لها حلاً بدلاً من القعود ووضع كل مشاكلنا على حمالة الاستعمار، وإن لم نفلح فالفقير يحملها للغني والعلماني للمتدين، وكأننا أمة لا حول لها ولا قوة الا جلد ذاتها وإلقاء أسباب تأخرها وتفرقها على الآخرين.

علينا الاستفادة من قيم الحداثة والتنوير والقيم الدينية بدل أن ننشغل بالاقتتال الداخلي والاحتراب المذهبي والاختلاف السياسي غير السلمي وكأننا نعيش في عصور الظلام أو الجاهلية الاولى.

وعلى الرغم من تداعيات الربيع العربي الذي حاول استبدال الاستبداد بالحرية والديموقراطية فإذا بنا نعيش استبداداً أشد وأقسى وديموقراطية غير قابلة للتطبيق وغير قادرة على فرض نفسها على شعب لا يفهم جوهرها ولم يتعلمه واقعاً بالمدارس والجامعات أو من طريق ثقافة حزبية إن كانت هناك ثقافة حزبية حقيقية في وطننا العربي.

وفي خضم هذا الصراع والنزاع والتخبط والفوضى برزت سلطات جديدة وحكومات عسكرية وقوى ظلامية ناشئة تستغل ما جرى ويجري في المنطقة لتمرير برامج عنف تارة بلباس عسكري، وتارة إملاءات بعباءات وعمائم تتكلم باسم الله وتفرض مزيدا من التطرف الديني بدلا من التسامح والتنوير ومزيدا من الديكتاتورية والاستبداد بدلاً من الديموقراطية والبناء والإصلاح.

ما يجري في عالمنا العربي لم يحرر العقل العربي من قرونه الوسطى بل انغمس فيها وزاد إيغالاً في كل ما يقوم عليه من فكر متطرف وفلسفة تقوم على القمع وسجن كل صاحب معتقد ورأي، والقتل والتكفير بدلاً من الفكر والتعليم والتعمير.

لقد أضحت نظرية محاربة الإرهاب من الأركان الأساسية التي تقوم عليها الاستراتيجيات الأمنية في المنطقة، بخاصة مع غياب الوعي وتراجع الاصوات الداعية للحرية والديموقراطية وعدم قدرة القوميين على إيجاد حلول لكثير من المعضلات والمشكلات التي تعاني منها الشعوب وعدم قدرتها كذلك على الوصول لعقول نشأت في ظل نفي العقل لحساب النقل والتلقين، ووصل الأمر في بعض الأحيان أن تنضوي أوساط تسمي نفسها بالأكاديمية في عالمنا العربي تحت لواء التطرف السياسي للحكومات العسكرية أو الاستبدادية أو الديني لبعض الجماعات، مما جعل حالنا في الوطن العربي يشبه الوضع الذي كانت تعيش فيه أوروبا في عصور الظلام والمعاناة من التخلف والاستبداد السياسي والديني.

وأدى هذا الأمر الى تراجع واضح للفكر والتعليم في عالمنا العربي، فهل آن الأوان لكي تكون مناهجنا بعيدة من التطرف السياسي وقمع الحكومات وتأثيرات المتطرفين؟

واقعنا العربي مؤلم وصعب اختطفت فيه آمالنا في الحرية والديموقراطية من تنظيمات متطرفة وحكومات دكتاتورية ودول بوليسية اغتصبت السلطة واستباحت الوطن، والسلطة التي تصل للحكم على ظهر دبابة وبمساعدة العسكر لا تؤمن بالتعددية السياسية والثقافية ولا تتسامح مع شعبها أبداً وترفض مبادئ دستورية راسخة مثل المواطنة والعدالة والمساواة وتميز بين المواطنين وفقا لمعتقداتهم وانتماءاتهم وتتعامل معهم وفقاً لمدى تأييدهم للنظام وتستبدل الديموقراطية والحرية والتعددية بسكين الذبح وسيف القتل وخنجر التخلف المزروع في ظهور الأمة وضد المعارضين لها والمختلفين معها بالفكر والمعتقد أو حتى بالرأي والفكرة.

وتطرح تلك التنظيمات والدول البوليسية والحكومات المستبدة نفسها كفكر منزل من السماء نهائي غير قابل للمراجعة أو النقاش، فكر معصوم من الخطأ والزلل ورؤيا الهية لا تخضع لآراء البشر، ولن تستطيع أن تقيم برنامجها السياسي “إن كان لها برنامج سياسي حضاري” على العدالة والحرية والمساواة والتعددية؟

وهل يمكن إقامة دولة متمدنة على رؤية شخصية لزعيم، أو فتاوى وأفكار تكفيرية وفقا لتفسيرات غريبة وبدون تطوير في ميادين العلوم والتعليم والصحة وغيرها وبدون دولة مؤسسات ورقابة وسيادة القانون واستقلال القضاء أو دون مبدأ الفصل بين السلطات؟

نحن نخدع أنفسنا بالقول بأننا استثناء عن البشر ولا تنطبق علينا نواميس الطبيعة رغم أن حاضرنا أسود ومشاكلنا كثيرة وما زلنا نعيش الماضي ونجتره ولا نتعلم من التاريخ ونهضة الأمم وتطورها.

إن التعليم وإعمال الفكر والتسامح حرر الإنسان من قيود الخوف ودفعه لصياغة قوانين تتسم بالانسانية والمدنية والحضارة والاستقرار المجتمعي وأبعده عن العنف والتعصب قدر المستطاع.

ليس المطلوب أن (نتعلمن) كي نصبح أكثر حضارة وتطوراً، حاجتنا الى التعليم والحرية والمساواة والعدالة والتسامح تبدو اليوم أكبر في ظل تصاعد الأصوليات، وازدياد حكومات العسكر التي تمدد لنفسها الى ما لنهاية، ونشوء البرلمانات التي تعمل بالتقادم بأثر رجعي ومستقبلي دون تفويض شعبي.

إن التقريب بين المذاهب والمشارب والطوائف والأفكار والأحزاب هو الذي يقودنا للتطور وإثبات وجودنا الحضاري والانساني بين البشر والحضارات وفي غياب الحوار وغياب الآخرين وغياب المعارضين الوطنيين تغدو الخيارات صعبة ومحدودة!

هذه معالم الطريق علينا أن نسلكها بالعلم والمعرفة والمحبة والتسامح والمواطنة حتى لا نضل الطريق ويصبح بأسنا بيننا شديداً.

[email protected]

المصدر : موقع صحيفة النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق