الرئيسيةمنظمة همسة سماءنشاطات
مقدمة الديوان الشعري للدكتورة فاطمة ابوواصل اغبارية ( همس القوافي) بقلم الاستاذ الكاتب فوزي الخطبا
يظل الحرف مفتاحا من المفاتيح التي تلقي ضوءا على الذات التي احتضنته ومر بمخاضه فيها قبل أن يصل إلى المتلقي.
وحروف الشاعرة الدكتورة فاطمة إغبارية – سواء على صعيد البنية المفردة أو التركيب الأخاذ – تشف عن روح نقية شفافة تبيت بمنأى عن ملوثات الحاضر وتمتح من مخزون إحساس متدفق متراكم مثل رحيق الأزهار، وتقف على أرضية صلبة من الإيمان بمبادئ وقناعات راسخات حول فناء هذه البسيطة وعناء اولئك الذين يتخذون منها دار اقامة في وقت ينبغي فيه ان لا تعدو في ميزانهم كونها محطة عبور يعيش فيها الفرد متسلحا برؤاه وايمانه وخلقه وقناعة اكيدة برحيله ليلاقي نتاج وحصاد اعماله.
فالمنطقة الروحية التي تنطلق منها حروف اغبارية منطقة نقية عميقة زاهدة تضرب صفحا عن مغريات الحياة لتصنع لنفسها ومن نفسها ايقونة اخلاقية ترزح في عالم محاط بكل شيء ويحتاج لكل شيء بما فيه الخلق، إلا قلة قابضة على جمر المبدأ والخلق في زمن الانحلال في كل شيء والتحرر من كل قيد والسفور بكل شيء.
في مفردة الدكتورة فاطمة إغبارية شفافية قادرة على جعل القارئ يبلغ نخاع الفكرة فيتماهى معها مذ ميلادها في أجنة روح الشاعرة وعبر رحلة اكتمالها في وجدان المتلقي لتعيث فيه سعادة وتومض ملمحة إلى أعماق الفكرة وجذوة الإحساس بها، فلفاطمة موسيقاها الخاصة التي تتشكل ايقاعاتها على لحن الروح التي تبوح في لحظة مكاشفة شفيفة للقارئ تخلع عن عينيه الحجاب والعوائق ليصل بأذنيه الى ايقاع المفردة المستجلبة بعفوية مقصودة دون تقعر او صنعة او استنفار ابجدية، تعضدهما عيناه وهو يتصور مشهدا مرسوما بإحساس غير انه بريشة الحرف لا ريشة اللون، وكأن الكتابة –هنا- شكل من اشكال الرسم، غير انه رسم بالكلمات.
ولأن المفردة –مهما كانت محملة بالدلالة والإيحائية – تظل منتمية الى حضن اليتم ومنطقة الحياد ما لم يتم تسييقها في سياق مناسب، تأتي تراكيب اغبارية الشعرية لتهب المفردة المعجمية روحا كأنما تنفخها فيها لتهبّ مشكلة مع السياق والنسيج الشعري دلالات فاقعة اللون قانية الفكرة عميقة الشعور واضحة الاحساس، في وقت تحتفظ فيه لنفسها بتمنعها لتستثير شهية الابحار والتلقي والتأويل في نفس القارئ، وكأن هذه التراكيب تبسم حينا لتجذب القارئ وتثير غواية القراءة في نفسه، ثم تعبس لتضاعف من منسوب التعمق في القراءة لبلوغ المعاني الساميات التي تحملها الجذوة الشعرية في القصيدة.
وتحافظ الشاعرة – مع هذا كله – على تلاحم أطراف القصيدة مع متنها لتصنع صورة مكتملة لغة وبوحا واحساسا وتثويرا وفكرا، ولهذا تأتي قصائد اغبارية لتمسح على الوجدان ، كطبيب يحمل قطنة يمررها على مناطق الوجع ومكامن الألم، لتصنع من الألم محفزا للأمل تارة، وعنوانا للسعادة تارة أخرى، لأن في المكابدة الدنيوية سعادة أخروية، حرصت اغبارية على التأكيد عليها في خضم متونها الشعرية التي جاءت صورة صادقة عن روحها.
إن القصيدة التي لا تمتلك قدرتها على الايماض الشعوري ولا تمارس دورها في ايقاظ جذوة الاحساس تظل قصيدة جافرة خاوية تحتفظ لنفسها بهيكل بنائي خاو دون روح تعيث فيه احساسا وشعورا، وقد تنبهت اغبارية الى هذا فجاءت قصائدها مشربة بالاحساس طافحة بالشعور بشكل تجعل معه القارئ يبكي لوجع الألم ويسعد بفرح الأمل، ويتوضأ بالحب والإيمان وهو يترنم على ايقاعات لغوية محملة بالعاطفة الموشحة بالفكرة بأسلوب شعري قادر على هضم الفكرة وتصييرها كتلة شعرية مضيئة تصل الى اعماق المتلقي دون الاحتفاظ بتقريريتها ومباشرتها، فجاءت القصائد تحمل معاني ساميات أفردت لها القصيدة متسعا في صدرها في زمن باتت فيه القصيدة عموما تهويمات سوريالية وايحاءات آيروسية بشكل أو بآخر، فتأتي قصائد اغبارية لتحمل معاني عميقة سامية تلفت القارئ عندما يتناول قصائدها وتبدو فيه جلية.
فعن الموت والفناء والرحيل تقول : ” مهما يطول بك الأمد- فتسترحلنّ ومنفردا ” ، وتفرد قصائد تمور بها الايمانيات والاسلاميات كقصائدها ” يا غافلا” و ” ذكر الحبيب ” ، وتذكّر بالرحيل وأن هذه الدنيا محطة عبور فتقول : ” واذكر أخي أننا نبقى على سفر – هذي الحياة رجا من غرْسُهُ العدم ” وتقول : ” فبئسا لمن راح يبغي الخلود- وصوت المنية ملء الوريد “.
وفي إطار الخلق والحث على محاسنه ونبذ مساوئه والتقاعس والتخاذل تقول : ” طيب المبادئ في الاسلام أن نرقى – دينا وعلما وأن يسمو بنا الخلق “، وعن ضياع القيم في مسعى لاستعادتها والتذكير بقيمتها تقول : ” يا ليت شعري كيف ضيعنا القيم – قم يا أخي كافح توافيك الهمم ” و ” يا ظالما هلا ذكرت رحيلا – ووقوفكم يوم الحساب طويلا ” .
ولأن الشاعر يفقد شيئا من كينونته وهويته إذا ابتعد في شعره عن الوطن وهمومه وتطلعات بنيه وبناته كما لو كان يخونه حرفا ورسالةً ، ظل الوطن محتفظا بمساحة دافئة في شريان الشاعرة الشعري فتقول : ” أعشق الأرض ولكن – سلبوا الأوطان مني “، وتقول : ” أواه يا صبح هذا حال أمتنا – هانت وقد ضيعنا مجدا بنيناه “.
أما فلسطين فما غابت عن ذاكرة الشاعرة ووجدانها، فهي البقعة المباركة التي أطلقت فيها الشاعرة صرختها الأولى فحملت القضية الفلسطينية هما ورسالة ورؤية وموقفا، وفي هذا الإطار جاءت قصيدتها ” الأقصى ينادي” صرخة مدوية تقول فيها:
حزنٌ ألَمَّ بِخاطِري أشقاني أبكى عيوني لوعَةً وجَناني
لما أتانا العيدُ يَحمِلُ فَرحَةً حتى غَدَوتُ به كَما النّشوانِ
وأرى الفقيرَ وقد تَثاقَلَ بالخُطى والهَمُّ يحمِلُه كَما السَكرانِ
وتراهُ مَهموماً يُفَتِّش عَن رَجا – ويرى العداوَةَ مِن بَني الإنسان
أوّاهُ من يومٍ يَكونُ بِهِ اللّظى أوَما عَلِمتم؟ كُلُّ شيءٍ فاني
يا خالقَ الأكوانِ تعلَمُ شَكوتي الظُّلمُ أصبَحَ سَيِّدَ الأزمان
والنّاسُ في أيّامِنا عَجَبي لَهُم تَبِعوا الهَوى فرّوا مِنَ البُرهان
وتفرّقَ الإخوانُ ما عادَ الصّفا نهجَ الأحبّةِ جامِعَ الخِلّانِ
وغَدا شديدًا بأسُ قومي بينَهُم سادَ الأعادي أمَّتي بِهَواني
سالَت دماءُ شُعوبِنا عَمَّ الأسى والقدسُ والأقصى الشّريفُ يُعاني
أوّاهُ مِن قَلبٍ يُكًبِّلُهُ الأسى يشكو المهانَةَ مُثقَلَ الأحزان
يمضي اللّيالي ساهراً مُتكَدِّراً والنَّاسُ في ظُلمٍ وفي حِرمانِ
يا ربِّ فارحَمنا وأصلِح شَأننا واغفِر لعبدٍ زادَ بالعِصيانِ
ولأن الشاعر إنسان لا يكتب شيئا إلا وهو يحس به ويستشعره حضورا أو غيابا، كانت الأم الغائبة حاضرة في شعرها، إذ تقول:
” البيت أقفر والأيام موحشة – غياب نورك يا أماه أشقاني ” .
وشاعرتنا صاحبة نزعة عروبية أصيلة تؤمن بوحدة الدم والآلام والهم والمصير، وأن الأمة العربية من محيطها الهادئ الى خليجها الهادر أمة واحدة مهما اعتراها من وهن أو ضعف أو نزلت بها النوازل، ستنهض من كبوتها وتعود سيوفها مشرعة ورماحها مسنونة وراياتها مرفوعة لتعود أمجادها التليدة. وما أجمل ما باحت به الشاعرة من مشاعر جياشة وإحساس صادق، حين قالت:
“صبرا عروبة إن ألمّ مصاب – فالصابرون على الأذى أحباب
صبر الكريم على قضاء نازل- صبرا فربك شاكر وهاب
فالله لولا فضله وعطاؤه – انتم وما قد تملكون سراب
ولتذكري والذكر ينفع أهله – مجدا وإرثا ضيع الأصحاب
بتنا تؤرقنا الهموم مقيمة – والصبر يعيي إذ يطول مصاب
والحزن في الأعماق ينكأ جرحها – والنفس كلمى والخطوب حراب
أمام هذه المضامين الشعرية العميقة نجدنا أمام شاعرة يصدح صوت ضميرها الحي ماتحا من روحها الطيبة وإحساسها النقي ليكشف – ضمنا –عن رؤيتها العروبية الإسلامية ونهجها القومي الذي لا ينسلخ عن قضايا الأمة ولا يزاول الصمت أمام صراخ الثكالى ونوح اليتامى وأنين المقدسات وعويل المفجوعين والأسيرات.
ولا تعدم الشاعرة وسيلة مناسبة للبوح وإيصال صوت الأنثى النفية القوية فيها إلا وتستخدمها مراوحة بين سلاسة اللغة تارة وعمقها تارة أخرى موظفة المحسنات البديعية اللفظية والمعنوية متكئة على ثراء كبير في معجمها اللغوي الذي تجهد ساعية للاختيار منه والنهل مما تأصل وتقادم من مفردات لتعيد بث الروح فيها في وقت تعيد فيه قصائدها بث الروح في النفس حماسا للدين والخلق والايمان وتوقا لرؤية وجه النبي وحرصا على صورة الأنثى النقية الطاهرة.
الوطن والأم والآخرة والأنثى مضامين ومفردات سيطرت على المساحة الشعرية في روح الشاعرة اغبارية، وكأني بها تريد أن تقول إن كلا من الأم والآخرة والأنثى وطن، فالأم – التي بثت الشاعرة حاجتها لها ووجعَها بفقدها- وطن كانت تفيء إليه كلما ناءت روحها عن احتمال الأذى والألم والهمّ، والأنثى – التي أرادتها في قصائدها بأجمل صورة وأطهرها – وطن تلوذ به الرجال والأطفال والآمال كلما جنّ الليل أو قلب الزمن لنا ظهر المجن أو فروته، والآخرةُ – التي ركزت الشاعرة على أنها المقام والمنتهى- وطن نقترب منه بمقدار ما نغرس في دنيانا له.
ولئن كانت المضامين أوطانا، فإن الحامل، وهو اللغة، كان وطنا لقصائد اغبارية، يحتويها ويحتضن عاطفتها، وفكرتها، وخيالها الثانوي العميق المتقد، ليصنع منها جميعا نصا شعريا طافحا جمالا نابضا شعورا مشتعلا احساسا عميقا فكرة، هادئا سمتا.