مقالات
فاطمة عطفة: خبز الأمهات غذاء روحي
قبل أن تسيطر العولمة على العالم وتدخل إلى بيوتنا وتتحكم حتى بمطابخنا وألوان طعامنا، كان بعض أساتذتنا يقولون أن العالم يعتمد على ثلاثة أنواع أساسية في غذائه: القمح في بلادنا العربية والشرق الأوسط بوجه عام، والبطاطا في أوروبا، والرز في الشرق الأقصى، لكن هذا التقسيم لم يعد واردا لأن ألوان الطعام في العالم صارت موجودة في كل مكان. وما يهمني في هذه الخاطرة أن أتحدث عن الخبز، وأستعيد أجمل ما في ذاكرتي عنه. إن الخبز من أهم المواد الغذائية في حياتنا وهو مصدر غذاء أساسي للجميع وخاصة للعائلات ذات الدخل المحدود، كما أن رغيف الخبز يحظى بتنوع في تصنيعه في جميع دول العالم، ولا سيما في فرنسا وإيطاليا حيث تنجز الأفران منه أشكالا وأنواعا متعددة. لكن خبز التنور المنتشر في القرى العربية والباكستانية والأفغانية يبقى له مذاق مختلف، ربما لأنه يعجن بالأيدي العاملة وليس بالعجانات الآلية، هذا بالنسبة لباكستان وأفغانستنا حيث تنتشر مواقع “التنور” في العديد من الأسواق الشعبية في أبوظبي مما يجعل رائحة الخبز منعشة، إضافة إلى منظر أصحاب الدخل المحدود وهم يقفون بالدور ليحصل واحدهم على رغيف أو رغيفين. إنه منظر إنساني رائع. بدرهم واحد يأخذ العامل رغيف خبز يمكن أن يأكل به حبة بندورة أو قرصين من الفلافل مع قارورة لبن، ويحمد الله على النعمة ودوام العافية.
أمر بهذه المخابز وأتأمل المشهد كل يوم، لكنها الذاكرة سرعان ما تعيدني إلى أيام الطفولة عندما كنا نقف بجانب أمي وهي تقف أمام فوهة التنور الحارة وتخبز لنا أرغفة متنوعة.. بين رغيف مشروح أو كماجة سميكة مقمرة أو سمونة أصغر، ويأتي بعدها مناقيش الزعتر والجبن واللبنة والمحمرة والكشك، إضافة إلى فطاير بسلق وسبانخ وقرناية والكثير الكثير. لم أكن وحدي بالقرب من أمي لأساعدها في رق العجين بل تجد معها الجارات (أم محمد وأم رياض وأم إبراهيم) وكل واحدة تأخذ بلاطة وترق عليها قرص العجين حتى تتسع دائرة الرغيف الذي يمر من يد إلى يد أخرى حتى يصل إلى الأم الواقفة أمام التنور.
هذا التعاون في الخبز يأتي بالبركة والمحبة بين الجيران وأهل البيت، إنها الإنسانية المبنية على المساواة بين الناس، لا فرق بينهم إلا بمن يقدم عملا أفضل، عندما يمر الخبز بين هذه الأيدي المباركة التي تربي الأجيال وتصنع لهم أهم مصدر غذاء تجد البركة والمحبة بين الناس من أهل البيت والجيران والأصدقاء، إنها الألفة والإحساس بالآخر.
كم جمعنا التنور لنتلقف الأرغفة الناضجة والمقمرة على صفحته الفخارية المبنية من الطين الأحمر المخلوط بالجص، وعلى مسطبة التنور توجد أربع أو خمس بلاطات من الرخام الطبيعي يبدأ الرغيف بالتدوير والاتساع أولا، ثم ينتقل إلى مرحلة ثانية ليزداد رقة واتساعا.. وهكذا إلى أن يصبح شفافا مثل قلوب من يرققونه، حتى يصل إلى يدي أمي فتضعه على الكارة وترتب أطرافه وكأنها ترسم لوحة من عجين القمح البلدي، وإذا كانت كماجة تقلب وجهها على قماش الكارة لتكون مقمرة أكثر، ويمكن أن تدهن بالزبدة البلدية أو العسل أو دبس العنب. كل هذه المراحل يمر بها رغيف الخبز الذي كان ينضج في التنور بالقرى السورية. لكن قبل هذا التحضير يكون بالتعاون بين الجارات، كل واحدة تساعد جارتها وكان يتم اتفاق بين الجارات، كل يوم تخبز عائلتين أو ثلاث عائلات ليساعدوا بعضهم بعضا، وقبل الخبز تكون بعض النساء قد ذهبن إلى الأحراش ليأتين بالحطب لأن الخبز لم يكن على المازوت أو الغاز، كما هي الحال الآن. كان الحطب يقطع أخضر ويترك حتى ييبس ليكون وقودا، والحطب متنوع منه ما يشتعل بسرعة كنبات الشيح والقش والأعشاب الناعمة حيث توضع تحت الأخشاب لتبقى متوهجة مدة أطول، وتتم عملية نضج الخبز بأفضل طريقة. وبعدما ينتهي الخبز ينشر على قماش سميك أبيض يسمى الميزر، ليبرد ثم يوضع في الوعاء الواسع المخصص له كالجونة” أو “الطشت” ويرفع في بيت المونة.
إنها عملية تعاون كاملة متكاملة بين الأسرة والجيران والأصدقاء مما يجعل المحبة والتسامح يبدأ من رغيف الخبز لا أن نشتريه من السوبر ماركت ولا نشعر بالأيدي التي عجنته من المساء حتى الصباح ليعجن مرة ثانية ويترك ليختمر ويرتاح، ثم يقطع ويوضع على الميزر ليبدأ الرق والخبز. كان يصلنا من أيدي أمهاتنا لذلك هو معجون بجهد أمهاتنا ولهفتنا وحواسنا وخفقات قلوبنا. ومن لم يأكل من يد أمه يخسر الكثير الكثير، ولا يشعر بطعم الحياة وبركة الخبز، ومن ينسى ذلك المثل الذي يتردد على ألسنة الآباء والأمهات: لا بارك الله بمن يخون الخبز والملح!
المصدر : رأي اليوم