ثقافه وفكر حر

دولة يهود بيروبيجان… لماذا لم تنجح؟

كاتب فلسطيني سليمان الشّيخ

تذكر المصادر التاريخية أن مقاطعة لليهود كان قد تم الإعلان عن قيامها عام 1928 من القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي السابق، وتم استصلاح أراضيها وبعث الحياة فيها، بعد بذل جهود وإمكانات جبارة، وأموال طائلة. نظرا لوعورة المنطقة وتضاريسها المليئة بالأحراش والغابات والمستنقعات التي يكثر فيها البعوض وغيره من الحشرات والحيوانات المفترسة، كما كانت وما زالت تتعرض لأعاصير ورياح عاتية مع تساقط كثيف للأمطار والثلوج.

أطلق اسم «بيروبيجان» على المقاطعة التي يتكون اسمها من مقطعين لاسمي نهرين، هما بيرو أو بيرا وبيجان، يسيران فيها، وهما فرعان من فروع نهر آمور الذي يحاذيها من الجنوب – حيث الحدود الصينية ـ والجنوب الغربي. وتقع المقاطعة إلى الجنوب من إقليم خباروفيسك الذي يمثل ربع مساحة الشرق الأقصى السوفييتي السابق، والروسي الحالي الذي يحاذي الحدود الصينية واليابانية. ويمكن القول إن مشروع إقامة مقاطعة لليهود في تلك المنطقة، وفي زمن إدارة القيادة الستالينية للاتحاد السوفييتي السابق، كان من نوع إيجاد حل أو مخرج لمشكلة كتلة بشرية كبيرة تدين بالديانة اليهودية، تعرضت لمآس وصدامات دامية ومجازر مع شعوب المناطق التي تكاثرت وتجمعت أو كانت تسكن فيها؛ إن كان على الحدود البولندية السوفييتية، أو بعد إقامة كيانات خاصة باليهود في جنوب أوكرانيا، أو في شبه جزيرة القرم أو في أماكن أخرى.
وكان فلاديمير لينين، يدعو إلى الدمج والاندماج والتمثل، بين اليهود وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى في بلدانهم، وفي أماكن سكنهم الأصلية. كما ان ستالين أورد في كتابه «الماركسية والمسألة الوطنية» عوامل وحيثيات وشروط تكوين الأمم والقوميات، بصورة لا تتوافق مع الدعوة الصهيونية، التي تعتبر اليهودية ديانة وقومية في الوقت نفسه. ورغم أن الدستور السوفييتي كان ينص على توافر وجود أغلبية سكانية من شعب أي قومية أو إثنية في المكان أو المنطقة، حتى يطلق عليها اسم تلك القومية أو المجموعة؛ فإن التجمع اليهودي في بيروبيجان، اعتبارا من بدايات تكوين المقاطعة فيها عام 1928، وفي مراحل لاحقة وحتى اليوم، لم يكن يمثل غالبية غالبة في المقاطعة. مع ذلك فإن دعوة الدمج والاندماج اللينينية، وعدم وجود أغلبية يهودية في المقاطعة تم تجاوزهما، من أجل السعي لحل مشكلة اليهود في الاتحاد السوفييتي، وربما في غيره من البلدان، أي إن الحالة الكيانية التي قامت في بيروبيجان، مثلت حالة استثنائية، رغم تناقضها مع الاجتهادات والدعوات اللينينية والستالينية النظرية، على الرغم من تأسيس كيان لليهود لا يمثلون أغلبية فيه.

كما أن باعث إقامة مقاطعة لليهود في بيروبيجان، التي تبلغ مساحتها نحو 36 ألف كيلومتر مربع، أي قدر مساحة فلسطين ولبنان معا تقريبا، كان تجميع أكبر عدد من يهود العالم، وليس يهود الاتحاد السوفييتي السابق فقط، مع وجود أهداف أخرى. وقد وجدت يهودا في المقاطعة عام 1987 أثناء زيارة استطلاعية صحافية، عائلات من ألمانيا وبريطانيا والارجنتين وغيرها، مع ذلك فقد بلغ عدد سكان المقاطعة في ذاك العام وبعد نحو ستين عاما من إقامتها، ما يقارب 215 ألف نسمة، ولم يصل عدد اليهود فيها إلا إلى نحو 17 ألف نسمة، كان يسكن من بينهم 14 ألف نسمة في العاصمة بيروبيجان نفسها. وبلغ عدد الروس فيها نحو 65 بالمئة، اي كانوا يمثلون الأغلبية. أما اللغة المعتمدة في المقاطعة فهي الروسية، ثم اللغة اليديشية وهي مزيج من العبرية القديمة والألمانية وغيرهما من لغات أوروبية. فهل ما ذكرنا من معطيات ومؤشرات يفيد بعدم نجاح التجربة، ما أبقاها ضمن حدود متواضعة، وما أسباب ذلك؟
من أسباب عدم النجاح، ان هناك مجموعة من العوامل، طبيعية وسياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، حكمت وتحكمت في مآلات هذه التجربة الرائدة في محاولة إيجاد حل للمشكلة اليهودية، ليس على صعيد الاتحاد السوفييتي السابق، بل على الصعيد العالمي أيضا، كما كانت تأمل القيادة السوفييتية في ذلك الزمان، أي إيجاد كيان سياسي و «وطن» بديل للتشتت اليهودي القائم. إلا أن التحديات والمشاكل والصعوبات والحروب التي واجهت التجربة، كما واجهت الاتحاد السوفييتي السابق نفسه، جعلت النتائج الإيجابية في بيروبيجان متواضعة، ولم تصل إلى ما هو مؤمل من قيامها. ومن أهم العوامل السلبية التي أثرت وحدت من تدفق أتباع الديانة اليهودية وغيرهم إلى المقاطعة:

المسافات الشاسعة الفاصلة بين بيروبيجان وغيرها من مدن وحواضر سوفييتية، تقدر بآلاف الكيلومترات، حدّت من تدفق السكان إليها. وإذا كان الوصول إليها في عام 1987 من موسكو قد استغرق 12 ساعة بواسطة الطيران الحديث؛ فإن وسيلة النقل بواسطة السكك الحديد التي كانت معتمدة بكثافة في ثلاثينيات وحتى ستينيات القرن الماضي، حين أخذ الطيران دوره المهم بين وسائط النقل – وما زالت سكك الحديد والقطارات معتمدة في النقل حتى يومنا هذا، مع تطويرها وتحديثها وزيادة سرعتها.
لذلك فإن الوصول إلى المقاطعة من مناطق سوفييتية عدة، كان يستغرق شهورا، مع ما يكتنف ذلك من صعوبات وأخطار ومشاق، ما حدّ من تدفق أتباع الديانة اليهودية وغيرهم، ومنعهم من التوجه إلى المقاطعة. إلا من حفّزته الدوافع العقائدية، أو أجبرته أخطار داهمة؛ لم يجد لها حلا إلا بالهجرة إلى المقاطعة.
بما أن المقاطعة حديثة التكوين، عانت وما زالت من ظروف طبيعية قاسية غير عادية، وتسود فيها العواصف والأعاصير وتساقط الأمطار والثلوج الشديدة، وينتشر فيها البعوض والحشرات والحيوانات المفترسة وغير ذلك، خصوصا في السنوات الأولى.
كل ذلك وغيره لم يجعل المشروع محببا لليهود وغيرهم، على الرغم من الإغراءات التي كانت معروضة على كل من يصل إليها من السكان.
إن إقامة المقاطعة على الحدود الصينية، وقيام حروب بين الصين واليابان في ذلك الزمان، بل واحتلال اليابان لمنشوريا الصينية عام 1931، وبروز نذر حروب إقليمية ثم عالمية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، لم يشجع سكان الاتحاد السوفييتي السابق، ولا الكتلة الكبيرة من أتباع الديانة اليهودية التوجه إلى المقاطعة والسكن فيها.
على الرغم من اختيار منطقة حديثة التكوين والإنشاء، ولم يكن فيها ولها مشاكل بين أتباع الديانة اليهودية، وبين غيرهم من سكان آخرين، مع ذلك فإن البعد المكاني والأخطار الأخرى، حدّت من توجه السكان، يهودا وغير يهود إليها.
محاربة الدول الاستعمارية (الأوروبية والولايات المتحدة) لمشروع إقامة كيان يهودي في بيروبيجان، وتأييدها ودعمها للمشروع الصهيوني المتوجه لاحتلال فلسطين، وإقامة دولة لليهود فيها وعلى حساب الشعب الفلسطيني وطرده من دياره، نظرا لمصالح ومخططات متشابكة آنية ومستقبلية بين الطرفين.
كما إن الحركة الصهيونية، بما فيها الجناح الاشتراكي العمالي (البوند) حاربت التجربة في بيروبيجان وقاطعتها، وأثرت على مئات آلاف اليهود ومنعتهم من التوجه للإقامة والسكن في المقاطعة.
إنشغال القيادة السوفييتية بمجريات الحرب العالمية الثانية الطاحنة وتجنيدها كل الطاقات المتوافرة، للدفاع عن وجود واستمرار الاتحاد السوفييتي، في مواجهة الغزو النازي وحلفائه، حيث وصل ضحايا الغزو إلى 25 مليون ضحية في الاتحاد السوفييتي كله وحده. إضافة إلى ملايين الجرحى والمعوقين، مع تدمير عشرات المدن والبلدات والقرى، وآلاف المصانع والمؤسسات الحيوية.


لذا فإن الانشغال بمجريات تلك الحرب، ثم التفرغ لإعادة الإعمار والإسكان، ومواجهة تحديات ومشاكل وسلبيات سياسية واقتصادية واجتماعية عدة، مع سقوط ضحايا جدد، نتيجة تطبيق سياسات شديدة وبالقسر والقمع والفرض، ثم بروز الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي وسباق التسلح، مع ما يقتضي ذلك من تكاليف باهظة.. كل ذلك وغيره، لم يتح الوقت الكافي لإمكانية الاهتمام ومتابعة تجربة إقامة كيان لأتباع الديانة اليهودية في بيروبيجان. وهذا ما أفضى إلى انكماش التجربة، وحصرها في حدود متواضعة، ولم تستقطب من السكان يهودا وغير يهود إلا أقل القليل من بينهم.

٭

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق