مقالات

اليقين نجاة ! * رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – * السلسلة مكونة من ثلاثة عشرَة مقالة. عنوان السلسلة: “أنوار اليقين: بين رحلة التوحيد والإيمان، في زمن التحديات” * عنوان المقالة: “النار التي أصبحت بردًا: التسليم المطلق في قلب البلاء” (12-13)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم﴾ (الأنبياء: 69)
* مِحنٌ تكشف اليقين
الإيمان الحقيقي يتجلى في محن الدنيا وفي شدائد البلاء أكثر ممَّا يتجلى في أوقات الرخاء والرفاه، في تلك المواطن القاسية يكتمل اليقين ويتميز الخبيث من الطيب، كان النبي الخليل إبراهيم عليه السلام نموذجًا للتسليم الكامل بأمر الله، تسليماً لم تخالطه شائبة ضعف ولا تردد، حتى كان على أهبة أن يقذف في نار تتلظى، لكنه كان على يقين أن الله غالب على أمره، رحيم بأوليائه، كان شعاره اليقين الكامل والنقاء التام في التوكل على الله.
– ذلك اليقين حول محنته إلى محض رحمة إلهية: كان الله معه في محنته أكثر ممَّا كان وهو في عافيته، كان الله معه في وسط اللهيب والنيران، حتى انقلبت تلك النيران بسبب اليقين الخالص في الله إلى بردٍ وسلام، لم تكن تلك المعجزة بسبب قدرات مادية ولا بسبب حماية شخصية، بل بسبب اليقين الكامل في قدرة الله على الخلق والنصر.
– هذه القصة ليست محض أسطورة للتسلي، ولا للتعجب الخالي من الفائدة، بل هي إشارة قوية على أن اليقين في الله يقلب موازين الألم والضرر ويحول الخوف إلى أمن، والضيق إلى فرج، فعندما يسلم العبد نفسه لله تسليماً كاملاً ويؤمن بأمره وتدبره، يكتب الله له الخلاص والنصر في مواطن الخوف والضر.
* اليقين سياج الأمل في الخلاص
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لهُ مَخْرَجًا﴾ (الطلاق: 2)
هذه سُنّة الله في خلقه، ووعد أبدِي للمؤمنين أنّ الخلاص في حسن التوكل على الله، اليقين الكامل في قدرة الله يقوِي العبد على تخطِي الأزمات دون أن ينهار، ويمنحه السكينة في وسط الخوف والقلق.
– ينبني على هذا اليقين تسليم أبدي بأقدار الله، يسلِم العبد نفسه لمشيئته وهو على يقين أن الخالق أرحب بالرحمة، أبصر بأحوال الخلق، ألطف بأوليائه، وهو القادر على أن يبدل الخوف أمنًا، والضر إحسانًا، في هذا السياق يتربى المؤمن على حسن التوكل الكامل على الله في كل الأحوال: في مرضه، في فقره، في محنته، في فقد الأحبة، وفي الأزمات التي تنبع من حوله، يتعلم أن الله يجيب الدعوات في وقت يراه هو الأصلح، ويفرج الكرب في الأوان الصحيح.
* اليقين في مواقف الخوف والضر
ذلك اليقين كان في قلب النبي ﷺ في غار حراء وفي هجرته ويوم بدر، وفي أُحد، ويوم الأحزاب، ويوم الفتح، كان يقينًا غير متزعزع في أن الله ناصر دينه محقق وعده مهما تكالبت عليه الأعداء، وفي هذا درس عظيم للأمة على مدار الأجيال: أن اليقين في الله هو عتاد المعركة، كان سياجًا في الخوف وكان سفينتهم في وسط الرياح العاتية والأمواج المتلاطمة.
– ثم إن اليقين الكامل في الله يقود إلى حسن الخاتمة في الدنيا والآخرة، فمن كان يقينه بالله كاملًا كان حسن ظنه في الخالق يقينًا في حسن الخاتمة.
فالنهاية الحُسنى أبقى عند الله من البداية الحسنة.
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ (الأعراف: 128)
* اليقين في عصر التحديات المعاصِرَة
نحتاج اليقين في عصر التحديات أكثر من أي وقت مضى، اليقين يساعد على تخطي اليأس في ظل التغيرات العسكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تجتاح العالم وخصوصًا منطقتنا، فاليقين في الله يقوِي اليقين في النفس وفي الخروج من الأزمات، ويمنح المؤمن التوازن والطمأنينة في اتخاذ القرارات.
فعندما تستبد الخسارات المادية والنفسية بأصحاب اليقين، يتأكدون أن الله لم يتخلَّ أبداً، بل يقف معهم في محنهم ويكتب الفرج في الأفق القريب.
فاليقين يقوِي العبد على المواجهة دون ضعف، ويمنحه القوة على التضحية في سبيل الحق والنقاء.
* خاتمة
إن اليقين بالله هو مفتاح الصبر، وحصن المؤمن في أوقات الشدائد والابتلاءات، وهو السراج الذي ينير دروبنا وسط الظلمات، والبلسم الذي يخفف من أوجاعنا وهمومنا، كلما تعمق الإيمان، ازداد اليقين ثباتًا، فتزول الخواطر المقلقة، وتتحول المحن إلى دروس وعبر، والآلام إلى درجات عالية من القرب من الله.
فلنجعل من اليقين رفيق دربنا، نستند إليه في كل موقف، نستلهم منه الصبر والتفاؤل، ونتذكر دائمًا أن ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 6) وعليه، فإن قوة اليقين ليست فقط في تحمل المحن، بل في تحويلها إلى منطلق جديد للحياة، ورؤية متجددة للعطاء والتفاؤل.. ولكم مني التحية والسلام.

* عنوان المقالة الأخيرة في السلسلة غدًا إن شاء الله: “السفينة التي نجَت: حين استوت على الجوديّ”

* اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والبصيرة في كل عمل، ووفّق أمتنا، وامنح شعبنا الأمن والسلام.

* مقالة رقم: (1991)
* 18. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألسبت . 14.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

* فلَكُ النّجاة!
* رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
* السلسلة مكونة من ثلاثة عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “أنوار اليقين: بين رحلة التوحيد والإيمان، في زمن التحديات”

* عنوان المقالة: “السفينة التي نجَت: حين استوت على الجوديّ” (13)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة هود: 44)
– في كل عصر من عصور التاريخ، تتجلى قصة سفينة النجاة التي تبرز من وسط الأمواج العاتية لتكون ملاذًا للأبرار ومنقذاً من الغرق في فوضى الزمان، كانت سفينة نوح -عليه السلام- نموذجًا خالدًا في الإيمان والتوكل على الله، دليلاً على أن النجاة ليست لمن يكن له الأكثرية أو القوة الظاهرية، بل لمن آمن وأخلص وثبت في الحق.
* البناء الإلهي للسفينة
– حين أمر الله نبيه نوحًا ببناء السفينة، لم تكن مجرد سفينة عادية، بل كانت إرادة الله في خلاص الأمة، وكيف أن الخلاص لا يكون إلا برضى الله وتمكينه، فقد أمر نوحًا أن يبنيها بأمر واضح، وكل من آمن معه ركِبها، في مشهد يعكس ضرورة التمسك بالحق واليقين في وجه تحديات لا تحصى.
– لقد استغرقت الدعوة وقتًا طويلًا، وموجات الاستهزاء والسخرية كانت تعصف بالرسول والمؤمنين، لكن اليقين بالله وبوعده كان هو الركيزة التي أقامت عليها هذه الدعوة، فكانت النهاية بسفينة تبحر فوق عواصف الطوفان.
* المعنى العميق للطوفان
– الطوفان لم يكن فقط فيضًا مائيًا، بل كان رمزًا للهدم الكامل لكل ما هو فاسد وظالم في الأرض، بداية جديدة من الطهر والصفاء، حيث ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾، تعبير عن نهاية حقبة الفساد، وبداية عهد جديد.
– هذه القصة تلقي بظلالها على واقعنا المعاصر؛ فكما كانت الأرض تبتلع الطوفان، يمكن للمجتمعات أن تتجاوز الفساد والضلال إذا ما التزمت بسفينة اليقين والتقوى.
* اليقين في زمن التحديات
– في زمننا هذا، الذي تعصف فيه التحديات من كل جانب، من فتن أخلاقية وثقافية، إلى أزمات سياسية واقتصادية، يحتاج الإنسان إلى اليقين العميق بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن نصره قادم لا محالة.
– اليقين في ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ يعني أن لكل بداية نهاية، وأن وعد الله حق لا يرتاب فيه المؤمن، مهما طال الليل ومهما كثرت العواصف.
* سفينتنا اليوم
– السفينة التي نركبها اليوم هي التمسك بتوحيد الله وإيماننا به، والسير على خطى الأنبياء، والتمسك بالحق، والتعاون على البر والتقوى، هذه القيَم هي التي تحمينا من الغرق في بحر الفتن، وتحفظ لنا عزتنا وكرامتنا.
– إننا بحاجة اليوم لأن نكون مثل نوح عليه السلام، صابرين ثابتين، معتصمين بالله، عازمين على تحمل الصعاب، ونتعلم من قصته أن النصر لا يكون إلا بالثبات والصبر واليقين.
* الدعوة إلى العمل والتغيير
– ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، هذه الآية تحدد جوهر التغيير الحقيقي؛ يبدأ من الذات، من القلب، من النفس، ثم ينتقل إلى المجتمع، التغيير الحقيقي لا يتم بالتمني أو الشعارات فقط، بل بالعمل الصادق المتجدد.
– يجب أن نؤمن أن لا قوة لنا إلا بالله، وأنه ﴿مَوْلَانَا فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الأنفال: 40)، فما أجمل أن تكون سفينتنا في يده سبحانه وتعالى.
* خاتمة
– ها هي سفينة النجاة تستقر على الجودي، بعد معاناة، وبعد صبرٍ وعمل، كرمزٍ حيٍّ لكل من يثبت على مبادئ الحق في زمن تعصف فيه الرياح، فلنتمسك بسفينتنا ونجعل من إيماننا ويقيننا وقودًا يحركنا نحو غدٍ أفضل، غدٍ يحمل نور التوحيد والإيمان في كل قلب.
﴿أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214)، لا يخيب الله رجاء من سار على دربه باليقين والإخلاص.. ولكم مني التحية والسلام.
* على موعدٍ مع جديد المقالات إن شاء الله

* اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والبصيرة في كل عمل، ووفّق أمتنا، وامنح شعبنا الأمن والسلام.

* مقالة رقم: (1992)
* 19. ذو الحجة. 1446 هـ
* ألأحد . 15.06.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق