مقالات

قلة اللحن وكثرة اللحن مأساة الشعر العربي المعاصر بقلم الدكتور مسلم محاميد

imageكثرةُ اللحنِ وقلّةُ اللحنِ

مأساة الشعر العربيّ المعاصر

لم تأت التورية في عنوان هذه المقالة كصورة بديعيّة ناتجة عن قصدٍ أدبيّ أو محفّز إبداعيّ يقف عند حدود الجماليّة اللغويّة أو يتجاوزها فحسب، بل إنّها مختصر الواقع الشعريّ العربيّ، ومختزَل المشهد الثقافيّ الراهن. ولعلّني أَفَضْتُ في إدراج الصور البلاغيّة في العنوان بقصد رسم صورة للواقع الأدبيّ المرّ، بمنطق: “الكلام ما قلّ ودلّ” أو “البلاغة الإيجاز”. ولهذا فسوف أتوقّف قليلًا عند بلاغة العنوان ودلالتها، قبل أن ألج طرحَ ما ترمي إليه هذه المقالة.

يمكن الوقوف في هذا العنوان على أربع صور بلاغيّة على الأقلّ: أوّلًا – الطباق: وهو تضادّ لفظتين في الدلالة. فالكثرة والقلّة هما من الطباق. ثانيًا: الجناس التامّ: وهو أن يجتمع لفظان متساويان في الهيئة والتركيب الحرفيّ، مختلفان في المعنى، ككلمة “اللحن” في هذه المقالة. ثالثًا – التورية: وهي أن تقصد فيما تقولُ معنىً بعيدًا قد يخفيه معنىً قريبٌ يُستنبطه المتلقّي دونَ قصدك. فكلمة اللحنُ له معانٍ عدّة، قصدتُ بها في هذه المقالة معنيين: الخطأ النحويّ بكثرته ورواجه والصوت الموسيقيّ وقلّته واضمحلاله. رابعًا – المفارقة: تأتي المفارقة هنا لتدلّ على بؤس المشهد الثقافيّ. فكثرة اللحن في النحو واللغة والإعراب، أي كثرة الخطأ، هي ما كان يجب ألّا تكون موجودة. وقلّة اللحن في الشعر، هي قلّة اعتماد اللغة الشعريّة الموسيقيّة والعَروض وغيرها من الأدوات الشعريّة، واللجوء إلى “صفّ الكلام” واعتباره شعرًا، وهي ظاهرة ما كان يجب أن تكون موجودةً أيضًا.

وهنا يمكن أن نخلص إلى أنّ العنوان يرمي إلى أنّ واقعنا الشعريّ يتميّز بكثرة الأخطاء وكثرة الأدعياء الذين لا يمتّون إلى هذا الفنّ العريق بأدنى صلة، وإلى أنّ كثيرًا من النصوص المصنّفة ضمن الشعر هي بعيدة كلّ البعد عن كونها شعرًا.

إنّ أحد أهمّ أسباب تدهور المشهد الشعريّ في الوقت الراهن هو انعدام الحِسّ النقديّ عند القارئ العاديّ بفعل التغيّرات المتسارعة في هذا الزمن، والتي تحمل الإنسان المعاصر إلى عوالم بعيدة عن عالم الشعر والأدب، ممّا يقلّل من حسّه النقديّ وقدرته على الحكم على الشعر. فحتّى الأكاديميّون في كثير منهم، لا يملكون أدوات الحكم البدائيّة على الشعر. ونجد كثيرًا من الناس ينظرون إلى أيّ نَصّ كُتب بطريقة الشعر العموديّ أو شعر التفعيلة على أنّه شعر، رغم ما يدّعيه بعض الكتّاب من شعر عموديّ فيصُفُّونَ نثرَهم المسجوعَ على شكل أبيات شعريّة، لكنّها خالية من العروض كليًّا. وكذلك قد تُكتبُ خاطرة هنا أو هناك فتُعتبرُ شعرًا رغم خلّوها من أيّ مميّز من مميّزات الشعر، ورغم ما تعجّ به من أخطاء قاتلة، ومع ذلك قد يُعتبَرُ كلّ هذا شعرًا.

ومن الأسباب الأخرى لانحدار المشهد الشعريّ إلى هاويةٍ سحيقة، وهي كثيرة، وسوف أقف عليها في مقالةٍ قادمة، هو عدم اكتراث الكتّاب بالمبنى السياقيّ لكتاباتهم، وميلهم إلى نظريّة إيصال الفكرة، بغضّ النظر عن الوسيلة. بمعنى أنّ اللغة العربيّة هي لغة للتواصل أو لإيصال الأفكار لا أكثر، بل وحتّى لو لم تكن سليمةً أو اعتمدت على سياقات مترهّلة ركيكة بل وعاميّة، فهي مقبولة عندهم، فالمهمّ أن تصل الفكرة.

وأمّا إذا مِلْنا في رأيِنا إلى هذا المبدأ، مبدأ كون العربيّة لغة تواصل واتّصال وإيصال، فحتّى هُنا يجب الوقوف على كلّ حرفٍ وحركة، ومراعاة اللغة والقارئ والأفكار، لنقدّم للمتلقّي تحفةً إبداعيّة متكاملة المعالم. فالكاتب أيًّا كان، من المفروض أنّه يتعامل بأناقة الكلام ورقيّ الحرف، ولا يجوز له أن يقدّم للمتلقّي في نصّه وجبة سمينة -وهي الفكرة- على طبق غثّ -وهو اللغة الركيكة ذات الأخطاء-. وإنّ الكاتب الذي لا يُراعي اللغة السليمة، والسياقات القويمة، والجماليّات اللغويّة والبناءات البلاغيّة، هو كَمَنْ يلبس أسمالًا بالية وخرقًا بشعة يوم عرس ابنه أو ابنته.

وفي حقيقة الأمر، لا أميلُ أبدًا إلى كون اللغة العربيّة لغةَ تواصل واتّصال وإيصال للأفكار فقط. بل إنّ خصوصيّة اللغة العربيّة لا تقبل أن يعتبر العربيّ لغته هكذا، لأنّها موطن ثقافتنا العربيّة وموئل إرثنا العريق. وأعتقد جازمًا أنّ الله سبحانه وتعالى لم يفصل في كتابه العزيز بين اللغة العربيّة والإرث العربيّ والعقل، فقد جعل من علل عَقْلِ الأشياءِ وإدراكِها نزولَ القرآن الكريم عربيًّا: “إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلّكم تعقلونَ” (يوسف: 2). وفي رأيي فإنّ الآية هنا تطرّقت إلى عروبة القرآن لا إلى عربيّته فقط، وجعلت إدراك الأشياء وعقلَها مشروطين بعروبته. فالقرآن الكريم جاء بلسان قريش البيّن، وهذه عربيّته، لكنّه أيضًا حثّ على حميدِ مآثر العرب، وهذه هي عروبتُه. ومن هذا المنطلق، فإنّ اللغة العربيّة أكبر بكثير من مجرّد أداة تواصل واتّصال وإيصال، بل هي لبّ الهُويّة وأساس الوجود العربيّ.

إنّ كثرة اللحن، أي الخطأ والإهمال وعدم الالتزام بالبناء السياقيّ السليم صرفًا وإعرابًا، وبالتركيب اللغويّ دلالةً وسيميائيّة، وبالجماليّات اللغويّة بلاغةً وصورةً، وبقوّة الطرح فكرةً وفِكرًا، وإنّ قلّة اللحن، أي قلّة الالتزام بالشِعريّة، وهي الأدوات التي تجعل النصّ الأدبيّ الشعريّ مختلفًا عن غيره متميّزًا بعظمة هذا الفنّ الذي هو غناء الملائكة وزبدة الكلام، غيرَ مختلط بأنواع أدبيّة أخرى، لا يؤمّه إلّا أصحابه الحقيقيّون لا الأدعياء والمتسلّقون، إنّ كثرة اللحن بالمفهوم الأوّل وقلّته بالمفهوم الثاني تقودان المشهد الأدبيّ إلى هاويةٍ سحيقة يجب الوقوف عندها والتأمّل، ويجب تدخّل أرباب الحَرْف وأئمّة اللغة وجنود الدفاع عن اللغة وكلّ غيور على هذه اللغة وهذا الإرث العظيم، لكي ننقذ هذه اللغة وهذا الإرث من الضياع.

مقالات ذات صلة

إغلاق