عواصم ثقافيه
هل كانت الغزوات الإسلامية حروبًا استعمارية؟
البداية.. من حيث نخشى أن نبدأ
كان المؤرخ المصري يونان لبيب رزق، يعتمد طريقة مختلفة في تدريسه لمساقات التاريخ المختلفة لطلابه، فحين يتناول شخصية أو حدثًا تاريخيًّا يحظى بالاحترام والإجماع عند الناس، يبدأ بمعلومات صادمة للغاية عن هذا الشخص أو الحدث، ليصل مع المتلقي في نهاية المساق، إلى تفهم كامل للأمر، بعيدًا عن المشاعر البدائية التي تتحكم فيها الروايات الرسمية الصادرة من الأجهزة الأيديولوجية المختلفة حول الحدث أو الشخص، وسيبدأ هذا التقرير على طريقة يونان لبيب رزق، بعرض ما هو صادم قبل الدخول في الموضوع.
دخلت القوات المسلمة، وقتلت الآلاف حتى بعد توقف كل محاولات الدفاع عن المدينة، وأسروا كل بالغ يُنتفع به في العمل غنيمة، واغتصبوا النساء؛ حتى الراهبات منهن تم اغتصابهن بعنف، ولم تهدأ تلك الثورة الجنسية، إلا حين وجد محمد الفاتح أحد جنوده يُتلف الممر الرخامي لكنيسة آية صوفيا، فغضب بشدة وأمر جنوده أن يلتزموا الهدوء، فالغنائم لا بد أن تُصان حتى ينظم أمرها السلطان.
6 أغسطس (آب) 1571، مدينة فاما جوستا الواقعة في قبرص، تسقط في يد القوات العثمانية المسلمة، بعد حصار دام عامًا بأكمله.
يدخل المسلمون فيعاقبوا قائد فاما جوستا “مارك أنطونيو براغادينو” الذي دافع عنها باستبسال لمدة عام، كان العقاب هو قطع أنفه وأذنيه، وإبقاؤه على قيد الحياة لأكثر من أسبوع وهو على هذه الحالة، ومن ثم تم سلخه حيًّا، وتم حشو جسده المسلوخ بالقش، وأُرسل الجسد إلى القسطنطينية بعد ذلك ليبقى تذكارًا خالدًا للنصر.
في عام 831، في عهد الخليفة المأمون، يقوم مجموعة من المسيحيين المصريين بثورة كبيرة ضد السلطات الإسلامية، وبعد فشل الثورة، يطلب المسيحيون من الوسطاء بينهم وبين الخليفة أن ينقلوا له أسباب ثورتهم، فقالوا في رسالتهم أن أبا الوزير الوالي كان يرغمهم على دفع جزية لا يستطيعون تحملها، وكان يسجنهم ويربطهم في الطواحين، ويضربهم ضربًا مبرحًا ويضطرهم إلى طحن الحبوب كالدواب تمامًا، وعندما تأتي نساؤهم إليهم بالطعام، كان خدمه يهتكون عرضهن.
عندما وصلت الرسالة إلى المأمون، وكان قد عزم على نفي الثوار الباقين، قال للوسطاء إنه غير مسئول عن سياسات ولاته؛ لأنه لم يمل عليهم أن يفعلوا ما فعلوه من ظلم، وأنه لم يفكر يومًا في تحميل رعيته ما لا طاقة لهم به، مؤكدًا أنه كان يشفق على أعدائه من الروم، فكيف لا يشفق على نصارى مصر وهم من رعيته الذين سيحاسبه الله عليهم.
ما هو الاستعمار؟
إن الدول الاستبدادية تهاجم بعضها البعض، ولا تحارب، وأما الحرب الحقيقية فتكون بين الأنظمة الدستورية وحدها. *الفيلسوف الإيطالي نيكولو ميكافيلي
حين نبحث في موسوعات علم الاجتماع عن مفهوم الاستعمار ((colonialism، لنُقيّم بعد ذلك هل يصح استخدام المفهوم على غزوات المسلمين أو لا، نجد أن الاستعمار يعني ببساطة: تأسيس سلطة سياسية رسمية من جانب الدول الأكثر تقدمًا على الدول الأقل تقدمًا، وهذا المفهوم «الاستعمار» يختلف عن مجالات (السيطرة) الأخرى.
ويخبرنا علم الاجتماع، بأن الاستعمار يقترن بآثار اجتماعية واقتصادية تتعرض لها البلدان المُحتلة، ناجمة عن تدمير الأنساق الاجتماعية والاقتصادية القديمة، وإحلال أنساق جديدة بدلًا منها، وقد اقترن الاستعمار أيضًا بشكل أساسي، بظهور حركات قومية في الأقاليم المستعمرة تطالب بالاستقلال.
وفي الطبعة الجديدة المنقحة (2009)، لموسوعة علم الاجتماع التي حررها جون سكوت وجوردون مارشال، نجد في شرح مفهوم الاستعمار، أنه يطلق بداية من «استعمار إسبانيا والبرتغال وبريطانيا، وفرنسا، وهولندا للأمريكتين منذ القرن الخامس عشر، ثم امتد بعد ذلك إلى كافة أجزاء آسيا وإفريقيا خلال القرن التاسع عشر».
لماذا نتساءل عن الفرق بين الغزوات الإسلامية والاستعمار؟
115731346حين يتم الحديث عن الاستعمار، أو الاستعمار الجديد (المتمثل في ترسيخ هيمنة الغرب الاحتكارية على إنتاج وتسويق السلع في المستعمرات السابقة، التي مُنحت استقلالها في القرن العشرين)، أو عند الحديث على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، تكون واحدة من تلك التبريرات الجاهزة لهذه الممارسات الإمبريالية، أن المسلمين قد استعمروا أجزاء كبيرة من العالم بوحشية سابقًا، فلماذا يشجبون الآن الممارسات الإمبريالية بعد أن صاروا ضعفاء غير قادرين على مواجهتها.
وقريبًا قدم أحد المواطنين المصريين الرافضين للعقيدة الإسلامية، مقطعًا مصورًا لقى انتشارًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، كان عنوان المقطع «ليه بتكره إسرائيل؟»، وقد سخر فيه المُقدِّم من رفض المسلمين للاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من أنهم أصلًا مستعمِرون ومحتلون للبلاد التي يطلق عليها عربية الآن.
من هنا تأتي أهمية دراسة الغزوات الإسلامية، وهل كانت تمثل استعمارًا للبلدان التي صارت فيما بعد عربية أو إسلامية أم لا، فالأمر شديد الارتباط بحياتنا المعاصرة، ففي مواجهة اتهامات شعوب العالم الثالث للقوى الكبرى بالإمبريالية والاستغلال، يتهم مروجو سياسات تلك القوى، الشعوب الغاضبة بأنها هي نفسها نتاج ماضي استعماري وإمبريالي، بالتالي لا يحق لها الدفاع الآن عن أوطانها، التي هي محض مستعمرات سابقة، استعمرتها الدول الإسلامية التوسعية في الماضي البعيد.
إذًا هل كانت الغزوات الإسلامية استعمارًا، وما الفرق بينها وبين «الكولنيالية» الغربية؟
يرى المفكر المصري الشهير جمال حمدان، أن الإسلام قد شكّل إمبراطورية توسعية تحريرية، ولم تكن استعمارية، فهي بحسبه قد حررت المناطق التي أخضعتها من الاستعمار الروماني أو الفارسي وابتزازه المادي واضطهاده الديني، ولم تعرف بعد ذلك عنصرية قائمة على الفرق في اللون أو العرق، بل كانت مساحة مفتوحة للاختلاط والتزاوج والعلاقات الإنسانية دون قيود.
لكن تبريرات حمدان هنا، أشبه ما تكون بتبريرات قوى الاستعمار الحديثة، التي ظلت تؤكد هي الأخرى على أنها تقوم بتحرير البلاد المستعمرة، وتقدم لها خدمات تطويرية جليلة باحتلالها، وقد قال الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل شيئًا مشابهًا في عصر الكولنيالية الغربية هو أن «الاستعمار من باب الحسنات أينما وجد الاستبداد بالحكم».
على صعيد آخر فإن قطاع كبير من تلك الشعوب التي غزا المسلمون بلادها، لم ير في الإسلام قوة تحريرية لهم، وكان رأيهم في الدين الإسلامي أنه «دين لا أخلاقي»، وكانوا يستعينون بالكتاب المقدس، ليؤكدوا به على طبيعة المسلمين العنيفة من وجهة نظرهم، حيث كان اللاهوتيون مع بداية عصر الفتوحات يذكرون الآيتين 11 و12 من سفر التكوين، الإصحاح 16:
«وقال أنت حبلى وستلدين ابنًا فتسميه إسماعيل، لأن الله سمع صراخ عنائك، ويكون رجلًا كحمار الوحش، يده مرفوعة على كل إنسان، ويد كل إنسان مرفوعة عليه، ويعيش في مواجهة جميع إخوته»، وكانوا يفسرون عبر تلك الآية سلوك أحفاد إسماعيل من المسلمين.
فهل تكفي إذًا تفرقة جمال حمدان بين التوسع الإسلامي وبقية أشكال الاستعمار، للإجابة على سؤال هل كان الفتح الإسلامي شكلًا من أشكال الاستعمار؟
المعنى الاقتصادي العميق للاستعمار:
مع حلول خمسينيات القرن الماضي في مصر، كانت نغمة أن الغزو العثماني لمصر كان استعمارًا، قد طغت بشدة بين المثقفين اليساريين، وعلى الرغم من أن العثمانيين قد انتزعوا حكم مصر من أيدي المماليك (غير المصريين)، وليس من أيدي الفلاحين المصريين مثلًا، لكن الحماس القومي عند مثقفي مصر في القرن العشرين ضد الغزو التركي كان كبيرًا جدًّا، وأطلقوا عليه مفهوم (الاستعمار التركي).
أمام الاستخدامات العشوائية بين المثقفين المصريين لكلمة الاستعمار، تدخل عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي جاك بيرك ليحدد المفاهيم بدقة، وقد نُشر رأيه بشأن مسألة ما يسمى بـ«الاستعمار العثماني»، في عدد أغسطس بمجلة الكاتب المصرية عام 1965.
أكد بيرك أن الاستعمار هو درجة معينة من التطور الاقتصادي، لم تصل إليها الدولة العثمانية بكل تأكيد، وأن ظاهرة الإمبريالية هي ظاهرة معاصرة لظهور رأس المال، وأن وصف الأتراك العثمانيين بالإمبرياليين هو وصف يفتقر إلى الدقة بشدة.
لم تكن الدولة العثمانية قد بلغت مرحلة الرأسمالية بكل تأكيد، فهي لم تبلغها أبدًا حتى زوالها، وأثناء سيطرة العثمانيين على مصر، ظلت الدولة تستورد من مصر أكثر مما تصدر لها، ووراداتها من مصر كانت سلع مصنعة، في حين كانت صادراتها لها مواد خام، فكيف يُسمى ذلك استعمارًا إذًا؟
إن تنبيه جاك بيرك على الانضباط في استخدام المفاهيم، هو تنبيه شديد الأهمية لفهم مسألة الغزوات الإسلامية، ومقارنتها بالإمبريالية الغربية، فلا يمكن هنا إطلاق مفهوم الاستعمار سوى في عصر تبلور الرأسمالية، وعلى دولة مُستعمِرة بلغت ثورتها الصناعية.
الفرق الكبير هنا بين الغزوات الإسلامية في عصر سيطرة الكيانات فوق القومية، والاستعمار الذي اقترن بنشأة الرأسمالية الحديثة، هو فرق سياق تاريخي مختلف جملةً وتفصيلًا.
إن الاستعمار الرأسمالي قام على درجة كبيرة من العقلانية والقصدية، واتبع خطط الإفقار المتعمد، وتقسيم العالم إلى دول غنية قليلة، وأخرى كثيرة جدًّا فقيرة، في حين كانت حتى السياسات التي ينظر إليها باعتبارها استغلالية، في عصر التوسعات الإسلامية، هي سياسات اعتباطية، تعتمد بالأساس على المصلحة الفورية، ومزاج من يمتلكون موازين القوى في السلطة، ولم تتخذ فكرة الإفقار المتعمد للولايات التي تخضعها لها كخطة إستراتيجية، وبالتالي بعكس الاستعمار الحديث، لم يشكل هذا التوسع كابحًا من حيث طبيعته قبل الحديثة، في وجه تطور الشعوب التي تعيش على الأراضي المُسيطر عليها، وهو ما سيتضح أكثر في الفقرات القادمة من هذا التقرير.
الفرق في الإفقار المتعمد بين الغزوات الإسلامية والكولنيالية الغربية
في كتابه الرائد «أوروبا وتخلف إفريقيا»، طرح وولتر رودني السؤال المزدوج التالي: ماذا كان سيحدث لو انصب تركيز أهالي كاتنجا الإفريقية على بيع النحاس إلى الباجاندا، بدلًا من بيع الرقيق إلى أوروبا؟، وما المستوى الذي كانت ستصل إليه بريطانيا من التطور، لو أن الملايين من أبناء شعبها تم استرقاقهم للعمل في خارج البلاد، لمدة 4 قرون متواصلة؟
تختلف التقديرات حول أعداد الذين تم شحنهم من إفريقيا للعمل كعبيد في الأمريكيتين، منذ بدايات تبلور الرأسمالية الأوروبية، وتصل بعض التقديرات إلى 100 مليون إفريقي تم استعباده في هذه المرحلة.
أقل التقديرات تشير إلى أنه تم انتزاع 10 ملايين ضحية، من بين الشباب المشكلين لقوة العمل بالقارة، كي يتحولوا لعبيد في خدمة الرأسمالية المتشكلة، علمًا بأن هؤلاء المنتزعين كانوا الأكثر صحة وقابلية للعمل بين شباب القارة.
إلى جانب ذلك فحتى الأفارقة الذين عملوا كعبيد، عند أسياد عرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانوا يُسخرون لخدمة ما خلقه النظام الرأسمالي الأوروبي من طلب على منتجات ما يزرعه الرقيق، كزراعة التوابل في زنجبار التي قام بها العبيد الأفارقة تحت إشراف سادة عرب.
إشعال أوروبا لفكرة تجارة الرقيق في إفريقيا، أدت معها إلى إشعال العنف في المجتمعات الإفريقية، بغية صيد ضحايا جدد؛ كي يباعوا إلى الرأسماليين الأوروبيين، فقد كانت الحكمة الشائعة آنذاك في إفريقيا، أن «إغارة واحدة موفقة لصيد البشر، يمكن أن تجعل الفرد غنيًّا بين ليلة وضحاها»، بالتالي توقف العمل في الصناعة والزراعة وجمع الذهب من أجل التفرغ لمغامرات صيد البشر وتقديمهم كسلع لقوى الاستعمار الأوروبية.
منع احتدام العنف الناتج عن الطلب الأوروبي لسلعة العبيد، السكان المتبقين في إفريقيا من مواصلة العمل بشكل فعال في الزراعة والصناعة الإفريقية، التي كانت في طريقها للتطور.
وفضلًا عن إشعال العنف، فإن الخسائر في عدد السكان نفسها، لها تأثيرات مفجعة على عمليات التطور، وقد لعب عدد السكان المرتفع في أوروبا مع انبثاق عصر الحداثة، دورًا هامًا في توفير العمالة والأسواق المستهلكة.
نتيجة لتجارة الرقيق والعنف الذي صاحبها وتناقص عدد السكان، عندما كانت تنخفض أعداد السكان في منطقة زراعية بها ذبابة تسي تسي، كانت القلة المتبقية تضطر أن تهاجر المكان المليء بالخيرات تمامًا وتخسره، فكان نقص عدد السكان إذًا بحسب وولتر رودني، هو سبب رئيسي في خسارة معركة تسخير الطبيعة وتطوير التكنولوجيا.
ويكفي أن نذكر هنا أن داهومي كانت تعاني من المجاعات في القرن التاسع عشر، في حين أنها في القرن السادس عشر كانت تمتلك كفايتها من الغذاء، وتصدر الفائض إلى توجو. يمكننا أن نقترب أكثر من ظاهرة الإفقار المتعمد للمستعمرات، والقائم على إستراتيجية «عقلانية»، والذي يهدف في الأخير إلى تحويل المستعمرة لسوق تابع للرأسمالية الأوروبية في المثالين القادمين:
1- في الجزائر، وجه الاستعمار الفرنسي استثماراته إلى القطاعات التي تحقق أغراض ربط الاقتصاد الجزائري بالاقتصاد الفرنسي كتابع، وظهر ذلك في الاهتمام الكبير بإنجاز مشاريع خطوط السكك الحديدية والموانئ البحرية والمطارات والجسور.
وفي القطاع الزراعي شديد الأهمية بالنسبة لفرنسا، استحوذ الرأسماليون الفرنسيون على أجود وأخصب الأراضي الزراعية الجزائرية، واستعملوا فيها التكنولوجيا الزراعية الحديثة، بينما لم يحصل الجزائريون سوى على الأراضي الوعرة والبور، لاستغلالها في الزراعات المعاشية.
مع تبلور السياسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، صارت الأغلبية من سكان المنطقة الزراعية (95%)، وهم الجزائريون المسلمون، يتقاسمون حصة لا تزيد عن 9% من مجموع دخل الجزائر من الصناعة.
2- في حالة الاستعمار البريطاني لمصر، تمثل قمع التطور المصري في فرض ضريبة بمقدار 8% على المنسوجات القطنية، تعادل الرسوم الجمركية التي كانت تفرض على الواردات من هذه المنسوجات، وهو ما أدى إلى ازدهار الواردات على حساب الإنتاج المحلي، إضافة إلى ذلك، فرضت الإدارة الاستعمارية على الصــادرات المصــرية رسـومًا قدرها 1.25% فارتفع سعرها في الخارج؛ مما أثر بشدة على قدرتها التنافسية.
هذا بالإضافة إلى العديد من الإجراءات والسياسات الاقتصادية التي حولت الساحة المصرية إلى مجال واسع لتسويق المنتجات الصناعية الأوروبية.
عودة إلى التوسعات الإسلامية
الإسلام نشأ في مدينة، وحيثما انتشر مصَّر الأمصار. *الفيلسوف المغربي عبد الله العروي
سنبقى مع مصر، لكن سنعود بالزمن إلى عصر الغزو الإسلامي لها، فبعد انتصار العرب وتوليهم مقاليد السياسة في مصر، كانت أوامر الخليفة الاقتصادية للوالي، تتلخص في إرسال المال والقمح اللازم إلى شبه جزيرة العرب القاحلة، ورغم أن العرب بعد توسع غزواتهم، أنشؤوا نظامًا للضرائب في ولاياتهم الجديدة، لكن الملاحظة شديدة الأهمية هنا، أنهم لم يفكروا جديًّا في تنظيم إدارة للحسابات بمقر الخلافة في المدينة النبوية.
وتدل المراسلات، التي تبادلها عمرو بن العاص «والي مصر» وعمر بن الخطاب «خليفة المسلمين»، حول الضرائب التي ينبغي أن ترسل إلى الخليفة من مصر، على أن الخليفة كان يشتكي دائمًا من تأخر إرسال الضريبة، والنقص الشديد فيما يأتيه من مصر، عما كانت تنضح به للإمبراطورية الرومانية قبل الغزو الإسلامي، حيث كان مقر الخلافة الإسلامية في الجزيرة العربية يعاني من الأزمات الاقتصادية المتعاقبة.
كان عمرو يريد أن تصبح مصر، أشبه بالولاية المستقلة التي يحكمها هو وحده، وهذا ما يفسر حتى تعامله شديد التسامح مع أقباط مصر، وتساهله الشديد إزاء التعليمات الإسلامية الصارمة في التعامل مع الذميين، حيث كان ينشد بناء ولاية مستقلة خالية من الاحتقان والثورات، وأن يستفيد من الخبرات الإدارية للأقباط في حكم مصر.
جدير بالذكر هنا، أن الأقباط في مصر قد استطاعوا منذ الفتح الإسلامي، احتكار الإدارة المالية للبلاد عبر براعتهم في الحساب، التي كانوا يتوارثونها جيلًا بعد جيل، والطريف هنا أن هذا الاحتكار لم ينته سوى مع قدوم الاستعمار البريطاني إلى مصر، بطرقه الحديثة في الإدارة، وهو ما أثار حنق الأقباط بشدة، وقد عبر عن ذلك أحد المؤرخين الفرنسيين لمصر في الحقبة الاستعمارية، بقوله: إن كل نظام يكفل تسهيل العمل الإداري، كان الأقباط يرفضونه، إذ كانوا يعيشون في الفوضى ومن الفوضى.
ولقد تمتعت مختلف الولايات الإسلامية منذ الغزو الإسلامي لها، وحتى منتصف الألفية المنصرمة، بدرجة عالية من التمدين، وكانت كل المدن الإسلامية قد نشأت بها طبقة تجارية غنية، هيأت لتطوير الصناعات وتصديرها إلى أوروبا في ذلك الزمان، وكان هذا الأمر غير محتكر على مدينة بعينها دون الباقي، فقد ازدهرت الصناعة في العتابي والموصل ودمشق والفسطاط وغيرها، دون أن يكون هناك مركز ينهب ويكبح تطور المقاطعات الأخرى.
لكنَّ توضيح الفرق في الإفقار، بين الاستعمار الحديث والغزوات الإسلامية ليس كافيًا، فهناك شيء آخر ينبغي ذكره حتى تتضح الصورة أكثر.
كيانات فوق قومية:
منظور شديد الأهمية يتم تجاهله من قبل الذين يتهمون الحضارة الإسلامية بالغزو الاستعماري، ومن قبل حتى الإسلاميين الذين يدافعون بقولهم أنه كان استعمارًا تحريريًّا، إنه منظور رؤية الأشياء في سياقها التاريخي.
في عصر الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة، كانت المجتمعات تعيش على هيئة طوائف وجماعات مغلقة «حرفيَّة» أو «دينية»، وسط سيادة لنمط إنتاج يتطور تجاه أشكال مختلفة من الإقطاع، وكانت تلك المجموعات المغلقة تظللها إمبراطوريات مقدسة فوق قومية عابرة للجماعات، مثل الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة.
ولم يكن شكل الدولة القومية لينشأ، لولا أنَّ ظهور الرأسمالية الصناعية قد هيأ له طريق النشوء عبر نظم الاتصال المادية والثقافية، التي تم ابتكارها كنتيجة لسيادة هذا النمط من الإنتاج، وأنهت بدورها عزلة الجماعات المغلقة، وفككت بعد ذلك مع تطورات اقتصادية أخرى الكيانات فوق القومية، وكان آخرها الإمبراطورية العثمانية.
لقد كان العالم في ذلك الزمان يتنقل بين أيدي كيانات فوق قومية، وفق الظروف الموضوعية له.
جدير بالذكر هنا أن الكيانات فوق القومية الإسلامية نفسها، كانت تحارب بعضها البعض وتتمدد على حساب بعضها البعض، لا يقتصر الأمر على الكيانات ذات المذاهب الإسلامية المتباينة، مثل الدولة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية، وإنما حتى الكيانات ذات المذهب الواحد «السنيّ مثلًا»، فبعد سقوط الأندلس، لم تذهب الدولة العثمانية لتحرير المسلمين فيها الذين أرغموا على تغيير عقيدتهم عنوة، وإنما ذهبت لمحاربة الدولة المملوكية في الجنوب، من أجل توسيع حدودها.
ومن الطريف هنا أن نذكر ما تؤكده المصادر الغربية، وتتجاهله المصادر العربية، من أن جيوش المسلمين ومنذ بداية عصر التوسعات، كانت تضم بينها عددًا لا بأس به من المسيحيين التابعين لمختلف الكنائس العربية، والذين لا يعرفون شيئًا عن الإسلام أكثر من اسمه.
وقد تقلبت الكيانات فوق القومية كلها في مواقفها من التسامح الديني، تبعًا للظروف الآنية وأمزجة الحكام، فالإمبراطورية الرومانية في عهد ثيودوسيوس، أعلنت المسيحية دينًا رسميًّا للدولة، وبدأت الخطوات العملية في اضطهاد اليهود والوثنيين وتنصيرهم، وبعد ذلك تحول الأمر إلى اضطهاد حتى المسيحيين المنشقين عن الكنيسة الرسمية.
على جانب آخر، فإن الإمبراطورية الفارسية والرومانية كانتا تطبقان نظام الجزية، قبل مجيء الإسلام، فالبوذيون والمسيحيون واليهود، كانوا يدفعون ضرائب مضاعفة عن التي يدفعها الزرادشتيون في فارس، وكذلك كان اليهود يطبق عليهم نفس الأمر في الإمبراطورية البيزنطية المسيحية.
وينبه المستشرق الكبير آدم ميتز، على أن الفرق الرئيسي والأكبر بين الإمبراطورية الإسلامية، وأوروبا التي كانت كلها تقريبًا على المسيحية في العصور الوسطى، هو وجود عدد كبير من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين في إمبراطوريتهم، وقد وَلَّد ذلك – بحسب ميتز- بذور فكرة التسامح، التي كانت في طريقها للتطور، وهو ما لم تعرفه أوروبا آنذاك، بحيث تبلورت تلك البذور بنشوء علم مقارنة الأديان والإقبال على هذا العلم بشغف كبير.
وبعيدًا عن رأي جمال حمدان بخصوص الصبغة التحريرية للإمبراطورية الإسلامية، فقد لاحظ المفكر المصري ملحوظة شديدة الأهمية بالنسبة لهذا التقرير، فالكيان الإسلامي فوق القومي لم يخلق نواة متروبولية (أي: مدينة مركزية تحتكر القوى والمنافع في الدولة) سائدة تتميز على سائر المقاطعات والأقاليم في شيء، ولم تحتكر نواة جغرافية السلطة السياسية أبدًا، حيث تنقّل مركز الحكم والثقل السياسي بانتظام، فلم يلبث بعد قليل أن ترك النواة الأصلية في جزيرة العرب، وذهب إلى الشام الأموية، ثم ذهب بعد ذلك إلى العراق العباسية، وتركه في وقت آخر وذهب إلى مصر الفاطمية، بينما كان المغرب أيضًا مركزًا أساسيًّا للقوة، وكذلك كانت الأندلس.
أخيرًا، فإنه حتى بعد انقسام الدولة الإسلامية إلى ممالك متعددة، ظل تنقل الأفراد والبضائع يتم بحرية تامة، عبر الحدود السياسية في الكيان فوق القومي الإسلامي، وهو ما يعني ببساطة، استحالة الحديث عن نواة مركزية أخضعت أقاليم تابعة ونهبتها، وطبقت سياسات اقتصادية أدت إلى الإفقار المتعمد لتلك البلدان