نشاطات

حكايا من القرايا / عمر عبد الرحمن نمر

الفاتح من سبتمبر…(1)
كان اليوم الأول من شهر أيلول يوماً مختلفاً… فرغم أن ذيله مبلول، إلا أن الحرارة كانت منتشرة في مفاصله كلها… ذاك اليوم لبسنا ” الكاكي ” وهو لباس المدرسة الرسمي، وأصبحنا حليقي الرؤوس… ذاك مظهر المقريّة (جمع مقري- متعلم) في المرحلة الابتدائية… من الصف الأول الابتدائي إلى الصف السادس الابتدائي.
اشترى لي والدي رحمه الله، قلم رصاص… مغلق مكان البرية، ومغلق بمحاية صغيرة حمراء على رأسه الآخر… مسك الوالد رحمه الله موس الكبّاس (أبو الطقّات الثلاث) ونجر القلم، وبرى رأسه حتى ظهر الرأس الأسود الفعّال فيه… واشترى لي دفتراً احتوى اثنتين وثلاثين ورقة… كنت خائفاً من معلم المدرسة، كنت أعتقد أنه سيأمرني بالكتابة والقراءة عندما أصل المدرسة… ولأنني لا أعرف الكتابة والقراءة… فسخط الله سيقع على راسي… ولما لاحظ أخي خوفي… بدّد هواجسي، وأقنعني أنهم سيذهبون بي إلى المدرسة كي أتعلم، ولن أكون بالقطع هدفاً لعصيّهم… لكن النظرية التربوية التي كانت سائدة في تلك الفترة ” خذو لحم، ورجّعوا عظم ” كانت تسرسبني عندما أتذكرها، وكيف لا أتذكرها وهي ملء الفضا…
عندما خاطبنا معلم المدرسة، وهو مديرها، وقال: يا أولادي… نظرت في طوابير التلاميذ، وكانوا زهاء الأربعين في أربعة صفوف، اندهشت، وقلت في نفسي: ياااااه ما أكثر خلفة المعلم… وتراكضنا نحتل البنوك (المقاعد، التخوت، الدروج) تعددت تسمياتها… وكنا فرحين ونحن نتسلّم قراءة (راس- روس… دار- دور… كاس- كور) للمعلم الفلسطيني الأول المربي خليل السكاكيني… نشتمّ الورق الجديد؛ فيثير السعادة والنشوة فينا… خطّط المعلم اللوح أسطراً أفقيّة، ورسم بالطباشير خطوطاً أفقيّة مقطّعةً على الأسطر… ثم كلفنا المعلم بوضع خطوط أفقيّة مقطعة على الصفحة الأولى في الدفتر ذي الجلدة السوداء، وعليها طابع أبيض، يكتب فيه هوية التلميذ، اسمه وصفّه، ومدرسته، وموضوع المادة…
، عوملت معاملة من كانوا يسمونهم (كويتيّة) أهلنا وإخواننا الذين كانوا يتغربون في الكويت… وعند عودتهم تعقد الحفلات والاحتفالات… رأتني جارتنا الحجة بديعة، ببدلة الكاكي، بسملت وحوّطت بالله، وقالت: الله ريتو (مبروتش) والسبع (برتشات) يمّا… وكأني عريس، قبلتني الوالدة رغم انشغالها في تنقية سدر من العدس… وصاح والدي كأنه يراني أول مرة… كلهم كانوا مسرورين برؤيتي إلا أنا… وأسرعت بدفتري إلى والدي، فتحته، وقلت: انظر يا والدي، نظر في الصفحة، فرأى خطوطاً على أسطرها، وخطوطاً تمردت على الأسطر وقفزت عنها، وخطوطاً مائلة… سُرّ والدي لما رأى خطوطي، قلت: انظر لم أكمل الصفحة… سأل: لماذا؟ قلت: خلص القلم يا أبتِ، وبطّل يكتب… قال: وأين هو؟ أجبت رميته بين الحشيش اليابس عند المدرسة… ضحك من قحف رأسه، وقال: القلم لا ينتهي في يوم يا بنيّ… وطلب مني أن أتبعه، حيث رميته… ولما وصلنا الحشائش اليابسة، بحثنا عنه فوجدناه هناك… تناوله والدي، ومن دكان (أبو معروف) اشترى لي برّاية صفراء بتعريفة، وبتعريفة أخرى اشترى قضامة بيضاء مملحة لي… وقضامة صفراء حلوة له… وطلب من صاحب الدكان زرفاً ورقياً كي أضع فيه دفتري وقراءتي وقلمي وبرّايتي… تناولت الزرف، وأنا أنظر إليه وهو يدلني كيف أبري قلمي عندما ينفطع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق