مقالات

د.حياة ديواني–تونس متحصلة على شهادة الدكتوراه بمسألة “قضيّة النسخ في الفكر الإسلامي المعاصر بين الإقرار والإنكار”. نشرت عدة مقالات في مجلات محكمة وعدد من الكتب .عضو بمخبر تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات بكلية الآداب بالقيروان . عنوان المداخلة: النسخ والكرامة الانسانية مقاربة نقدية في فكر طه جابر العلواني

النسخ والكرامة الانسانية مقاربة نقدية في فكر طه جابر العلواني Naskh and Human Dignity: A Critical Approach in the Thought of Taha Jabir al-Alwani [email protected]

ملخص المداخلة:

    دعا طه جابر العلواني إلى قراءة القرآن قراءة تجمع بين التشريع والبعد الأخلاقي للخطاب القرآني، باعتبار أنّ الأخلاق في علاقة بالتشريع، لأنّه ينظّم الحياة الأخلاقية للفرد والمجتمع. وقد بيّن العلواني أنّ الدّين كما يقدّمه القرآن وكما تشهده الحياة،هو طريقة الحياة التي يعيشها الناس في واقعهم. وفي هذا السياق طرح قضايا المساواة الاجتماعية ورفض التّمييز، وإزالة الفوارق بين الأفراد والطبقات.مؤكّدا أنّ الوحي جاء ليعدل بين الناس، وأنّه فعل محبّة قبل أن يكون مجموعة من القواعد والأحكام. وقد منح العلواني الأولوية في تفسيره للمسائل الأخلاقية والقيم الإنسانية التي نصّ عليها القرآن، والتي تنسجم مع كرامة الإنسان.                                       .

مشروع العلواني لا يهدف إلى إعادة ترتيب أبواب الفقه أو تنظيمها، بل يسعى إلى الكشف عن البعد الأخلاقي للقرآن ومعانيه الروحية والقيمية.  والعيش وفق مبادئ إنسانية وأخلاقية تسهم في بناء حضارة يسودها الأمن والاستقرار وتعمّها المحبّة والتّسامح في ظلّ الأزمات الانسانية المعاصرة. تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة فكر طه جابر العلواني من خلال العلاقة بين مفهوم النسخ والكرامة الإنسانية. فبينما اعتبر التراث الإسلامي التقليدي النسخ آلية لإلغاء الأحكام وتجاوز بعضها ببعض، قدّم العلواني قراءة مقاصدية جديدة تنفي فكرة النسخ الكلي في القرآن، وتؤكد أنّه تدرّج تشريعي يراعي واقع الإنسان وظروفه وأنّ النظام الأخلاقي هو نظام دينيّ بامتياز. وبذلك جعل من الكرامة الإنسانية مقصدًا أعلى للشريعة، تُفهم النصوص في ضوئه وتُؤوَّل الأحكام وفقه. تأتي هذه القراءة في سياق فكري معاصر يسعى إلى مواءمة النص الديني مع التحديات الراهنة، وإعادة بناء العلاقة بين الأخلاق والتشريع على أساس الحرية والعدل واحترام الإنسان.

                                                                                                         

Abstract

  Taha Jabir al-Alwani called for a reading of the Qur’an that unites legislation with the ethical dimension of the Qur’anic discourse, considering ethics to be intrinsically connected with law, since law regulates the moral life of both the individual and society. Al-Alwani emphasized that religion, as presented in the Qur’an and as experienced in life, is a way of life lived by people in their concrete reality. In this context, he addressed issues such as social equality, the rejection of discrimination, and the removal of divisions between individuals and social classes.

  He affirmed that revelation was revealed to establish justice among people, and that it is fundamentally an act of love before being a set of rules and rulings. In his interpretation, al-Alwani prioritized the ethical and human values enshrined in the Qur’an, values that align with the dignity of the human being.

  The project does not aim at rearranging or systematizing the chapters of fiqh, but rather at uncovering the ethical dimension of the Qur’an, along with its spiritual and value-laden meanings, and at promoting a life guided by humane and moral principles that contribute to building a civilization characterized by security, stability, love, and tolerance in the midst of contemporary humanitarian crises.

This study seeks to examine al-Alwani’s thought through the relationship between the concept of naskh (abrogation) and human dignity. While traditional Islamic scholarship regarded naskh as a mechanism for abolishing rulings and replacing some with others, al-Alwani advanced a new maqāṣid-oriented interpretation that denies the notion of total abrogation in the Qur’an. Instead, he affirmed that naskh represents a gradual legislative process attentive to human realities and circumstances, and that the moral order is, in essence, a religious order. In doing so, he elevated human dignity to the highest objective of the Sharī‘a, under which texts are to be understood and rulings interpreted. This perspective belongs to a contemporary intellectual context that seeks to reconcile the religious text with present challenges and to reconstruct the relationship between ethics and law on the basis of freedom, justice, and respect for humanity.

1-المقدّمة  

       تثير مسألة الأخلاق قضايا متعدّدة ومركزية، لأنّ هذا المصطلح رغم عراقته وحداثته المستمرّة،ظلّ مصطلحا يدعو إلى التفكير فيه من جديد.ولا شكّ في أنّ النظر في المسألة الأخلاقية من وجهة فلسفيّة مقاصدية سيكون له وجه  من الطرافة خاصّ به قد لا نجده عندما تكون دراستنا فقهية فقط أو فلسفية فقط. ذلك أنّ الفلسفة الأخلاقية ومقاصد الشّريعة مجالان متجاوران في الموضوع والمنهج والغايات، ويخصّان حقيقة الوجود الإنساني، ولذلك نجد أنفسنا غير قادرين على التفكير في هذه المسألة دون السؤال عن إنسانية الإنسان وعن الإنساني في الإنسان؟

الأمر الثاني الذي دفعنا إلى البحث في هذا الموضوع،هو أنّ أكثر ما ينقص العقلانية العلمية اليوم هو ميدان الأخلاق، وبالتالي فإنّه لم يحظ باهتمام كبير في الفكر العربي المعاصر، بل يكاد يكون حكرا على الفكر التقليدي والدّيني بشكل خاص.

هذه هي المشاغل التي أوحت لنا بكتابة هذا البحث ليقيم العربي مصالحة مع نفسه عندما يقرأ تراثه قراءة نقدية عقلية تخفّف من شدّة القطيعة الحاصلة في وعيه .

يبدو أنّ لطه جابر العلواني مشروعا خاصّا تميّز به عن المفكّرين الّذين سبقوه أو عاصروه أو أتوا بعده، ويظهر ذلك  في الوجه العملي لفلسفته في الأخلاق، أي التفكير النقدي الّذي سخّره في القضايا العملية والأخلاقية منها بالخصوص.فقد جعل من فلسفة الأخلاق ميزة لكتاباته إذا قارنّاه بالبحوث المقاصدية الأخرى حيث يطغى الجانب الفقهي.

الأمر الثاني الّذي تميّز به فكر طه جابر العلواني فيمجال الأخلاق، هو أنّه تناول المسألة من وجهة عقدية دينية أثارت جدلا كبيرا في الفكر الإسلامي القديم والمعاصر هي مسألة النسخ باعتباره إلغاء وإزالة لحكم سابق وتغييره بآخر. رفض طه ذلك الاعتقاد المزعوم ،فاعتبر ذلك تقييدا للقيم الأخلاقية العامّة في السور المكية، وخلق فجوة بين النصوص والتطبيق العملي للقيم الإنسانية والعيش وفق مبادئ الأخلاق والكرامة .والمحبّةوالتّسامح. وهذا يتحقّق بتطوير التشريع الإسلامي بما  يتوافق مع حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وإعادة تفسير النصوص الشرعية بما يتناسب مع متغيّرات العصر، وصياغة إسلام معاصر أكثر انسجامًا مع متطلبات العدالة الكونية دون أن تفلت المعارف الحديثة من عقال الأخلاق والقيم الإنسانية  والمقاصد الكبرى للقرآن.

يعتمد المشروع منهجًا تحليليًا تأويليًا يجمع بين دراسة النصوص الشرعية في سياقها التاريخي والفلسفي والاجتماعي، وتحليل أبعادها الأخلاقية والمعرفية. ويركّز على النسخ أداة معرفية تسهم في تحقيق الفضيلة وتنظيم الحياة الإنسانية وفق قيم المحبة،في ظلّ الأزمات المعاصرة .

والكتاب محاولة لتأكيد كليّة القيم وأنّ الأخلاق واحدة بين الأمم ، لأنّها تعبّر عن جوهر الإنسان بما هو إنسان توجّه سلوكه القيم والفضيلة والكرامة لتحقيق سعادته،وهو إذ يربط بين النصّ الدّيني وفلسفة الأخلاق، يحاول الجمع بين التصوّر الإسلامي للأخلاق والتصوّر الفلسفي لها ليربط الصلة بين الأخلاق كما تتصورها الفلسفة والأخلاق من منظور الإسلام ليكشف عن وجه القرابة الروحية .

فكيف واءم طه جابر العلواني بين  النسخ باعتباره مسألة فقهية وبين مباحث الكرامة الإنسانية؟ وكيف أعاد تقديم مقولة النسخ باعتباره نموذجا للقراءة المقاصدية التي تدافع بدرجة أولى على الكرامة الإنسانية؟

وإلى أيّ مدى استطاع أن يتجاوز بقراءته التأويلية لقضية الكرامة الإنسانية الفهم التراثي للنص الشرعي؟

2إعادة النظر في مفهوم النسخ : الكرامة الإنسانية أساس تأويلي

1.2-منهج المؤلّف

دعا طه جابر العلواني في مؤلفاته إلى إعادة قراءة النسخ قراءة تأويلية قيمية توفّق بين النصّ والواقع،بين الثابت والمتحوّل مع ما ينسجم ومقاصد الشريعة وأهدافها الكليّة، باعتبار أنّ الأخلاق جزء أساسي من التشريع،وباعتبار أنّ القرآن ليس نصّا منغلقا، بل خطاب منفتح يضطلع به الإنسان المسلم في عصر يعلن انتهاء الايديولوجيات وينتهك كرامة الإنسان .

فهل يمكن للأخلاق أن تنقذنا من جديد ؟ أليس من الحكمة أن نبحث عن القيم الاخلاقية وأن نصغي إلى صوت الإنسانيّ في الإنسان، وأن نعيد بناء العلاقة بين النصّ والواقع على أساس العدالة وتحقيق الكرامة ،لتصبح الكرامة هي المركز والأصل.

  تنطلق الدراسة من إشكالية مفادها أنّ النسخ كان يُستخدم تاريخيًا لتعديل الأحكام الشرعية، الأمر الذي أدّى إلى تقييد المبادئ الأخلاقية العامّة في السور المكية،وخلق فجوة بين النصوص والتطبيق العملي للقيم الإنسانية. ومن هذا المنطلق، يطرح طه فرضية مفادها أنّإعادة النّظرفي قراءة نصوص القرآن من شأنها أن تصالح بين المبادئ الدينية والقيم الحديثة، مثل العدالة،الديمقراطية، والمساواة، لتركيز إسلام معاصر منسجم مع متطلبات العصر وحقوق الإنسان.

هل يعود طه إلى الكرامة الإنسانية بما هي نوايا ومقاصد توجّه الأفعال وتعبّر عن الإرادة الخيّرة التي تريد من العمل الأخلاقي قاعدة كونية؟ أم تعبّر عن الانتماء الاجتماعي والواقع الطبقي للأفراد والمجتمعات وبالتالي عن أزمة الإنسانية وعن الضمير الجمعي الذي يهيمن علينا )(

إن واقع العصر يعيش حالة التقاتل بين الجماعات والدول،وأسباب هذا التقاتل واحدة، وهي الصراع الذي توجهه الرغبات وتتحكم فيه الأهواء فكانت الغلبة دوما للأقوى بتوجيه من العقل الخاضع للرغبات والهيمنة والعنف، وهي حالات تتناقض جوهريا مع كلّ أشكال التعقّل ومظاهر الأخلاق والكرامة الإنسانية.ومن جانب آخر حدود سلطة المقدّس الدّيني والموانع الإيمانية والأخلاقية التي تحدّ من استيعاب النصوص،والقراءة التي تنفي الجوانب الأخلاقية في النص الديني وتعلي من شأن النصوص التي تدعو إلى القتل والعنف بدعوى النسخ.

من أجل ذلك يرى طه أنّه لا بدّ من إعادة التوازن بين العقل والنصّ، و بقراءة تأويلية للنسخ تجعل الإنسان قادرا على فهم النصوص الشرعية بوعي، ويربط بين التشريع والقيم الإنسانية.ويعطي البعد الأخلاقي الأهمية في الأحكام التشريعية، بما يحقّق العدالة والمساواة ويؤسّس لمجتمع يسوده الأمن والاستقرار .ومن ثمّة تحويل الأحكام الشرعية من رؤية نظريّة إلى حكمة عمليّة علما وسلوكا، علما وكرامة إنسانية وفق المقاربة التي تحقّق تكاملا بين النظري والعملي.يقول طه جابر العلواني في هذا الخصوص:” فالقرآن المجيد واحد لا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدد فيه أو التجزئة في آياته، بحيث يُقبل بعضه ويُرْفض بعضه الآخر. كما أنّه لا يقبل التناقض أو التعارض. فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة،فذلك التعدد ضرورة لا غنى عنها في التعليم والتعلّم والتنزيل لتغيير الواقع وإبداله”()

لم يثر الباحث قضيّة النّسخ مباشرة عندما تناول قضايا الأخلاق والكرامة الإنسانية ، ولكنه أثار قضيّة مرتبطة بها، وهي التّفاسير المعاصرة الّتي قام بها المسلمون من العلماء. ويرى الكاتب أنّ هؤلاء المفسّرين ساروا في اتّجاهات بسبب العصر المتردّي الّذي يعيشونه، فالثّقافة والمفاهيم الغربية عن الحياة، وذهول المسلمين من التقدّم العلمي في الغرب كان له الأثر في تشعّب اتّجاهات المفسّرين وطرائقهم في تفسير بعض الأخبار المتعلّقة بجمع القرآن وتدوينه و”قضايا الناسخ والمنسوخ والتعارض والترجيح. فكلّ تلك الأمور تندرج في إطار تلك القضايا ذات الصبغة الأكاديمية وكلها يحتاج إلى مراجعة وتقويم وحسم إلاّ أنّ هذه الأمور كما جرى تداولها في الماضي واستمرّ، هي موضع استغلال للخصم وفتنة للأبناء لا ينبغي أن تستمرّ أبوابها أمام خصوم القرآن( )

وهو شاهد على درجة كبيرة من الأهمية، لأنّه يشير بطريقة غير مباشرة إلى قضيّة النّسخ وضرورة التّسليم بالآراء القديمة. وفي نفس الوقت يعترف ضمنيا بأنّ تلك الاجتهادات لا تملك الحقيقة ولا تخدم الواقع الرّاهن بقضاياه وتحدياته.  يقول في ذلك”فأمّا بالنسبة للواقع فيتفاعل الخطاب معه متدرجا فيتصل به، وينفصل عنه فيستوعب الواقع، لكنه سرعان ما يتجاوزه،فهو لا يحلّ فيه ولا يرتبط به ارتباطا نهائيا بل يستوعبه ويقوم بترقيته وتزكيته ثم يتجاوزه إلى المستقبل وحين يتصل الخطاب بالواقع يتّصل به اتّصال الحكيم المترقّب كأنّه يوجّه إليه سؤالا: تلك هي قيمي وتلك هي حالتك فإلى أيّ مدى تستطيع التجاوب معي، وتتجاوز نقصك وتتعالى عليه؟”                                          

فالباحث متردّد بين ضرورة الاعتراف بما أقرّه السّلف،والالتزام بما أقرّوه في هذه المسألة وبين ما تفرضه الألفاظ من وجود تعارض وواقع المؤوّل الرّاهن. والسّؤال هنا: كيف يتفاعل النّصّ مع الفكر في إطار الظّروف الّتي يعدّ هذا الفكر استجابة لها؟  فما هو السرّ في هذا التّنوع داخل الوحدة؟

هل يعود الأمر إلى ما تحدثه اللّغة المجازية في النّفس من افتراضات لا تنقطع عن التّفسير والتّأويل؟ فيتحوّل الفقيه مع النصّ من الوحدة إلى التّنوع، ومن المؤتلف إلى المختلف. أم يعود ذلك إلى أنّ العثور على المعنى هو الطّريق إلى طلب الحق. وهو الحق الّذي لا يمكن الإمساك به وحصره واحتواؤه( ). ولذلك يتّسع النصّ القرآني باعتباره خطابا إلهيّا إلى إمكانات.أين الخلاص إذا ؟

الباحث هنا يميّز بين خطاب الله في لحظة اتّصاله الأولى به والخطاب كما يقدّمه الفقيه أو المفسّر، وهنا يدعو إلى ضرورة إعادة الخطاب إلى أصله ليعيد النظر فيه.لماذا؟لأنّه في اعتقاده أنّ الصياغة اللاهوتية في التفسير غلبت القراءة المقاصدية لأحكام تنسجم مع القرآن ما دام القرآن لا يعيق عمل العقل .فالتفسير اللاهوتي في اعتقاده “من شأنه أن يخلط بين ما هو وحي الهي منزّل صادر عن الاله الأزلي الأحد وبين نسبية البشر من مفسّرين ومؤوّلين ولغويين تتحكم بيئاتهم التاريخية في المنتج المعرفي الذين يصلون إليه أو يستنبطونه ويحملون الوحي عليه حيث أنّ هناك الكثير من المؤثرات التي لا يستطيع الباحث التحرر منها ، فهي كامنة في التقاليد والأعراف والمدلولات اللّغوية ()

2.1تعارض القول بوقوع نسخ في القرآن مع قيمة الكرامة الإنسانية

   يرى طه جابر العلواني أنّ مفهوم النسخ له دور في إعادة ترتيب الأولويات الأخلاقية للأحكام الدينية، وهو ما ينسجم ودور اللّاهوت الجديد في إعادة قراءة النصوص الدينية وجعلها منفتحة على حرية الإنسان وكرامته، لأنّ التقيّد بالاجتهاد التقليدي من شأنه أن يلغي القضايا الرّاهنة.ويرى أنّه أصبح من الضروري الدّعوة إلى إعادة الاعتبار للآيات التي قيل إنّها منسوخة ما دامت تخاطب الإنساني فينا، وما دامت تبشّر بتحقيق الكرامة الإنسانية التي تحتاجها البشرية.

     لكن هذا اللّاهوت  تعترض طريق تحقّقه صعوبات، من بينها القول بوقوع نسخ في القرآن وما يحويه هذا القول من تعسّف ونسف للقيم، ومن ثمّ مراجعة التصوّر الفقهي التقليدي للنسخ ولآيات الأحكام، وإنجاز قراءة تشريعيّة جديدة للقرآن في ضوء الأخلاق.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                             ومن هنا جاز لنا أن نعتبر دراسة طه جابر العلواني من ضمن الدراسات العلمية التي تثبت هشاشة القول بالنسخ واكتمال التشريع، فالفقهاء القدامى لم يعتنوا بوضع تعريف دقيق لمفهوم الحكم على ضوء مقتضيات الأخلاق،” ولهذا السبب أساؤوا فهم الآيات الحكمية في القرآن الكريم من حيث تحديدها وتصنيفها ومن حيث محتواها( ). لأنّ أهمّ عامل مميّز للأحكام التشريعيّة هو “التقنين للسلوك البشري وللعلاقات بين الناس”()

ورغم التّطور الّذي حصل في هذه المواقف التيمثّلتها مصنّفات علوم القرآن، ورغم أسبقية مصنفات النّاسخ والمنسوخ على مصنفات الأصوليين والمفسّرين، إلاّ أننا نلاحظ أنّه لم يحصل قطع مع تلك المصنفات، وأنّ مساهمة الفقهاء إنّما هي تبرير لمواقف السلف في فهمهم للآيات واستنباط الحكم منها لأنه “لا يوجد معنى يأتي مؤوّل ليفسّره، وإنما هناك معنى لأن مفسّرا أوّله وبنى شروط إمكان فعله التأويلي بناء تأويليا” .ولذلك اتّخذوه فنّا ولكنه فنّ مستصعب ولا غرابة، فقد أشكل على المفسّرين والفقهاء وعلى المهتمين بالقراءات .

               على هذا الأساس المفاهيمي الجديد يراجع طه جابر العلواني الآيات المنسوخة فيرى أنّها تتوفّر فيهاالمضامين الأخلاقية،على عكس الآيات التي قيل إنّها ناسخة فيرى أنّها تتجاهل الشّريعة في الشؤون العامّة،والتي فيها انتهاك لكرامة المسلمين ودعوة إلى العنف والحيف والإساءة إلى الكرامة الإنسانية. ويقدّم طه تبريرا لذلك فيقيم مقارنة بين الآيات المكية والآيات المدنية. الأولى تركّز على الجانب العقدي أمّا الآيات المدنية فتهتم بالجانب التشريعي “فجاءت آياته في سياق بناء الجماعة المؤمنة نواة للأمة القطب المسلمة والخطاب القرآني هنا كان يعمل على تقديم المقاصد الشرعية الكبرى لأوّل مرّة في تاريخ الشرائع والقيم( )

إنّ هذه الملاحظات تنبهنا إلى أمر مهمّ وهو التفاعل بين النصّ والواقع في إنشاء الحكم، وإلى تفاعل الفقيه مع المتغيّرات الثقافية حتّى لا يفارق  ائتلاف الجماعة، لأنّ الآيات المنسوخة وتكرّر طرحها مسألة لا يمكن أن يقع الاتّفاق عليها فاكتشاف المعنى من الآيات المنسوخة عمليّة لا تتحقق مرة واحدة، إنّها مستمرّة()وهو دليل على أنّ الحقيقة تتراوح بين النصّ والواقع. فالنصّ دون واقع فراغ وخواء ومهمّة المفكّر هي رؤية مضمون النصّ في الواقع المعاصر الذي يعيش فيه هذا الفكر أو الفقيه أو المجتهد”()

ومن ثمة فإنّ ما يؤسّس مشروعية هذه الأصول، هو الواقع والضرورة الاجتماعية، أمّا محاولة إضفاء المقدّس عليها فلا تعدو أن تكون تمشيا قام به الأصوليون لإسباغ المشروعية على اجتهاداتهم، فالمسلمون يقولون إنّ الشّريعة كاملة، وهذا صحيح، ولكنّ اكتمالها إنّما هو في مقدرتها على التطوّر، وعلى استيعاب طاقات الحياة الفرديّة والاجتماعيّة ، وعلى توجيه تلك الحياة في مدارجالرقيّ المستمرّ مهما بلغت تلك الحياة الاجتماعيّة والفرديّة من النشاط والحيوية والتجديد().

ومحمود محمد طه هنا يرفض الحلّ الّذي يقوم على تطبيق الشّريعة دون الالتزام بالقانون الدولي أو حقوق الإنسانوهو خيار يرفضه المصلح أخلاقيا، لأنّه لا يمكن من الناحية الأخلاقية والعملية إخضاع النساء وغير المسلمين للمهانة الناجمة عن تطبيق الشريعة الإسلامية التقليدية. ومن هنا بنى محمود محمد طه نظريته في النسخ العكسي انطلاقا من السّؤال التالي : هل يمكن اعتبار النظرية القديمة للنسخ قطعية ونهائية ؟ أم أنّها قابلة للمراجعة؟

   يبدو أنّ طه عبد الرحمان يلتقي ومحمود محمد طه في أنّ الإشكالية تتمحور في كيفية تحقيق التوازن بين المرجعية الدينية التقليدية والكرامة الإنسانية، وكيف يمكن للّاهوت الجديد أن يجعل الكرامة الإنسانية محورًا للتّأويل الدّيني؟ وتعتمد المداخلة على التحليل التأويلي لفكر طهجابر العلواني والنصوص الدينية، مع الاستناد إلى المراجع المعاصرة في اللّاهوت الجديد والقيم الإنسانية لتوضيح السياق الفكري. للوصول إلى نتائج أهمها أنّ اللّاهوت الجديد يعيد توظيف النصوص  لصالح تعزيز الكرامة الإنسانية، وأنّ النسخ العكسي عند طه مثال على مرونة النصّ الدّيني في خدمة القيم الأخلاقية،وفي الوقت نفسه يؤكّد التوتّر بين الأحكام التقليدية ومتطلبات العصر.

2 منافاة النسخ لمعاني الكرامة الإنسانية التي يتطلع إليها الإنسان المعاصر

1.2- منافاة النسخ لمعاني الكرامة الانسانية

        لقد حرص علماء الإسلام على ضبط دلالات النصّ القرآني وحصر الاختلافات فيه،قصد نفي الظنون عنه وإثبات قداسته. فظهرت علوم عديدة متعلّقة به، أهمّها علم التّفسير وعلم التنجيم وعلم أسباب النزول، والمحكم والمتشابه وعلم النّاسخ و المنسوخ. هذا العلم الذي أشكل أمره على القدامى لأسباب لعلّ أهمّها أنّ النّاسخ والمنسوخ يتّصل بالنصّ القرآني باعتباره نصّا مقدّسا،يضاف إلى ذلك أنّه نصّ أثبت إعجاز محمّد. فتركّزتمقولة النبوّة انطلاقا منه، وهذه الحقيقة يعرضها إشكال مفاده أنّ النّاسخ والمنسوخ في معناه المتّفق عليه بين علماء الإسلام، يتّصل بتغيير الأحكام في النصّ القرآني وذلك بإزالة حكم وإبداله بآخر.وهذا من شأنه أن يهدم مقولة أزليّة النصّ.

ولكن من جهة ثانية، فالنّاسخ والمنسوخ يرتقي بالنصّ القرآني ليكون قابلا للاجتهاد ويجعله قابلا للعديد من التّأويلات والتّرجيحات والقراءات. مأتى هذه التّرجيحات،السّؤال التّالي:  هل كلّ ما صحّ لغة صحّ تفسيرا؟ وهل وجود حقيقة ما يقتضي غياب نقيضها؟ وهل ميّز القدامى بين النّسخ بمعنى الإرجاء؟ والنّسخ بمعنى الإزالة؟ هل المعتمد في النّسخ النّقل دون الرّأي والاجتهاد؟

هل نفهم النّاسخ والمنسوخ من خلال علاقته بالنصّ القرآني باعتباره وحدة لغويّة مستقلّة بذاتها أو باعتباره منتجا تاريخيا تشكّل في سياقات تاريخية معيّنة؟ أم من خلال الحقول المعرفية الأخرى الّتي تمّ فيها توظيف هذا المصطلح، مثل التّفسير والفقه وأصول الفقه؟

لقد مثلت مسألة النسخ إحدى القضايا المركزية التي تكشف عن مدى الحاجة إلى قراءة جديدة تعيد وصل النصّ القرآني بالقيم الإنسانية الكونية التي يتطلع إليها الإنسان المعاصر، وجعل الدّين فاعلا  في بناء عالم أكثر إنسانية بدل أن يبقى مصدرا للتوتّر مع الحداثة فكيف تساهم الكرامة الإنسانية في صياغة المفاهيم الدينية؟وإلى أيّ مدى توفّر المرجعية الإسلامية حلولا متكاملة لصون كرامة الإنسان؟

    على الرغم ممّا تحقّق للحضارة المعاصرة من مكاسب عظمى، وما توفّر لها من رفاه حضاريّ، وازدهار ماديّ ،إلاّ أنّها ما تزال تتلمّس سبيلها إلى الاستقرار والتوازن والطمأنينة .  يرى طه جابر العلواني أنّ ما فات الإنسانية من سعادة واستقرار مردّه إلى تفلّت المعارف من عقال الأخلاق والقيم الإنسانيّة غير مكترثة بعواقب منجزاتها و أنّ “الخطاب القرآني عَنِيَ بتقديم القيم الحاكمة العليا لتشكّل قاعدة الثوابت الراسخة التي تمكّن البشرية من استجابة لحاجاتها التشريعية مع تحقيق مقاصد الشرائع مهما اختلفت البيئات وتنوّعت الثقافات والحضارات،وتمايزت الأنماط الحياتية للبشر لتكون لدى البشرية على الدوام الوسائل العادلة والأمينة في تقييم الفعل الإنساني الذي هو غاية التشريع ومقصده.()

   فالباحث يريد أن يثبت أنّ القيم كليّة، وأنّ الحكمة واحدة بين الشعوب لأنّها تعبّر عن جوهر الإنسان باعتباره  إنسانا قبل أن يكون كائنا تاريخيا أو اجتماعيا او كائنا متزهّدا .وهو يرفض الآراء القديمة في المسألة الأخلاقيةباعتبارها قيما تأخذ شرعيتها من النصّ الدّيني، ولكنه يضيف إلى ذلك أن تكون عملية عقليّة، وهو يرى أنّ الدّراسات القديمة على الرغم من تميّزها عن غيرها فهي تبقى غير قادرة على مخاطبة الإنسان بما هو إنسان،وهذا مخالف لما تسعى إليه الفلسفة في تفكيرها لأنّها تريد دوما النظر في الإنسان ذاته.بينما نجد طه عبد الرحمان يحاول الجمع بين التصوّر الإسلامي للأخلاق والتصوّر الفلسفي لها .وهو منهج توسّل به بعض المفكرين ()

مشروع طه جابر العلواني لا يهدف إلى إعادة ترتيب أبواب الفقه أو تنظيمها، بل يسعى إلى الكشف عن البعد الأخلاقي للقرآن ومعانيه الروحية والقيمية، والعيش وفق مبادئ إنسانية وأخلاقية تسهم في بناء حضارة يسودها الأمن والاستقرار وتعمّها المحبّة والتّسامح في ظلّ الأزمات الانسانية المعاصرة. تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة فكر طه جابر العلواني من خلال العلاقة بين مفهوم النسخ والكرامة الإنسانية. فبينما اعتبر التراث الإسلامي التقليدي النسخ آلية لإلغاء الأحكام وتجاوز بعضها ببعض، قدّم العلواني قراءة مقاصدية جديدة تنفي فكرة النسخ الكلي في القرآن، وتؤكد أنّه تدرّج تشريعي يراعي واقع الإنسان وظروفه وأنّ النظام الأخلاقي هو نظام دينيّ بامتياز. وبذلك جعل من الكرامة الإنسانية مقصدًا أعلى للشريعة، تُفهم النصوص في ضوئه وتُؤوَّل الأحكام وفقه. تأتي هذه القراءة في سياق فكري معاصر يسعى إلى مواءمة النص الديني مع التحديات الراهنة، وإعادة بناء العلاقة بين الأخلاق والتشريع على أساس الحرية والعدل واحترام الإنسان. غير أنّ مشروع العلواني، على أهميته، يظلّ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التحليل النقديّ والمقارنة المنهجية مع تجارب فكريةٍ أخرى تسعى بدورها إلى وصل الأخلاق بالتشريع.

    يبدو أنّ لطه مشروعا مخصوصا تميّز به عن بقية المفكرين ويظهر ذلك في الوجه العملي لفلسفته وأعني بذلك التفكير الذي سخّره في القضايا العملية، وخاصّة الأخلاقية، فقد جعل من فلسفة الأخلاق طابعا مميّزا لفلسفته وكتاباته، فبحوثه لم تكن ذات أبعاد ميتافيزيقية أو لغوية ولم يكن حديثه في الأخلاق حديثا نظريا مثاليا كأن نتحدث عن المدينة الفاضلة بل إنه يربطها بالبعد العملي الخالص لأن هدف التفكير عنده موجه وجهة عملية . ولكن بتوجيه نقد للتجربة التقليدية في فهمها للواقع وللأزمات ذلك أنّ كلّ نقد للتجربة الماضية، وكلّ تأسيس لمشروع مستقبلي لا بدّ أن يناقش الأسس والمبادئ، أي المفاهيم العقلية التي توجّه العمل ( )

   يرى طه عبد الرحمان أنّ الفكر الإسلامي التقليدي ركّز على ضبط الحرية ضمن الحدود الشرعية، بينما يسعى الفكر المعاصر إلى مواءمتها مع قيم الحداثة وحقوق الإنسان دون انفصال عن المرجعية الدينية. ويبرز طه الحاجة إلى منهج فقهي فلسفي لفهم الحرية وتجاوز المفهوم التقليدي والتأويلات الحرفية للنصوص، موضّحًا أنّ الكرامة الإنسانية ليست مجرّد حقّ فردي، بل هي ممارسة سياسية واجتماعية مرتبطة بالمساواة والعدالة. توسّل الباحث بالمنهج الفقهي، والدليل على ذلك هو أنّه لم ينطلق من مفهوم مسبق للأخلاق، ولم يسقط تصوّرا جاهزا لهذا المصطلح على الواقع العربي، بل انطلق من الواقع ليبحث كيف مورست. والاشكالية التي يطرحها تتمثل في  إبراز مدى قدرة الفكر العربي على التوفيق بين متطلبات الحداثة والواقع المعاصر لفهم الحريّة بشكل عملي ومنهجي.    

 وهي محاولة منه لنقد العرب، ونقد التأخّر التاريخي للعالم العربي، ونقد البنى الفكرية والاجتماعية, ودعوة إلى معالجة بعض مشكلات الحياة العربية، وتمتين العلاقة بين الدولة والشعب، ورصد أهمّ الإشكالات المنهجية التي تقف حائلا دون بناء حقائق السّلام والتسامح، وصون حقوق الإنسان والابتعاد عن نزعات التعصّب، وقبول المختلف، واختراق النظرة  التقليدية التي سيطرت على الوعي العربي ردحا من الزمن. وهذه النظرة لم تعد مقبولة من وجهة نظر الفكر العلمي المعاصر، أو حتّى من وجهة نظر الفكر الدّيني التوفيقي المسؤول.   ذلك أنّ “الحلول الجزئية لن تستطيع أن تعالج الأزمةالفكرية ، ولن تقدّم الكثير في إعادة بناء العقليّة المجتهدة المبدعة التي لا تتمّ نهضة، ولا يقوم عمران دونها(  )

وقد قدّم الباحث لذلك أدلّة نقد من خلالها هذه الحلول الجزئية التي تضرّ بالكرامة ا إنسانية أكثر ممّا تخدمها.ولعل أبرزها آية السيف فـــ”من الصعب إذا اعتبرنا ديار الآخرين دار دعوة أن تعتبر آية السيف ناسخة لما يقرب من مائتي آية كريمة تحثّ وتحرص على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والبرّ بالآخرين والقسط اليهم وحسن معاملتهم، وغير ذلك.” اعتبر طه ذلك نوعا من الفتاوى التي لا علاقة لها بالنصّ القرآني، وقد حذّر الأمة وعقلاءها من اتّباع تلك الفتاوى “وهنا نتمنى على إخواننا وأبنائنا من الدعاة الفقهاء أن لا يصادروا على الأمة ويحوّلوا قضاياها الكبرى إلى مجرّد فتاوى تحت شعار (فقه ا أولويات)فذلك يضرّ بقضايا هذه الأمّة أكثر مما يخدمها”

2.2-كيف تساهم الكرامة الإنسانية في صياغة المفاهيم الدينية؟

إنّ المتأمّل في قضايا الكرامة الإنسانية كما أثارها المفكّرون العرب يلاحظ أنّ الجانب النظري هيمن على خطابهم في دراستهم للمسألة الأخلاقية . فالإشارات إلى الواقع والنظام الاجتماعي مغيّبة، وهو تغييب في اعتقادنا مقصود، الغاية منه إضفاء القداسة على مواقفهم لتكون مفارقة للواقع .

في المقابل، ينتهي المنهج الفلسفي إلى تأكيد أنّ مفهوم الكرامة تنويعا يجهد ذاته دون طائل، علّه يرقى إلى مقام الثابت ليكون قانونا. ولكن تركيز المفهوم الفلسفي أكّد علاقة التّفاعل المستمرّ بين الفرد والواقع المتطوّر، وهي علاقة يتغيّر فيها معنى النصّ، ويتجدّد بتجدّد قضايا الواقع ومصلحة الفاعلين. هذا الاختيار للمنهج الفلسفي تبناه ثلّة من المفكّرين العرب ليبيّنوا أنّ الأخلاق هي المدخل الضروري لبناء مشروع واقعي تظهر فيه مقوّمات الواقع الإنساني بكلّ أبعاده وحدوده“( )

لقد أراد طه بناء نظرية في الأخلاق والدين والسعادة أن يبني نظرية في الإنسان ليبلغ كماله الإنساني، متوسلا بالرؤية القرآنية لرسم الحياة البشرية، لحل مشاكل الإنسانية.وهي قراءة يرتبط فيها التعقل بالكرامة والفضيلة لأنّ العاقل صفة خاصّة بالفاضل ولا يمكن أن تُطلق على غيره .”فالتعقّل في حقيقته هو في القدرة على استنباط الخير ليُفْعل واستنباط ما هو شرّ ليُتَجنب()

     إنّ قراءة طه جابر العلواني للكرامة الإنسانية لا تنفصل عن وعيه العميق بما سمّاه «الأزمة الإنسانية المعاصرة»، تلك التي تتمثّل في فقدان التوازن بين المادي والروحي، وبين العلم والقيمة، وبين التقدّم التقني والمضمون الأخلاقي. فالعلواني يرى أنّ هذه الأزمة في جوهرها ليست اقتصادية أو سياسية فحسب، بل أزمة إنسانية وجودية نتجت عن انفصال الفكر الحديث عن المرجعية الإلهية وعن إهمال مبدأ الكرامة   بوصفه ضابطًا للعلاقة بين الإنسان وخالقه والعالم.ومن ثمة يصبح العمل من أل اتاحة فرصة الحياة والنموّ لبني الإنسان ومحاربة كل ما من شأنه أن يعيق تفتح هذه الطاقات البشرية الجديدة مطمح ناري”

      إنّها دعوة لعقد صلة بين الإنساني والإلهي حتى لاينفصل عن واقعه وعن دينه  وطه جابر العلواني في كلّذلك لا يضع مسافة بين النصّ وقارئه، بل يعتبره منتجاللمعنى، وهو لا يقيم تنافرا بين المعاني، ولا تفاضلا بينالدلالات، ولذلك فإنّ كل قراءة تكشف عن فراغ ما، يمكن القول إنّ النصوص التي نشأت حول النصّ الأصلي لا تستنفد حقيقة الأصل . وإنّما هي قراءات وتأوّلات أي أنّها تقبل التأويل فضلا عن إعادة النظر .

     وهكذا، فإنّ الأصول تحتاج دوما إلى أن تكتشف من جديد.”() ما دامت توفر فرصا للحياة للأفراد ومحاربة كل ما من شأنه أن يعيق كرامة الفرد،فغياب الكرامة الإنسانية للفرد ستكون سببا في اختلال السبل في المجتمعات المعاصرة، في انتشار الخوف والقلق واليأس والأزمات وفي عدم وضوح الأهداف السياسية والاقتصادية والسياسية فتحلّ الحيرة ويتعاظم التأثير التقني والعلمي على أنماط السلوك والعادات وبالتالي إلى عدم التوازن النفسي لدى الأفراد الذين يكوّنون هذه المجتمعات.

 

                                                   

خاتمة:

         إنّ النّظر في العلاقة بين الأخلاق والتّفسير القرآني قضيّة مركزيّة بدأت تفرض حضورها في الخطاب الإسلامي المعاصر. وهي رؤية جديدة في التّعامل مع النصّ القرآني تسعى إلى الشموليّة، وتنظر في آيات القرآن باعتبارها تحمل قيما قبل أن تكون قوانين وتشريعات فقهيّة اتّفق حولها الفقهاء. ذلك أنّ مسلّمات الرّؤية الإسلامية تقوم على أنّ النصّ القرآني خضع للتّفسير ولعلوم القرآن وعلم الكلام وكان مقتصرا على فئة معيّنة،هي الفئة العالمة باللّسان العربي وبالنّاسخ والمنسوخ وأسباب النزول.                                                                                                  

  أمّا مجال البحث في التّفسير الأخلاقي للقرآن فيقوم على أنّ بعض الفقهاء المعاصرين رأوا أنّ تلك المصنّفات صادرت بعض القيم الأخلاقيّة عندما تعاملت مع النصّ على ظاهر معناه فقط. فسعوا إلى  البحث في الآيات الّتي تتكتّم على مضامينها الأخلاقيّة والّتي تبدو متناقضة ظاهرا في معانيها.          

        ومن الطبيعيّ، في هذا السّياق، أن يفتّش طه جابر العلواني عن دليل من القرآن للوصول إلى المعاني الأخلاقية الّتي تنظّم العلاقات بين الأفراد، بما يكفل صلاح معاشهم واستقرارهم، في ظلّ قوانين أخلاقيّة نابعة من النصّ ومنسجمة مع الواقع المتغيّر. وقد تنبّه إلىأنّ السّبيل إلى ذلك هو الدّعوة إلى استنباط القيم الأخلاقيّة الموجّهة إلى الإنسان. وقد سلك في هذا السياق مسلكا في التّفسير يختلف عن بقيّة المفسّرين والمباحث المعاصرة.لأنه يؤمن بأنّ الأخلاق تحقق السعادة للفرد وللمجموعة،” فأمّا السعادة فهي الخير في كماله، وهي الخير العام للنّاس من حيث هم ناس، فهم بأجمعهممشتركون فيها“()

     انتهج الخطيب هذا المنهج في التّفسير لاستخراج المعاني الأخلاقيّة كما هي واردة في القرآن، والتزم في شرحه للنصّ أن يكون منهجه قائما بالأساس على استنطاق النصّ استنطاقا مباشرا، حتّى يتحرّر من المسلّمات النّقلية الّتي تؤثّر في منهج التّعامل مع النصّ القرآني، والّتي تسعى في كثير من الأحيان إلى حجب المعنى الأصلي الكامن فيه.

فالكرامة الإنسانية والخير والفضيلة هي طريق السعادة،ويكون التخلّق بالأخلاق الحسنة مع طه جابر العلوانيتعبيرا عن موقف من الوجود وتوجيها للسلوك وفقه”فالعادات المعبّرة عن هذا هي الأخلاق الفاضلة إذن،وهي المحقّقة للسعادة الإنسانية التي فيها يعرف الإنسان تمام إنسانيته ويحقّق اكتماله الذّاتي …فالاعتدال هو حكمة الأخلاق أي حكمة تدبير النفس لنفسه، والاعتدال هو حكمة السياسة أيضا بما هي تدبير للمدينة ومن لا قدرة له على تدبير شأن نفسه، لا قدرة له على تدبير المدينة بالضرورة () ومن خلال هذا المنظور بقدر ما نعطي قيمة للأخلاق لدى الفرد والجماعة بقدر ما تتسع مداركنا وتتطور نفسيتنا وتنمو لدينا ملكات الخلق والإبداع .

المراجع باللّغة العربية:

(1)  الأهواني،أحمد فؤاد: (1962)،القيم الروحية في الإسلام، وزارة الأوقاف المصرية.

(2) بلعيد،الصادق:(2000)،القرآن والتشريع، قراءة جديدة في آيات الأحكام النشرالجامعي،ط2،تونس.

(3) حرب، علي:(1995) التأويل والحقيقة، قراءات تأويلية في الثقافة العربية ، دار التنوير ط لبنان

(4) حنفي، حسن:).1988) قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر. القاهرة: دار التنوير.

(5) دوركايم،أميل:(2015) الأخلاق الاجتماعية،ترجمة د.السيّد محمّد بدوي،مكتبة مصر للطباعة

(6)أبو زيد، نصر حامد:).1992) نقد الخطاب الديني. القاهرة: سينا للنشر.

(7) طه،محمود محمد :(1967)،نحو مشروع مستقبلي للإسلام الرسالة الثانية من الإسلام، دار الفكر. (8)العامري،أبو الحسن: (1998 السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانيّة، دراسة وتحقيق أحمد عبد الحليم عطية، دار الثقافة العربية،

(9) العطواني، عبد المجيد:(2014)،عبد المجيد العطواني،المعنى وبلاغة التأويل في مؤلفات الغزالي، الدار التونسية للكتاب ، الطبعة الأولى.

(10)العلواني،طه:(2006)،الوحدة البنائية للقرآن المجيد،مكتبة الشروق الدولية،القاهرة.

(11)العلواني،طه: (2006)،نحو موقف قرآني من النسخ،سلسلة دراسات قرآنية.مكتبة الشروق الدولية،القاهرة.

(12) العلواني طه:(2005)،أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها،سلسلة دراسات قرآنية،مكتبة الدولية،القاهرة.

(13) العلواني،طه جابر:(2001) ،مقاصد الشريعة،قضايا إسلامية معاصرة،دار الهادي للطباعة،بيروت

(14) الغزالي، محمّد: (1938)،المستصفى في علم الأصول ، دار الكتب العلمية ، بيروت- لبنان

(15) غليون،برهان: (1990 اغتيال العقل محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، مكتبة مدبولي،ط.3

(16) الفارابي،أبو نصر: (1961)رسالة في العقل،تحقيق حسن مهدي،دار المشرق،بيروت.

(17) فخري،ماجد: (1986) الفكر الأخلاقي العربي،الأهلية للنشر والتوزيع،ط2،بيروت.

(18) ابن مسكويه،أبو علي: (1987)،تهذيب الأخلاق،تحقيق وتقديم أبو القاسم إمامي،دار سروش للنشر،طهران.

المراجع باللّغة الأجنبية:

انظر فرانسيس جاك    «   le texte ne dit jamais simplement la « réalité »mais qu’il exprime et dissimile les besoin les instincts de celui qui le construit dans son rapport de puissance avec la communauté a’ laquelle il s’adresse ». Comprendre et interpréter .p 103l

إغلاق