الرئيسيةمقالات

زيتونة الماضي البروفيسور محمّد حسين حجيرات

منذ أسابيع وأنا أذهب لزيارة كرم الزيتون الّذي ورثته عن أبي، في منطقة الطيّبة، في الهضاب بين شفاعمرو وبئر المكسور، تطلّ على بحر حيفا الحزين. كنت أنظر مُطوّلًا إلى الغرب البعيد، لعلّالفرج يأتي من هناك، فلا أرى إلّا هيجان البحر الّذي بدا كوحش يودّ افتراس الشرق. ثمّ أنظر إلى الجنوب، لأجد أشجار الزيتون الحزينة في الكرم؛فهي لم تحمل هذه السنة كالعادة بحبيبات الزيتون المقدّسة. حاولت جاهدًا، بل إنّي أجبرت نفسي، ألّا ألتفت إلى الشرق حيث كرم زيتون جاري.

شعرت بنعاس شديد يغزو عينيّ، فافترشت الأرض،وأسندت ظهري المتهالك إلى جذع شجرة زيتون عتيقة، وأنا أرقُبُ الجنوب، متّخذه قبلتي؛ تارة أنظر إلى أعلى، وتارة أخرى أراقب حُبيبات الزيتون القليلة في أعلى غصن، ظهر كأنّه يعانق السماء الزرقاء.

فجأة، وفي جوّ ضبابيّ، طلّ أمامي فارس بثياب بيضاء ناصعة كثلج جبال الألب، يمتطي جوادًاأبيض مُجنّحًا؛ نظرت إلى وجه الفارس الجميل،وابتسامته الطفوليّة البريئة تزيّن وجهه، فأدركتحينها أنّه أخي الأصغر ماضي، الّذي انتقل إلى رحمة الله، وجاري الشرقيّ في كرم الزيتون ثمّنظرت إلى شُجيرات الزيتون الشرقيّة والغربيّة،فكانت كمصابيح عملاقة تضيء عتمة الضباب.

قال لي، وهو يراقب خطوط وجهي العتيق، الّذي بدت عليه بوضوح علامات الدهشة: ” يا محمّد! ما بالك تنظر إلى الغرب؟ لن يأتيك الفرج من هناك. يا محمّد! لماذا تتحاشى النظر إلى كرم زيتوني الشرقيّ؟ يا محمّد! اجعل ولاءك للشرق، حتّى وإن كان صحراء قاحلة. يا محمّد! ما هذا الصمت المُريب الّذي يُخيّم عليك، وأنت أفضل من يتقن فنّالكلام؟!.

التفت خلفه يراقب التلّة البعيدة، وظهرت كتيبة من الفرسان، بثيابهم البيضاء، وخيولهم البيضاء المُجنّحة، ثمّ التفت إليّ، وظهر وجهه مُشرقًا وهو يقول بصوت جَهْوَرِيّ، ملأ صداه الأرض والسماء: ” هؤلاء يا محمّد، أبي وأمّي وأجدادي، ينتظرونني لأعود إليهم... انهض يا محمّد! انهض يا محمّد! انهض يا محمّد!”

استيقظت من غفوتي، وشعرت ببرد شديد ينخر عظامي، على الرغم من حرارة سبتمبر اللّعينة، وطعم زيت الزيتون الحارق، من مضغي لحبّة زيتون سقطت في فمي خلال غفوتي؛ جمعت ما تبقّى من قواي المتهالكة، ووقفت كــ “عمود فيصل“، أنظر بشغف إلى كرم الزيتون الشرقيّ لففت الحطّة حول رأسي، وبدأت بجمع حُبيبات الزيتون القليلة من الأشجار المتراقصة، وأنا أنظر إلى التلّة البعيدة،لعلّي أحظى برؤية أجدادي من جديد!

إغلاق