مقالات
خارج النص الصحفي/ يوسف عطا المنان

بت مكلي
في أطراف الخرطوم، وبالتحديد عند مدينة الأزهري مربع (17)، كان يوم أمس الثلاثاء يوماً حزيناً على النفس، إذ تحصد المخدرات عقول شباب السودان، وتدثر بنات السودان بثوب العار جراء ما حاق بهن على أيدي مليشيا آثمة.
ومع ذلك، غمرني الفرح في ذات الوقت، إذ ما تزال من نساء بلادي من تهب مالها وعلمها ووقتها لمسح أحزان المجتمع بطرف ثوبها الأبيض، ذلك الثوب الذي يثير في النفس لواعج زمن مضى حينما كانت المعلمات يخرجن من كلية المعلمات في مشهد يزرع البهجة في النفوس الكئيبة.

الدكتورة لبنى مكلي وضعت أمس إصبع يدها الأيمن في جرح المجتمع، وهي تعيد افتتاح مركز قادرين لمعالجة المصابين والمصابات بداء الإدمان في الأزهري مربع (17). ذلك الحي الذي يتعافى بدوره من آثار الاحتلال والخراب الذي طال كل شيء بسبب الحرب.


المركز الذي يقع في بناية من طابقين، تدفع الدكتورة لبنى فاتورة مياهه وإيجاره، وتتكفل بالأسِرّة للمرضى، وواجبات الفطور والعشاء، بعد أن تخلى السودانيون منذ سنوات عن وجبة الغداء. كما تغطي منظمتها بت مكلي تكاليف الأطباء والمعالجين، وربما تُطالب حتى بدفع نفقات النفايات وفاتورة الكهرباء. وهي تلحّ على المدير التنفيذي لمحلية جبل أولياء للإسراع في إضاءة المركز بعد أن وصل التيار الكهربائي حتى مستشفى بشائر.

تتولى الدكتورة لبنى نيابة عن الحكومة ومؤسساتها الخيرية وواجهاتها الاجتماعية – التي كشفت الحرب عن خوارها ووهنها وهشاشة عظامها – معالجة ضحايا أوضاع اجتماعية وتربوية مختلة. فقد انتشرت المخدرات وسط الفئات العمرية ما بين عشر سنوات وحتى ثلاثين عاماً، وتآكلت القيم القديمة، وتفشى الإدمان وسط الأولاد والبنات. وتفاقمت الأوضاع أكثر بنشوب الحرب، حيث قامت مصانع في مناطق سيطرة الدعم السريع: أحدها في منطقة الجيلي ينتج مليون حبة في اليوم، وآخر لإنتاج “الآيس” بالخرطوم لسد حاجة المليشيا من الحبوب المخدرة، فيما تذهب البقية إلى الشباب.

وفي مركز قادرين الذي افتتح أمس عبر احتفال رشيق وبدون تكاليف باهظة كما تفعل الحكومة، قالت الدكتورة لبنى إنها وهبت حياتها لخدمة الإنسانية.
وهي الآن تشرف في بورتسودان على مركز لتأهيل ضحايا الاغتصاب والحمل القسري، ما وضع على عاتق المنظمة مسؤوليات جسيمة.

وفي غرفة حديثة بالمركز، وجدنا شاباً في مقتبل العمر مستلقياً على السرير، ينظر إليك نظرة المغشي عليه من الموت. لا يتحدث مطلقاً، وبيده اليمنى أنبوبة للحقن عبر الوريد. وقد عرفنا أحد أحفاد البروفيسور عبدالله الطيب أن هذا الفتى الصغير جاء لتلقي العلاج والاستشفاء من المخدرات.
ويقف إلى جانب الدكتورة لبنى رجل المجتمع والزعيم القبلي المثقف والعصري محمد علي يعقوب، الناطق الرسمي باسم الإدارة الأهلية، ومن رموز الشكرية ووجوهها المضيئة. وبصفته عضو مجلس أمناء المنظمة، استطاع تجسير المسافة بين المنظمة – التي يمتد فضاؤها من كندا إلى سويسرا والنمسا والسودان – والمجتمع. ولأن ربان هذه السفينة امرأة خرجت من مؤسسة الجيش، حيث خدم والدها في القوات المسلحة من ملازم حتى رتبة لواء، فقد غرس في فلذة كبده حب السودان.

رفضت الدكتورة لبنى مال السحت الذي تقدمه أجهزة المخابرات العالمية، واعتمدت على نفسها وعلى الخيرين من أبناء المجتمع للمساهمة في علاج أمراض انتشرت قبل الحرب وبعدها(صندوق علاج الادمان ).
شكراً دكتورة لبنى، وهي تقود زاد الخير، وتسبق الخطى إلى الخرطوم قبل من هم أحق بالعودة، لسد عورات هذا المجتمع.


