مقالات
مقالة مهمة جدًا رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكوّنة من إثنتي عشرة مقالة * الاغتراب في الأوطان، لماذا نشعر أننا غرباء؟ (2)
![](https://hamsaat.co/wp-content/uploads/2025/01/IMG_5923.jpeg)
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* اغتراب اللغة والثقافة: هل فقدنا لغتنا أم أضعنا هويتنا؟
لم تكن اللغة يومًا مجرد وسيلة تواصل، بل هي وعاء الفكر، ومرآة الهوية، والجِسر الذي يعبر به الإنسان إلى ذاته ومجتمعه، وحين تضطرب العلاقة بين الأمة ولغتها، يكون السؤال الملحّ: هل فقدنا لغتنا، أم أضعنا هويتنا؟
ونقاشنا لهذه القضية سوف يكون نقاطٍ عدة أوّلها:
* اللغة بين التهميش والتغريب
في عصر العولمة، أصبحت اللغة العربية في كثير من الأوساط مهمّشة، إما لصالح لغات أجنبية تتسلل إلى المناهج، والأسواق، ووسائل الإعلام، أو لصالح لهجات دارجة تفصل الأجيال عن أصالة لغتها، فصار الحديث بالفصحى غريبًا، والتعامل بها في الحياة اليومية مستهجنًا، وكأنها مجرد تراث قديم لا يتناسب مع “التحديث” المزعوم.
لكن فقدان اللغة لا يعني مجرد ضعف في استخدامها، بل هو انقطاع عن التاريخ، وقطع لجذور الأمة عن امتدادها الحضاري، فاللغة ليست أصواتًا تُنطق، وإنما هي رؤية للعالم، وأداة لصناعة الوعي.
ثانيًا: الهوية بين التفكك والذوبان
حين تضعف اللغة، تتشظى الهوية، فلا عجب أن نجد أجيالًا تتحدث بغير لغتها، وتستهلك ثقافة غيرها، بل وتتبنى قِيمًا وسلوكيات لا تمتّ لأصالتها بأيّة صلة، فتغريب اللغة هو المدخل الطبيعي لتغريب الفكر، وهو ما حذّر منه العلماء والمصلحون منذ قرون.
لكن السؤال الأعمق: هل ضياع الهوية نتيجة لفقدان اللغة، أم أن الهوية كانت مهيأة للذوبان قبل أن تفقد لغتها؟ الحقيقة أن العلاقة بينهما جدلية، فاللغة تحفظ الهوية، لكنها تحتاج إلى وعي مجتمعي يدافع عنها، وإرادة ثقافية تعيد لها دورها في الحياة اليومية.
ثالثًا: المخرج: استعادة الذات عبر اللغة
إذا كانت اللغة تمثل خط الدفاع الأول عن الهوية، فإن إعادة الاعتبار لها ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية، وهذا يتطلب:
1- إحياء الفصحى
في الإعلام، والتعليم، والأسرة، لتصبح جزءًا حيًا من الممارسة اليومية.
2- تقدير اللغة كقيمة حضارية
بدلًا من التعامل معها كعقبة أمام “التقدم، كيف لا؟ وهي لغة القرآن، كيف لا؟ وهي هوية السُّنّة المطهرة، كيف لا؟ وهي لغة الترث الشعري والأدبي، كيف لا؟ وهي لغة أهل الجَنّة؟
3- إدراك أن الدفاع عن اللغة هو دفاع عن الذات
وأنَّ التنازل عنها يعني تقديم تنازلات أعمق في الثقافة والهوية.
سأضيف فقرتين جديدتين لتعميق المقالة، بحيث تعالج زوايا أخرى من قضية اغتراب اللغة والثقافة.
4- اللغة في ميزان النهضة والانحطاط
عبر التاريخ، كانت اللغة مؤشرًا رئيسيًا على صعود الأمم أو أفولها، فالأمم التي تمسكت بلغتها، وطوّرتها، وأبدعت من خلالها، كانت قادرة على بناء حضارتها، كما فعل العرب في عصور ازدهارهم العلمي والأدبي، وعلى العكس، حين تخلّت بعض الشعوب عن لغاتها أو سمحت لها بالضعف، كان ذلك إيذانًا بمرحلة من التبعية الثقافية والفكرية، مما أدى إلى تراجع دورها الحضاري، واليوم، نجد أن الشعوب التي تُصرّ على استخدام لغاتها في البحث العلمي والإنتاج الفكري، مثل اليابان والصين، تحافظ على تفوّقها، بينما تعاني المجتمعات التي تتردد في تبنّي لغتها في مجالات العلوم والتكنولوجيا. فهل يمكن أن ننهض بلا لغتنا؟
5- مسؤولية الأفراد والمجتمع في حماية اللغة
إن مسؤولية الحفاظ على اللغة لا تقع فقط على عاتق المؤسسات التعليمية أو الهيئات الثقافية، بل هي مهمة كل فرد في المجتمع، يبدأ ذلك من الأسرة، التي يجب أن تعوّد أبناءها على الفصحى، مرورًا بالمؤسسات الإعلامية، التي ينبغي أن تعيد الاعتبار للغة في محتواها، وانتهاءً بالمثقفين والدعاة، الذين يقع عليهم واجب الدفاع عنها وتقديمها في صورة جاذبة وحيوية، إن اللغة ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي هوية ينبغي صيانتها والدفاع عنها كما يُدافعُ عن الأرض والعِرض.
* وفي نهاية المقالة أقول: نحن لم نفقد لغتنا بعد، لكننا على مشارف ضياعها، ومعها تضيع هويتنا، فإما أن نستعيدها ونستعيد أنفسنا، أو نُكتب في سجل الأمم التي كانت ثم انقرضت، لأن لغتها اندثرت.
* أمّا عنوان مقالتنا القادمة فهو: (حين يصبح التاريخ مجهولًا: إثر تغييب الرواية الأصلية على انتمائنا)
* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، ونسأله تعالى أن يحفظ مجتمعنا، وأن يُبرِم لهذه الأمة إبرام رشد.
* مقالة رقم: (1868)
11. شعبان . 1446هـ
الأثنين . 10.02.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)