مقالات

الدعوة المنبرية سأله: هل تظن أن التاريخ روى لنا كل أحداث الزمان؟ أجابه: إن الأحداث التي رُوِيَتْ بالنسبة لمن لم تُرْوَ، مثل قطرة في بحر /القصة قبل آلاف الأعوام”” الجزء الأخير

بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن

وصل القرية أخيرًا، فاستقبله رجل يدعى حليب، يبدو على وجهه الوقار والبشاشة والسماحة، فقال له: “أعرض عليك قرطاسًا.”
أمسكه حليب وقال: “أتريد مني أن أؤمن لك بحجة؟”
قال منبر: “بالطبع.”
قال حليب: “لست بحاجة لحجة منك، فأنا أعلم عنك من دماثة الخلق ما يغني عن أي حجة، لكن سوف أقرأ القرطاس كي أتلذذ بقراءته فحسب.”
فور أن انتهى، أخذته العبرة وقال: “لقد طاب قلبي وبرأ والله، إنه دواء فعّال، فعال لكليهما، الخيّر والشرير. الخيّر يجده شفاء، والشرير يجده كالرعد القاصف فيدفعه عن الشر.”
وقف أمام منبر، وشد على كتفيه وربت وقال: “دواؤك غالب لا يغلب، وإني ناصرك من طغيان من تعرفهم وأتباعهم، أبو الغضب وأبو النار وأتباعهم.”
قال منبر بتأوّه: “صدقت يا حليب، أبو الغضب مهاب في القرية، وكذلك أبو النار، وثمة رؤوس أخرى لهم من المكانة مثلما لهذين، ولهم أولياء يلوونهم في كل شيء يدعون الأسياد أو الشرفاء، لذلك أحتاج معونتك.”
قال حليب: “يسيطرون ويتحكمون في مقدرات القرية وأهلها، ويعتبرون ما دونهم عبيدًا. يذهبون بالشرف والرئاسة والملذات على حساب الضعفاء والفقراء.
وترتب على أطماعهم أن كان صراخ المظلومين يضج في الخيام والمباني ليل نهار على حساب شهواتهم وملذاتهم، ولابد لهذه المأساة أن تنتهي.”
فور وصول منبر وحليب إلى سوقهم الكبير، وقف في مركزه ونادى بصوت عالٍ: “يا أهل القرية، هلموا إليّ!”، فانتبه الجميع له.
قال الضعفاء والعبيد: “إنه منبر، ابن النورانية المقدسة، يشبه أمه في خلقته وأخلاقه، ولا يأتي منهما إلا الخير.”
أما الأسياد، فلما سمعوا ندائه تشاءموا، فهم يعرفون عنه أنه ينكر أفعالهم وعاداتهم ويصفهم بالطغيان والجبروت.
وقد جاء أبو النار متأخرًا، فشق الصفوف ووقف.
تفجّ حوله جمع غفير، وعندها شرع في الكلام قائلاً: “تسلم النورانية على من اتبع الهدى منكم، وتحذركم من اتبع هواه وغوى، وتهديكم كلماتها.”
أشار منبر لحليب بقراءة أحد القراطيس.
فتح حليب أحد القراطيس وقرأ ما فيه، فخشع الجميع، حتى الطغاة منهم، لكن سرعان ما أدرك الطغاة الفخ الذي وقعوا فيه حسب معتقداتهم، فارتدت رؤوسهم للخلف بعد أن كانت متقدمة للأمام، كأنهم أفاقوا من صدمة أو صاعقة.
أما العبيد فقد أيقظت القراطيس قلوبهم، واستنهضت عزائمهم، ورسخت الصبر في كيانهم، فأرادوا المزيد.
فتقدم فريق منهم وأخذوا بعض القراطيس من حليب، بينما تردد فريق آخر، فحثهم منبر على التحلي بالشجاعة فتقدموا وأخذوا القراطيس. أما الفريق الثالث فكان يرتجف خوفًا ويعلم ما قد يحدث لهم إذا تقدموا وأخذوا من منبر.
قال أبو النار: “ما أتفهك يا منبر، كل هذه الضجة من أجل أن تقرأ علينا هذه الخرافات وتعطيها لهؤلاء المغيبين.”
رد منبر: “خرافات؟! إنها حق وعدل ورحمة.
حق لأنها ترد المظالم.
عدل لأن فيها النفس بالنفس، والعين بالعين.
رحمة لأنها تحرّم الظلم والتنازع، وتأمركم بالإخاء، فتكونوا عباد الله إخوانًا.
أما ما تسميه خرافات فهو دفع عنك الهلاك، فقد اشتكت من تقلكم، ومن تظللكم، ومن تسيركم في البحر.”
انفجر أبو النار في الضحك وقال: “أنت كاذب! كذبك بلغ الآفاق، تكذب على نفسك، وعلى الناس، وعلى الأرض، والسماء، والبحار.”
حضر أبو الغضب ومعه بعض الأسياد وبأيديهم كؤوس الخمر، كانوا قد سمعوا الخبر وهم يجلسون يحتسون الخمر ويشاهدون مباريات قتالية بين العبيد، يسمونها “القتال حتى الموت”.
قال أبو الغضب: “يا منبر، يا ابن المدنسة المظلمة، من أذن لك أن تجمع رجالنا وعبيدنا وتسمعهم هذه الأكاذيب والأشعار؟”
قال منبر: “لم تكن أكاذيب ولا أشعار، وأحب أن أسمعك منها.”
قال أبو الغضب مستهزئًا: “أسمعنا، لا تكلم بعد اليوم.”
فقرأ عليه منبر قرطاسًا، يساوي فيه بين الحر والعبد، والغني والفقير، والشريف والوضيع، والقوي والضعيف.
انتفخت أوداج أبو الغضب، وألقى بالكأس الذي في يده على منبر، فتناثر الخمر على جبهته وخديه وأنفه في شكل بقع حمراء وصفراء.
مسح حليب الخمر عن منبر.
قال أبو الغضب: “إن ما تدعو إليه سوف يفسد مجتمعنا، وإن تركنا الأمر على ما تحب، سيتحول القرى إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف.”
قال منبر: “أنت تجحد يا أبو الغضب، لكني سأخاطب ما بداخلك لا ما تفوهت به،إن كان في القرية عبيد وضعفاء لأسيادها وأقويائها، فهناك من يطلقون على أنفسهم القوى العظمى، هم يعتبرون أسياد القرية وأقويائها عبيدًا وفقراء، فإن كنا لا نحب وسمنا بذلك، فأحرى أن لا نسم أحدًا به.
يا أبو الغضب، هل تحب أن تكون أفضل منهم؟”
سأله منبر ذلك لأنه يعلم أن أبو الغضب يحب الزعامة.
قال ساخراً: “كيف ذلك؟”
قال منبر: “تداوى بالقراطيس، عندها ستملك رقاب ملوك من يدّعون أنهم ملوك لدول عظمى.”
قال أبو الغضب هازئًا بعد انفجاره في الضحك: “بهذه القراطيس نملك رقاب الملوك؟! بل بها ستنشر الإرهاب والفوضى في القرية.”
ونظر إلى من بيده القراطيس وقال: “أيها الفقراء والعبيد، ألقوا هذه القراطيس على الأرض وادعسوها بأقدامكم.”
فألقى بعضهم القراطيس، بينما تردد آخرون.
دفع المحجمين نحو القراطيس، ثم نزعها من أيديهم ودعسها بقدميه.
قال أحدهم: “هذه القراطيس فيها نور وهدى، فيها العدل والرحمة، لا تداس بالأقدام.”
تبعه آخر: “إنها ذات سحر يداوي القلوب.”
فجذبهم بيده وسألهما: “هل تؤمنان أن هذه القراطيس شفاء ورحمة؟”
أجابا الواحد تلو الآخر: “نعم.”
نظر إلى منبر وقال: “هل تقرّهما؟”
قال منبر وهو يتوجس شراً: “بكل تأكيد.”
هزّ أبو الغضب رأسه، ثم أخرج سيفه من غمده وأطاح برأس العبدين وانفجر في الضحك قائلاً: “فيه شفاء، شفاء ورحمة.”
قال منبر: “أنت استخدمت قوتك، ولو كان أحدهما أقوى منك لدافع عن نفسه وقتلك.
فلتفعل ذلك الآن، أعط سيفًا لواحد من هؤلاء، واقتله، لن تتمكن، لأن سيفك باطل وسيفه حق.”
فبهت أبو الغضب وقال: “خذ قراطيسك واذهب إلى أمك لتعد لنا قراطيس تصلح الأرض ولا تفسدها.”
سأله منبر: “قل لي ما تريد، ربما يكونون معي.”
قال أبو الغضب: “نريد قراطيس تمجدنا وتعظمنا وتمنحنا المزيد من النساء والعبيد والخمر.”
غضب منبر وقال: “أنت تريد قراطيس الشياطين، إن القراطيس كلمات ودواء فيها الشفاء والعدل والحق والمساواة.”
قال أبو الغضب: “كف عن الثرثرة.”
ونظر إلى بقية من اتبعوه وقال لهم: “هل تثوبون إلى رشدكم أم لا؟”
قال بعضهم: “لن نعود إلى الضلال بعد الهداية.”
بينما صمت الباقون.
قال أبو الغضب: “ضلال، هداية، بل أنتم على ضلال لأنكم تريدون مساواتنا في السيادة
والشرف والغنى.”
وأمر بسحبهم وربطهم في جذوع النخل وتعذيبهم.
ونظر إلى الجلادين وقال: “من يثوب إلى رشده فأطلقوه، ومن يصر على غيه فعذبوه حتى الموت.”
ونظر إلى منبر وقال: “أرأيت ما فعلت بهم، أنت عاجز حتى أن تحميهم… اسمع، لو كنت صادقًا، فك وثاق هؤلاء العبيد، ألا تسمع السياط التي تنزل على أجسادهم?”
قال سيد آخر: “إنهم يستغيثون بك، فاغثهم يا من تدعي أن الله معك ومعهم.”
هنا تدخل حليب وقال لهم: “إن معي مالاً، وأنا أفديهم جميعًا، فهيا حلوا وثاقهم.”
نظر بعضهم إلى بعض وقالوا: “موافقون.”
فحلوا وثاقهم، فأعطاهم المال.
هنا ربطوهم مرة أخرى، فاستنكر حليب فعلهم وقال: “لقد نفذنا ما طلب منا وفككنا وثاقهم كما طلبت، فإن أردت تحريرهم مجددًا، أعطنا مالًا مجددًا.”
جذب أبو الغضب منبر من ثيابه وقال: “اسمع، لئن لم تنهي لأقتلنك، هيا اذهب إلى أمك، لعنة الله عليك وعلى أمك.”
حينما نقلت الرياح المقدسة أخبار ما حدث في السوق، ترحمت على الشهداء ودعت للباقين بالصبر والثبات. لكنها لم تكتف بذلك، بل أعدت رسائل من الوعيد والعذاب، تهدد بها كل من سوّلت له نفسه السير على خطى منبر. وما إن وصلت الرسائل، حتى ظل منبر يصدع بالحق رغم كل ما حدث، وأخذ الضعفاء والفقراء القراطيس التي وزعها سرًا،
خشية بطش الأعداء. في تلك الأثناء، كانت النورانية المقدسة تتابع أخبار منبر لحظة بلحظة، ترسل له الرياح محملة برسائل الدواء التي تداوي أبدان أتباعه، وتستجلب المزيد من الأنصار، ليشتد ساعده ويقوى صفه في مواجهة أبي الغضب وأبي النار وأتباعهما. ومع الوقت، أضحى لمنبر شوكة تصدعت منها قلوب أعدائه، مما دفع أبا الغضب وأتباعه إلى التفكير بالخلاص منه.
اجتمع الأعداء يتباحثون أمره، لكن الحديث سرعان ما انقلب إلى تبادل للاتهامات. كل واحد منهم ألقى باللوم على الآخرين، معتبرًا أنهم السبب في قوة منبر وشوكته، وعليه ألقى كل منهم عبء الخلاص منه على غيره. غير أن الخوف من المسؤولية حال بينهم وبين التنفيذ.
طال تفكيرهم حتى قاطعهم أبو الغضب بفكرة شيطانية، وقال: “سنصنع سيفًا ذا مقابض متعددة، ويمسك كل واحد منا مقبضًا، ثم ننزل السيف جميعًا على رقبته فيفصلها عن جسده. بذلك لن يتمكن أتباعه من الانتقام من شخص واحد، بل سيتوجب عليهم مواجهة قريتنا بأكملها وما حولها، وهو أمر يفوق طاقتهم.”
وصل خبر اجتماع أبي الغضب وأتباعه إلى النورانية المقدسة عبر الريح، فبكت، وقالت: “لا خير فيهم، لينتقل منبر إلى مدينة القناديل، سيجد فيهم السند.” ولقنتها رسالة بمنزلة رسالة لتلقنها لمنبر.
جاءته الريح بنص الرسالة: “من النورانية المقدسة إلى منبر، خذ أكياس الدواء معك ولا تغفل عنها، واذهب إلى مدينة قناديل، فإن أهلها طيّبون، سيساعدونك على رد شرف من
سلب شرفهم من أتباعك، ورد أموالهم. واحذر أبا الغضب وأتباعه فإنهم يعدون لقتلك، لذلك اخرج ليلاً حتى لا يرونك، واعلم أنك لن تتمكن من الفرار منهم إلا بمساعدة من جاء لك، الريح يا منبر.”
أعد منبر عدته، وكان حليب ينتظره عند مشارف القرية. وقبل أن يهم بالخروج، هبت الرياح تخبره أن أبا الغضب وأتباعه قد تربصوا له على باب داره لقتله. ارتعد منبر وقال: “أهي النهاية إذن أيتها الريح؟” فأجابته الريح: “سألبسك من ألبستي ثوبًا يخفيك عن أعينهم، فلا يرونك.” وما إن تحقق ذلك، حتى خرج منبر متخفيًا، يمر من بين أعدائه دون أن يشعروا به، حتى وصل إلى حليب عند مشارف القرية.
أما أبو الغضب وأتباعه، فطال انتظارهم عبثًا، حتى مرّ بهم أحد أهل القرية وسألهم عن سبب وقوفهم. فأخبروه أنهم ينتظرون خروج منبر لقتله، فقال لهم: “لقد رأيته منذ ساعة وهو يغادر حدود القرية متجهًا إلى الصحراء!”
واصل منبر وحليب رحلته حتى بلغا مشارف القناديل. كان أهلها بانتظارهما بشغف، فما إن وصل حتى استقبلوه بالأحضان، ووعدوه بالنصرة بأموالهم وأنفسهم، ليردوا الظلم عن أنفسهم ويواجهوا أبا الغضب وأبا النار. عندها قال منبر في نفسه: “صدقت النورانية.”
أدرك منبر أن قدميه قد وطئتا أولى خطوات النصر، فقد وجد في هؤلاء الناس طينة مختلفة، أناسًا فتحوا له الأبواب المغلقة وحركوا المياه الراكدة، قومًا مفطورين على العدل والحق، حتى صارت عندهم الفريسة والمفترس يجلسان في أنس وسلام.

التفت منبر إلى حليب وقال: “حقًا، من هنا يعلو الحق وترد كرامتنا. وإن كنا حفاة عراة بالأمس، فإننا سنكون أصحاب التيجان والصولجانات غدًا.” فقال حليب متعجبًا: “بهذه السهولة؟” أجابه منبر: “كلما قطفنا رأسًا من رؤوس الباطل، زرعنا مكانه بذرة من بذور الحق. هذا ما سيكون غدًا.”
بعثت المقدسة رسالة تطمين عبر الرياح، تحمل إلى السماء والأرض والمياه بشائر الفتح المبين، إذ أعلنت أن استقبال مدينة القناديل لمنبر هو بداية عهد جديد، عهد تختفي فيه صرخات المظلومين، وتتلاشى روائح الدماء المسفوحة، فلا يُسمع أنين، ولا تُشمّ رائحة قهر، وإنما يعم السلام وتنطفئ نيران الظلم في غضون سنوات قليلة.

قصة بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن
28-11-2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق