قصه أعجبتني
*هكذا تزاح الكراسي*
لم تكن المقاهي منتشرة في مدينة الزرقاء أيام الانتداب البريطاني كما هي في وقتنا الحاضر، وكان مقهى النصر أشهر المقاهي في المدينة، والذي لا يبعد كثيرًا عن محطة القطار.
وكان من رواد المقهى شبه الدائمين مجموعة من الشباب مفتولي العضلات، يقضون معظم وقتهم في لعب ورق الشدة، ولا يقومون بأي عمل إلا بعد موافقة زعيمهم، ومن صفاته أنه كان طويل القامة، وممتلئ الجسم، ذا شوارب معقوفة تكاد ترتبط بشعره الكثيف الطويل، كما أنه جريء إلى حد التهور. لا أحد يعلم اسمه الحقيقي، فالجميع ينادونه (الغربال).
في إحدى الأمسيات، جاء إلى المقهى أحد الضباط الإنجليز، وقع نظره على طاولة فارغة بجانب طاولة الغربال. سحب الضابط أحد الكراسي المتناثرة ليجلس عليه، ولكن الغربال أزاح الكرسي من تحته بخفة وبحركة سريعة؛ مما جعل الضابط الإنجليزي يسقط على الأرض وقدماه ترتفعان إلى الأعلى. تعالت الضحكات والقهقهات في جوانب المقهى. نهض الضابط من فوق الأرض، ونفض الغبار عن ملابسه وشارك زبائن المقهى ضحكاتهم وكأن شيئًا لم يكن.
اقترب الضابط من الغربال ومد يده له مصافحًا، وقال:
– أهنئك على هذه الجرأة والشجاعة. كثيرون من أمثالك لا يملكونها وأنت الوحيد المميز والذي قام بإزاحة كرسي من تحت ضابط إنجليزي.
تفاجأ الغربال بردة فعل الضابط، وأجاب:
– لم أتوقع هذا الثناء والمديح.
– وماذا كنت تتوقع؟
– كنت أتوقع عراكًا بالأيدي أو أقلها شتائم نابية.
– أنا بصراحة معجب بك وجميع طلباتك من المقهى على حسابي الخاص. أنا جدًا محظوظ بأن ألتقي بشخص مميز مثلك.
– أنا خادمك الغربال.
– وأنا النقيب كوبر. هذا رقم تلفوني وأي مشكلة قد تقع فيها. اتصل فقط على هذا الرقم.
شعر الغربال بنشوة غامرة كست عضلاته المفتولة، وبأنّ ظهره مسنود إلى خرسانة من الصلب. وبدأت تصرفاته الصبيانية تزداد يومًا بعد يوم، وعندما تلقي الشرطة المحلية في مدينة الزرقاء القبض عليه دون أن يستطيع الإفلات؛ يتصل مع النقيب كوبر ويرد عليه:
– أنا معك ودائمًا معك يا الغربال. تصرف كما تريد، وأية مشكلة تقع فيها سأقتلعك منها كما أقتلع الشعرة من العجين، ويأمرهم بإطلاق سراحه.
اعتاد النقيب كوبر في بعض الأحيان أن يأتي إلى المقهى ويلتقي بالغربال. وفي إحدى المرات، اقترب النقيب كوبر من الغربال، وهمس في أذنه:
– تعجبني شجاعتك جدًا يا الغربال وقد أحضرت لك مسدسًا لحماية نفسك، لا تستعمله إلا عند الضرورة القصوى، أنا أثق بك ولا تخبر أحدًا بشأن المسدس حتى لا تتم مصادرته.
أجابه الغربال بصوت منخفض:
– شكرًا لك سيدي. سأكون حريصًا جدًا وأعتبر هذا الأمر طيّ الكتمان.
كان الغربال من زبائن المزادات الأسبوعية التي تقام في وسط البلد بعد صلاة الجمعة. وكان إذا ما أعجبه شيء أخذه إما بالتراضي أو بالقوة. وفي أحد المزادات، أعجبه معطف من الجلد الفاخر، بلغت قيمة المزاد عشرين دينارًا، غير أنه لا يملك هذا المبلغ. افتعل مشاجرة واشتركت جماعات كثيرة في العراك ولكنه اصطدم بأحد الأشخاص من طوال القامة. كان يفوقه طولًا وبدانة، أصلع الرأس وكثيف الشارب. وقع الغربال على الأرض ولم يستطع النهوض ولم يرَ فوقه إلا سحابة سوداء تكتم أنفاسه فلم يستطِع الحراك بحرية. حينئذٍ أخرج المسدس من جورب قدمه اليسرى وأطلق عدة رصاصات على الرجل الضخم الجاثم على صدره ليسقط أمامه مضرجًا بدمائه. تعالت صيحات الهلع والفزع بين الجموع خوفًا من الإصابة برصاصة طائشة.
اعتقل الغربال وزج في السجن بتهمة القتل العمد. طلب الاتصال بالنقيب كوبر الذي بدوره قال له :
– لا تخف يا الغربال، كما قلت سابقًا أنا معك وسأبقى معك طوال الوقت، ولكن كما تعلم يجب محاكمتك ليأخذ القضاء مجراه، وأكرر يا الغربال بأني سأبقى معك.
استمرت محاكمة الغربال ثلاثة أشهر، وأخيرًا أصدر القاضي حكمه بالإعدام شنقًا على السيد الغربال. في صباح اليوم المحدد لتنفيذ الإعدام، حضر النقيب كوبر إلى ساحة الإعدام ومعه كرسي. طلب من الجلاد أن يقف المحكوم عليه بالإعدام والمدعو بالغربال على هذا الكرسي تحديدًا. وبينما حبل المشنقة يلتف حول رقبة الغربال، اقترب منه النقيب كوبر وقال له:
– هل تذكر هذا الكرسي يا الغربال؟
– لا أذكره. أرجوك انقذني أيها النقيب كوبر كما وعدتني وبأنك لن تنساني، ولن تتخلى عني أبدًا.
– هذا الكرسي هو نفسه الذي أزحته من تحتي في المقهى في أول لقاء لنا، وبالتأكيد لم أنسَك.
ركل النقيب كوبر الكرسي بكل قوته بقدمه وهو يصرخ:
*”هكذا تزاح الكراسي”.*
أ.د. سليمان عليمات