فلسطين تراث وحضاره
بيوت فلسطينية مسكونة منذ 4 آلاف عام يلتهمها الجدار العازل
-
منزل محفور في الصخر الوردي
يضع النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، وبناء الجدار العازل على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، حدا لتواصل النشاط البشري في منازل فلسطينية مسكونة منذ نحو أربعة آلاف عام. والحديث هنا عن وحدات سكنية صغيرة محفورة في الصخور، تعود لزمن الكنعانيين والاموريين والفراعنة، أضاف عليها الرومان، والعرب، والصليبيون وغيرهم، في المراحل اللاحقة واستخدموها لأغراض شتى، وبقي الفلاحون يستخدمونها إلى زمننا الراهن. لكن الاستيطان سلخ أراض فلسطينية شاسعة عن محيطها، وحطم إمكانية التواصل البشري والحضاري فيها، لأول مرة منذ حفرتها يد الإنسان في الصخر.
تنتشر كثير من هذه الوحدات السكنية المحفورة في الصخر من أربعة آلاف سنة، في الأراضي الزراعية التابعة لمدن وقرى فلسطينية، مثلما هو الحال في منطقة المخرور، جنوب القدس ويملكها سكان مدينة بيت جالا، وصارت اليوم خلف الجدار أو أقيمت عليها مستوطنات يهودية. وتضم المنطقة ما تبقى من غابات البلوط التي ميزت فلسطين عبر تاريخها، ولم يبق منها إلا القليل. وخلال السنوات الماضية حفرت سلطات الاحتلال أنفاقا وطرقا ضخمة وأقامت حواجز عسكرية على أراض في المنطقة، لإحكام فصل القدس عن الضفة الغربية، وأدى ذلك إلى تدمير الوحدات السكنية بشكل كلي أو جزئي.
وتتميز هذه المساكن التي بناها الإنسان الفلسطيني قبل أربعة آلاف عام بهندستها المثيرة، حيث حفرت في الصخور الصماء، ويظهر أسلوب قطع الأبواب والشبابيك، مدى الإتقان الذي ميز العمارة آنذاك. وداخل الغرف توجد فتحات متباينة الأبعاد استخدمت كرفوف لوضع الأغراض المنزلية.
ويقع بجانب كل مسكن بئر أو اكثر، حفرت بأشكال متنوعة، واشهرها المحفور على شكل أجاصة، وما زال بعض المهنيين من كبار السن في فلسطين، يمكنهم حفر هذا النوع من الآبار. وحرص الإنسان الفلسطيني القديم على حفر أحواض في الصخور لوضع الماء فيها، كي يتمكن من الشرب منها بعد نقلها من البئر، لتحافظ على برودتها، ووظيفة هذه الأحواض قديما تشبه وظيفة الثلاجة في العصر الحالي، وبعضها معد لشرب الحيوانات، وما زالت تستخدم لهذه الغاية حتى الآن من قبل الرعاة الذين يتمكنون من دخول هذه الأراضي، رغم المخاطر والإجراءات الإسرائيلية المشددة. وعمد الإنسان الفلسطيني القديم إلى حفر أدراج في الصخور ليتمكن من الصعود إلى سطح منزله، وبالإضافة إلى ذلك حفر القبور في الصخر أيضاً، وهو ما اتبعه الرومان والبيزنطيون فيما بعد. وهي قبور تتميز بأبوابها المتوازية الأضلاع، والواسعة من الداخل، وبعضها يضم اكثر من لحد محفور في الصخر. وإضافة إلى ذلك، تضم المساكن ملاجئ حفرت في الصخر، لا تزال موجودة أيضاً، ويسمى الواحد منها في اللهجة الفلسطينية “المعصي”، وعلى الأرجح فإنها قادرة على تحمل مخاطر القصف الجوي الآن، وحماية من بداخلها، ربما اكثر من الملاجئ العصرية.
واحد هذه الملاجئ موجود في “خربة الخوخ” بالقرب من قرية (ارطاس)، ووصلت أعمال بناء مقاطع من الجدار الفاصل بجانبه وتهدد بزواله. ويعتقد بان هذه الخربة، هي القرية الكنعانية التي كانت تعرف باسم (عطام) وما زال السكان يطلقون اسم “عين عطان”، وتضم بالإضافة إلى الآبار، صهاريج ماء ضخمة، وأنظمة مائية. وفي بعض الأماكن، مثل تلة “عش غراب” التي تقع في الجنوب الشرقي للقدس، تم حفر منشآت صغيرة في الصخور لاستخدامات الغسيل، بالإضافة إلى معاصر النبيذ والعنب الصخرية. وفي قرية “عابود” قرب رام الله، هناك من ينتج النبيذ بالطريقة التقليدية مستخدما المعاصر الصخرية القديمة.
وفي كثير من هذه الأماكن، تنتشر عيون الماء، التي أضيفت إليها البرك لاستخدامات السباحة، ويسيطر على معظمها الان المستوطنون الذين يستخدمونها للسباحة، مثلما فعل سكان هذه الأمكنة قبل أربعة آلاف عام، مع تغيير أسمائها إلى أسماء عبرية أو توراتية أو تحريف أسمائها العربية، مثل “عين أبو كليبة” التي أطلق عليها المستوطنون “عين كالب” وهو الاسم الذي يظهر في النشرات السياحية للمجمع الاستيطاني “غوش عتصيون” ويشجع سياح العالم لزيارة ما يسميها معالم هذا المجمع الاستيطاني.
وتقع هذه المساكن والملاجئ، والآبار، والقبور القديمة، والمعاصر، والعيون، وغيرها فيما يطلق عليه محليا “خرب”، وهي تعني القرى التي كانت مسكونة، وكثير منها لم يخضع لدراسات أثرية ممنهجة من قبل السلطات التي توالت على فلسطين، لكن الحفريات القليلة التي أجريت، وما عثر عليه المنقبون غير الشرعيين، من فخاريات وعملات، وزجاجيات تعود لعصور مختلفة، تؤكد جميعها تواصل السكن البشري فيها. ومن الآثار التي تركها السكان المسلمون، مقامات دينية، وطواحين مياه، تعود لعصر المماليك، وقبلهم بكثير. وتقع بجوار هذه الأماكن بقايا مصانع الشيد التقليدية، التي يطلق على الواحد منها محليا اسم (اللتون) أو (الكبارة) والشكل الأكثر شيوعا لها عبارة عن مكان محفور في الأرض بشكل مخروطي، مبطن بالحجارة، يبنى في مناطق جبلية كلسية، لتوفر مادة الصخر الجيري التي تشكل المادة الخام لصنع الشيد، ووجود الغطاء النباتي ليكون وقودا تحتاجه هذه المصانع.
ومادة الشيد حتى قبل عقود قليلة كانت تستخدم في تشييد المباني الفلسطينية، حتى حل محلها الاسمنت. ويقول محمد سليم موسى (70 عاما) من بلدة الخضر، جنوب القدس، الذي عاصر صنع الشيد، بان العمل كان يتم بشكل جماعي وتعاوني، ويستمر لعدة أسابيع أو عدة اشهر، حيث يقسم مواطنو البلدة أنفسهم إلى مجموعات، ويتناوبون العمل على مدار الساعة.
ويشير موسى، في حديث لـ”الشرق الأوسط” الى انه بعد وضع الحجارة الجيرية داخل الحفرة على شكل هرم، يتم إشعال النيران من الأسفل، على مدار الساعة، من خلال مجموعات تجمع الأخشاب والأغصان اللازمة للوقود، وأخرى تتولى إيقاد النيران، إلى ان يتفتت الهرم الحجري ويتحول إلى مادة الشيد، التي تنقل إلى التجمعات السكانية، لاستخدامها في البناء.
وترتبط هذه المصانع البدائية بإحدى أهم المشاريع العمرانية الفلسطينية التي استمرتتعمل ألفي عام، وهي القناة التي كانت تنقل المياه من برك سليمان، وعيون العروب إلى القدس، وبالقرب من هذه القناة التي تمتد نحو 60 كلم مخترقة الجبال، توجد أعداد كبيرة من مصانع الشيد التقليدية التي يعتقد أنها استخدمت لترميم هذه القناة التي ظلت تعمل حتى عام 1948، عندما وقعت النكبة الفلسطينية واحتل القسم الغربي من القدس.
وتكثر في هذه الخرب، الرموز التي تركتها الأمم السابقة، ولم يستفد منها إلا لصوص الآثار في تحديد المقابر، والمساكن الحجرية، والكهوف، والمغر، لنهبها. وكثير من هذه الرموز المحفورة في الصخر، تلاشت ولم يعد لها وجود، وما تبقى منها تذروه رياح الاستيطان والجدار العازل، تاركة أسئلة مهمة عن الرسالة التي حملتها، لأمم عاشت في ارض غير مستقرة بين الحروب التي لا تنتهي والسلام الذي لا يأتي.
هل، عبرت مثلا عن آراء مفكرين وأدباء، أو معتقدات، تم حفرها على الصخر الصلد بعناية وحرفية؟ أو هل أرادت جماعات دينية أو فكرية مضطهدة أن تعبر عن نفسها خشية البطش؟
ربما ستبقى هذه الأسئلة، من دون إجابة، لكن تتبع تاريخ هذه المنازل الصخرية القديمة، يقودنا، إلى استخدامها الحديث نسبيا، حيث استخدمها الفلسطينيون، وأضافوا إليها، وحولوها إلى ما يعرف باسم القصور الصيفية أو (المناطير) التي كان يمضي فيها الفلاحون اشهر محددة من السنة لفلاحة الأرض.
وبنى المقتدرون والأعيان، بنايات في العصر العثماني، تعتبر فاخرة بمقاييسمعينة، في أراضيهم الزراعية، من الحجارة المحلية، المثبتة بالشيد، وتجسد فيها الكثير من الفنون المعمارية الفلسطينية التقليدية، ويظهر ذلك في الأسقف، والشبابيك، والأبواب والأدراج، وغيرها.
وعادة ما يتكون كل قصر من طابقين، الأول يضم عدة غرف، تستخدم، لإيواء الدواب، والحيوانات الداجنة البيتية، وتخزين المحاصيل، والثاني للإقامة.
وأقيمت هذه القصور بالقرب من المنازل الصخرية القديمة، واستخدم جزء منها كمخازن لساكني القصور، الذين اعتمدوا في توفير حاجاتهم من المياه على الآبار القديمة. وعدد هذه القصور، قليل، قياسا، لما يطلق عليه المناطير، ومفردها منطار، وهو عبارة عن بناء أسطواني الشكل، ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار، وقطره أيضا ثلاثة أمتار، فوقه كان المزارع يضع عريشة من الحطب. والهدف من بناء المنطار، أن يمكث فيه المزارع بجانب كرمه، ويمكن أن يراقب منه أيضا الكروم المجاورة.
وتتراوح فترة مكوث المزارع في أرضه ما بين 3 – 5 اشهر، من بينها اشهر الصيف، التي يتم فيها تجفيف العنب، لصنع الزبيب، أو صنع عسل العنب (الدبس)، أو تجفيف التين ليصبح قطين، أو صنع معقود العنب (الملبن).
ورغم بساطة بناء المناطير، كما يظهر من الخارج، إلا أن الأمر داخلها اكثر تعقيدا، حيث حرص الفلاح على توفير أماكن داخل الجدران الحجرية، لتخزين حاجياته، وإيجاد فتحات صغيرة، تمكنه من رؤية من في الخارج دون أن يراه.
وعادة ما يكون سمك جدران المناطير، كبيرا، ويصل إلى 100 سم، وتحتوي على أدراج داخلية. وجزء منها تم بناؤه على المنازل الصخرية القديمة، وواصل أصحابها النشاط البشري فيها. وأمام القصور والمناطير تنتصب أشجار السرو الضخمة، التي دخلت فلسطين مع الانتداب البريطاني، وهو ما يعطي دليلا على استخدامها الحديث، مثلما ترمز أشجار البلوط القديمة، واشجار الزيتون الروماني.
أما أهم مظهر عصري الآن في هذه الأماكن، فهو المستوطنات اليهودية المبنية على الطراز الأوروبي، والحواجز العسكرية والطرق والأنفاق، والجدار الذي تواصل إسرائيل بناءه، حولها، لمنع الفلاحين الفلسطينيين من الوصول إلى أرضهم ومنازلهم التي لم ينقطعوا عنها، كما تشير الدلائل طوال أربعة آلاف عام، رغم ما شهدته فلسطين من حروب وغزوات.