ثقافه وفكر حر

“أخافُ الجلوسَ على ذاكَ المقعَد” قصّة قصيرة : بقلم محمد بكرية

كأنّ ذاكرتَه قد امّحَتْ بفعلِ زمانِه الطويل ، القصير.، كانَ ينقلُ نظراتِه بخفّة المتلهّفِ بين مجموعة من الأطفال تعبثُ بما ملكتْ أياديهم من هدايا العيد، تتحرّكُ عيونُه فتُجري مسحًا شاملًا، مقطعيّا على أجسامِهم الصغيرة، ومأنّهم مخلوقاتٌ أليفة ، صغيرة يلتقيهم لأوّل مرّة، لا يبحثُ عن شيء وفي ذاتِ الوقت ، يتعمّلُ من أجل استكشافِ أشياء تبدو غريبة عنه، حركاتِ الأطفال، مرحِهم ،ضحكاتِهم ، أحاديثهم، لُعَبَهم، كلّ شيء، كلّ شيء.
هو يراقبُهم وأنا ما انفكّتْ عينايَ تصبّ نظراتي الحاندة على قسماتِه وتجاعيدِ وجهه الهرمَة، مرة أراقبُ مراقبتَه للأطفال وأخرى أترجمُ تعابيرَه الغريبة، المُستهجَنة.
يقول في باطنه أو يقولُ اخرُ كان يغطّ في سباتٍ وقد استيقظ لتوّه : منْ هؤلاء؟ غريبون عنّي، قريبون منّي ،ماذا يفعلون؟ بماذا يجمجمون؟ إلى أين هم ذاهبون؟هل كنتُ مثلَهم يومًا؟ هل تذوّقتُ أطايبَهم ؟ بماذا يتلهّون! لو يشركوني بعبثِهم قليلًا؟
ظلّ على هذا الحال وهو جالسٌ على مقعدٍ خشبيّ متآكل قد انتصبَ في أحدِ ميادين المدينة، وقد التحى بحوضٍ من الشعر الأبيض الكثيف، يلبسُ جلبابًا أبيض قد دثّر جسمه الهزيل وبيده منسأتُه يتّكِئ عليها وليس له فيها مآربُ أخرى، وصل إلى الميدان فتى اتضحَ لاحقًا أنّه حفيدُه ، أمسَكَ بساعده، ليستنهضَ قامته المنخنية والتي أبتْ أنْ تستقيمَ، فقد لواها ساعدُ الدهر الشديد.
يلّا يا جدّي، بِدْنا نروّح ، صارتْ الِدنيا المُغرب وبلّشَتْ تبرّد، بعذه الكلمات خاطبَ الفتى جدّه وقد لاصقَ فمَه لإذُنِه كي يسمَعَه جيّدًا.
خطوا واحدة ثمّ أخرى بتؤدة متّجهَيْن إلى ناصية الحيّ، والشيخُ يواصل جاهدًا متابعة الأطفال بنظراته المستهجِنَة، الفاحصة ، الكسلى والمتنبّهة في ذات الوقت.هما واصلا التقدّمَ باتجاه مدخل الحيّ، أمّا أنا، فقد ساقَني ساقاي، اتخذْتُ من الميدان مكانًا قصيّا مضطربًا ، قلقًا، أقلّب تساؤلات ما انفكتْ تخرفشُ في ذهني، هل سأنظر إلى الأطفال بهذا الشكل يومًا؟ إذا كان الجواب نعم! إذًا سأجهّزُ أجوبة للأسئلة التي ستراودني كي لا أبدو مسكينًا حائرًا. فجأة انتفضَ خيالي عليّ ، ماذا لو كنتُ فاقدًا للذاكرة أو أنّ بقاياها غير كافية لاستذكارِ الأجوبة التي سأعدّها الان؟
من سيسعفني آنذاك؟
تلك المخاوف راودتني طويلًا خاصة بعد أن تحريتُ عن ذاك الشيخ وعرفتُ أنه ولِدَ يتيمًا ،وعاش مغتربًا، مثلي أنا، مثلي أنا، حتى الان لا أزال أبحثُ عن طريقة خلّاقة لأحفظَ أجوبةً لأسئلة قد تراودُني إذا ما جلستُ على مقعدِ الشيخِ يومًا،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق