مقالات
بناء الاستشراق الجديد يتوقف على بناء الشرق الجديد

شهد ميزان القوى السياسي والاقتصادي والتكنولوجي بين الشرق والغرب تحوّلاً كبيراً، وأصبح يميل تدريجيا لصالح الشرق؛ وتسبّبت الحرب الروسية الأوكرانية التي تدور رحاها في القارّة الأوروبية في انقسام المعسكر الغربي (الأميركي الأوروبي)، وأثارت شكوكاً حول حكمة الغرب السياسية. وفي غضون مائة يوم فقط من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تحطّمت هيبة الولايات المتحدة بوصفها “مدينة فوق تل” في أذهان كثيرين. أما المذابح الوحشية التي ارتُكبت في حقّ الشعب الفلسطيني في غزّة، وعجز المجتمع الدولي عن إيقافها، فقد دفعا شعوب العالم، وخاصة العرب والمسلمين، إلى التشكيك في القيم الكونية التي كان الغرب يروّجها دائماً؛ وفي الوقت نفسه، ومع صعود دول الجنوب مثل الصين والهند وجنوب شرق آسيا ودول الخليج العربي، بدأ الشرقيون يستعيدون ثقتهم بحيوية حضاراتهم العريقة.
وهناك تغير هائل آخر لا يمكن تجاهله، وهو التطور السريع في تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي وغيرها، الأمر الذي يغيّر العالم بوتيرة سريعة لم يسبق لها مثيل. وهو لا يؤثّر في أساليب الإنتاجين المادي والمعرفي فقط، بل يغير أيضاً طريقة نظرة الناس إلى العالم وإلى مكانتهم فيه. ومع ذلك، وفي خضم التقدّم التكنولوجي المتسارع، ما زالت بعض مناطق العالم تشهد مآسي قديمة قدم البشرية نفسها، مثل التنمّر والهيمنة والتصارع والحروب والمجازر والمجاعات والتفاوت الهائل بين الغنى والفقر والتصحّر والأوبئة… يدفع ذلك كله العقلاء الواعين في هذا العالم إلى طرح سلسلة من الأسئلة العميقة في علاقة الشرق بالغرب، وفي حاضر البشرية ومستقبلها، بل في معنى وجود الإنسان أيضا.
ساهمت وزيرة التربية والتعليم لولوة بنت راشد الخاطر في زعزعة الصورة النمطية التي يفرضها التخيّل الاستشراقي على المرأة العربية
لذا، جاء انعقاد المؤتمر الدولي الأول للاستشراق في الدوحة في وقته. وقد قال الشاعر البريطاني كبلينغ: “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً”. ولكن، ها هما، الشرق والغرب، التقيا في الدوحة، التي لم تصبح ملتقىً جغرافيّاً بين الشرق والغرب فحسب، بل أصبحت منصّةً لالتقاء الفكر والمعرفة بين الجانبين. فشكراً لوزارة التربية والتعليم القطرية ومناظرات قطر على تنظيم هذا المؤتمر؛ وتحيةً لرئيس اللجنة العلمية للمؤتمر محمود الحمزة، الذي استطاع بشخصيته الفريدة أن يجمع مئات العلماء من الشرق والغرب تحت سقف واحد في الدوحة الجميلة.
لقد أعجبتُ بالكلمة التي ألقتها وزيرة التربية والتعليم لولوة بنت راشد الخاطر في حفل افتتاح المؤتمر، والتي خلت من الكلمات الجوفاء والمبتذلة. ولاحظتُ أنها حضرت عدة جلسات وتفاعلت مع مشاركين عديدين، ومنهم كاتب هذه السطور، حيث تركت صورة جميلة للمسؤول القطري الكبير شخصية قديرة متواضعة، إضافة إلى صورة جديدة للمرأة القطرية. ويمكن القول إن الوزيرة، من خلال أقوالها وأفعالها، ساهمت بنفسها في زعزعة الصورة النمطية التي يفرضها التخيّل الاستشراقي على المرأة العربية.
ومما لفت انتباهي أيضاً بعض الأفكار في كلمات الضيوف المتحدثين في حفل الافتتاح، ويمكن تلخيصها على النحو التالي استناداً إلى ذاكرتي: أولاً، هناك مرحلة ما قبل غزّة ومرحلة ما بعد غزّة في إدراكنا للغرب. وإذا كانت هناك من قيم كونية فعلًا، فيجب أن تطبق على الجميع بالقوة نفسها وبالصرامة نفسها، وليس أن تستثنى دول منها كما حصل لإسرائيل بعد تصرّفاتها في غزّة. ثانياً، ردّ الفعل المختلف للغربيين تجاه مأساتي أوكرانيا وفلسطين أثار شكوكاً عميقة لدينا حيال حقوق الإنسان الكونية، وحيال مبدأ المساواة والعدالة في الشرعية الدولية. ثالثاً، على شعوب المنطقة أن تحرص على خصوصياتها الثقافية الفريدة، وفي الوقت نفسه، تتحلى بشجاعة في ممارسة النقد الذاتي الواعي؛ وعليها أن تفتح صدرها واسعاً لاحتضان العالم. وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تحذر من الانجرار الأعمى وراء الآخر الذي قد يقودها إلى فقدان ذاتها. رابعاً، لا يقتصر نجاح الصين على المستوى الاقتصادي والتجاري فحسب، ولا ينبغي تفسيره بسطحية بأنه نسخة محدثة من الشيوعية، بل كان نجاحاً يستند إلى أسس ثقافية ويمثل نهضة معاصرة لحضارة عريقة. خامساً، لم تعد المركزية الأوروبية أو الأميركية ملائمةً للعصر الحالي، ولكننا، في الوقت نفسه، لا نرغب في استبدالها بالمركزية الصينية أو المركزية الروسية، بل نأمل بناء عالم متعدّد الأقطاب يقوم على التعايش السلمي وتقدير مزايا كل قطب من الأقطاب.
هناك مستشرقون غربيون عديدون جادّون ومنصفون قدّموا إسهامات مهمّة في الدراسات العربية الإسلامية، وكان بعضهم مقدّراً ثقافات العرب والمسلمين
ولا شك أن “الاستشراق” كان المحور الرئيسي لكل الأوراق في المؤتمر، فقد أكّد أغلب المتحدثين الذين تسنى لي سماع كلماتهم على الإسهام الفكري الكبير لإدوارد سعيد، الذي رأى الاستشراق في عمقه خطاباً سلطوياً يعكس المركزية الغربية ويخدم الأجندات السياسية والمصلحية الغربية، ولكنهم، من ناحية أخرى، أشاروا إلى ضرورة تقييم الاستشراق تخصّصاً أكاديمياً بشكل أكثر دقة وموضوعية، من دون تجاهل حقيقة أن هناك مستشرقين غربيين عديدين جادّين ومنصفين قدّموا إسهامات مهمّة في الدراسات العربية الإسلامية، وكان بعضهم مقدّراً ثقافات العرب والمسلمين ومتعاطفاً مع قضاياهم. أؤيد هذه الآراء، بل أذهب إلى أبعد، لأقول إنه حتى الانتقادات الموجهة للأمة العربية أو للأمم الشرقية، على الشرقيين أن ينظروا إليها بعقلانية وموضوعية، ويتجنّبوا إلصاق تهمة “التحيز الاستشراقي” بأي انتقاد موجّه إلى الشرق، تماماً كما تفعل سلطات الاحتلال الإسرائيلي اليوم، عندما تطلق تهمة “معاداة السامية” على كل من ينتقد سياسات إسرائيل. الاختلاف بين الغرب والشرق حقيقة موضوعية، ولكنه لا ينبغي أن يؤدّي، بالضرورة، إلى العداء والصراع بينهما، بل على العكس، يجب أن يكون باعثاً للتعلم المتبادل والاستفادة المتبادلة، وهو ما يتوافق تماماً مع هدف المؤتمر: توفير تواصل حضاري متوازن على أساس الحوار والتفاهم والاحترام.
كما دعا باحثون في المؤتمر إلى بناء “الاستشراق الجديد الحقيقي”، لأن كلاً من الاستشراق الكلاسيكي و”الاستشراق الجديد” الذي ظهر منذ السبعينيات لم يتحرّر، في جوهره، من تحيّزات الغرب تجاه الشرق. والدعوة معقولة إلى حد كبير، خاصة في ظل انضمام مزيد من الباحثين ذوي الأصول الشرقية إلى صفوف المستشرقين. ولكنني أعتقد، في الوقت نفسه، أن الطريقة الأكثر فعالية وجذرية لتغيير النظرة الاستشراقية النمطية عن الشرقيين أن يبني الشرقيون لأنفسهم صورة جديدة بالعمل قبل القول: فعن طريق الانفتاح فقط يمكن تغيير صورة الشرق الجامد والمنغلق التي يلصقها الغرب بنا، وعن طريق التنمية فقط يمكن تغيير صورة الشرق المتخلّف، وعن طريق التعليم السليم فقط يمكن تغيير صورة الشرق الجاهل، وعن طريق تحقيق الوحدة والتماسك فقط يمكن تغيير صورة الشرق المنقسم المتشرذم، وعن طريق نشر السلام فقط يمكن تغيير صورة الشرق العنفي المتصارع، وعن طريق الاستقلال والاعتماد على الذات فقط يمكن تغيير صورة الشرق التابع والخانع.
وخلاصة القول: بناء الاستشراق الجديد يتوقف، في نهاية المطاف، على بناء الشرق الجديد.