اخبار العالم العربي

وداعًا رجل الثقافة والدبلوماسية

لعريسي احمد

رحم الله السيد محمد بنعيسى، الوزير والسفير والبرلماني، ورئيس بلدية أصيلة وعراب موسمها الثقافي الشهير موسم عمر لمدة 44 سنة ، وقبل هذا وبعده، رجل الثقافة والإعلام والحوار والإنصات للآخر، مهما اختلف معه في الرأي والموقع والموقف.

أسلم الراحل الروح إلى بارئها عن عمر ناهز 88 سنة، قضى جلّها في مواقع المسؤولية الرسمية. وباستثناء حادثة سير عابرة وقعت على مفترق طرق مع أسبوعية لوجورنال التي جر بنعيسى مديرها للقضاء وغرمها مبلغا كبيرا من المال عندما شعر ان هناك من يريد رأسه ، كان الراحل أنيقًا وجنتلمان في أدائه السياسي والحزبي والدبلوماسي.

عاش قريبًا من القصر في عهدي الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، وخدم بلاده تحت قيادتهما في الوزارة والسفارة والبرلمان ومبعوثا لبلاده لدى رؤساء وملوك وأمراء في الشرق والغرب .

كان آخر منصب عرض عليه واعتذر بلباقة عن قبوله هو أمانة السر الدائمة لأكاديمية المملكة. فضّل أن يجعل من مدينته أصيلة وموسمها الثقافي الغني أكاديميته الخاصة، التي يتحرك في وسطها بحرية، دون قيود أو محاذير لا يحتملها المجال الثقافي والإبداعي ، المطبوع أساسًا بالاختلاف والتعددية وحرية القول والفكر والرأي.

عرفتُ محمد بنعيسى طيلة مساري الصحافي، حيث أجريت معه أول حوار صحافي في مجلة La Gazette سنة 2001، وبقيت علاقتنا مستمرة منذ ذلك الوقت إلى أن اعتُقلت في 23 فبراير 2018.

كان الراحل قريبًا من مجتمع الصحافيين والمثقفين والأدباء والفنانين أكثر من قربه من مجتمع السياسيين والدبلوماسيين، حتى وإن كان هو نفسه واحدًا منهم. كان سياسيًا، لكنه لم يكن رجل سياسة، وهذه ربما كانت طريقته في تصحيح مسار كان يريده بالقرب من “صاحبة الجلالة”، فحكم القدر في اتجاه آخر، فوجد نفسه بالقرب من “صاحب الجلالة”.

لهذا، كان بيته ومائدته قبلة دائمة للصحافيين والمثقفين والأدباء والفنانين من الشرق والغرب، ولم يكن يرتاح إلا في وسط هذه الشلة لانه كان يفهم لغتها وتفهم لغته .

كان الراحل رجل تواصل بامتياز، يتحدث أربع لغات وأكثر. وكان يردد دائمًا على مسامع محاوريه أنه رجل عاش طوال حياته يحمل اسم نبي الإسلام (محمد ص) ونبي المسيحية (عيسى ع)، وكان في طفولته يلعب ويصادق أبناء جيله من أطفال اليهود المغاربة. وبذلك، كان هو نفسه رجل حوار الحضارات والأديان والثقافات، بلا مجهود، ولا إشكال، ولا تعقيد.

عاش في ظلّ ثلاثة ملوك، وكان دائمًا رجلًا محافظًا سياسيًا، تقدميًا اجتماعيًا، ومنفتحًا ثقافيًا على الغرب والشرق معًا. يعرف تاريخ بلاده وتاريخ العالم الذي عاش فيه ما يربو عن قرن. كان دائم العمل بنصيحة الصحافي والمفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي: تفاؤل العمل وتشاؤم الفكر.

عاش في الخارج سنوات طويلة، وعاش في المغرب سنوات أطول، لم تكن كلها وردية بطبيعة الحال. لقد عشتُ بالقرب منه جزءًا من المؤامرات التي حِيكت ضدّه أيام وزارة الخارجية، حيث اقتُطِع من صلاحياته الدبلوماسية وهو وزير أكثر من 75% في سابقة من نوعها في وزارة الخارجية، حيث اصبح الوزير المنتدب مكلفا بمهام وملفات وقضايا اهم من الوزير نفسه.

واجه الراحل طعنات غدر جلها كانت في الظهر، لكنه لم يغضب، ولم يثر، ولم يحقد، ولم يأخذ الباب في يده، كان رجل صبر وأناة وقدرة رهيبة على التحمل .

كان يعرف أن صراحته في إبداء الرأي مكلفة، وأن قول الحقيقة للدولة لن يمرّ مرور الكرام. فدائمًا هناك تماسيح تسبح في المياه الراكدة والضحلة للسلطة، يزعجها الوضوح والصراحة وتسمية الأشياء بمسمياتها.

ودائمًا هناك نفوس ضعيفة حول السلطة، يلعب بها الحسد والحقد والحسابات السياسية الصغيرة، فتضرب تحت الحزام وفوق الحزام بلا عقل ولا منطق ولا نبل أخلاق ( أخلاق الفرسان انقرضت في مجتمع السياسة ).

كان بنعيسى رجل تدوير الزوايا الحادة، والحلول الوسطى، وإبقاء شعرة معاوية مع الآخر. كان رجل دولة عاش قريبًا من السلطة، وقريبًا من بعض خصومها. وكان لا يرى الحياة جدولًا صافياً رقراقاً منسابًا، بل يراها كما قال المعري: تعب كلها الحياة…

كان دائم الاتصال بي عندما كنت أكتب افتتاحية أخبار اليوم، كلما رأى أن هناك داعيًا إلى تنويه أو مدح أو تحذير أو تصويب، دائمًا بلباقة وأناقة تفوق لباسه ومظهره، الذي حافظ عليه طوال حياته، في الفقر وفي الغنى، في الشدة وفي الرخاء.

آخر مرة التقينا خلالها في بيته، سألني سؤالًا لم أجد له الجواب إلا وأنا في ضيافة الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تحت تدابير الحراسة النظرية، وهي في الحقيقة حراسة فعلية تمامًا وليس فيها اي شيء نظري!.

سألني الراحل في بيته سؤالًا ليس استفهاميًا على الإطلاق، فقال: إلى متى ستستمر جريدة أخبار اليوم في الصدور؟ لم يكن ينتظر جوابًا مني، فهو أدرى بمناخ الحريات في البلاد وتعقيدات العلاقة بين السلطة والصحافة في المغرب ، لكنه كان يريد أن يبعث برسالة على طريقته… وبالإشارة يفهم اللبيب.

ها هو محمد بنعيسى، رحمه الله، قد استراح من الحياة، وترك مكانه فوقها للذي ما زال يجري ليل نهار لإدراك سرابها (يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيء ،ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) الاية
إنا لله وإنا إليه راجعون.

توفيق بوعشرين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق