الرئيسيةمقالاتمنظمة همسة سماء

من أبحاثي ومحاضراتي لطلاب الدراسات العليا موضوع الأخلاق وعلاقتها بالعلم والشعر ” الجزء الثاني ” هل الشعر أساساً مبني على الأخلاق ؟

هناك من لا يعتقدون ، أن الفنون والشعر أحدها لم تخلق لتخدم الأخلاق، إلا أن يجيء ذلك بطريق غير مباشر ولا مقصود.
فلو تحدثنا عن القِيَم العليا الثلاث:
قِيَم الخير والحق والجمال، نجد الفرق أننا لو جمعنا بينها على أنها معايير نلجأ إليها طلبًا للهدى، فهي تعود فتتفرق ليكون لكلٍّ منها مجالٌ خاص، فقيمة الحق مجالها العلوم ، وأمَّا الخير فمجاله أفعال الإنسان الإرادية، وأمَّا الجمال فمجاله الفنون.
هي مجالات ثلاثة، وعليها قِيَم ثلاث، تجتمع كلها في الإنسان، لكن الاختلاف فيما بينها، إذا اختلطت في الذهن فيختلط الحابل بالنابل ، ونتيجة لهذا الخليط نخرج بحياة غير واضحة المعالم ، لا العلم فيها علم، ولا الأخلاق أخلاق، ولا الفن فن.
أما قيمة الحق فإن. ما يميزها عن الخير. والجمال بأنه لا دخل للإنسان في اختيارها، فأمامه حقيقة واقعة، كالشجر والحجر وغيرها ، ولقد أمدَّه الباحثون عن تلك الحقيقة الواقعة بأقوال يزعمون له أنها قوانين الأشياء، فما عليه الا ليعرف أين الحق فيها وأين الباطل أو أن يقيسَ القول بالواقع، فلا حيلة له في الأمر؛ لأنه مفروض عليه.
وأمَّا قيم الخير والجمال :، فمختلفتان عن ذلك لأنهما مأخوذتان من عالم الإمكان. فمبادئ الأخلاق هي ما “يمكن ” للفعل البشري أن يصعد إليه، وسواء استطاع ذلك بالفعل أم لم يستطع، فالمبادئ هناك أقامها الإنسان لتكون الهدف المنشود، وبدائع الفنون هي ما “يمكن” أن يلوذ به الإنسان من واقعٍ كريه، وكذلك هي ما يمكن أن يفسر لنا سلوك الإنسان.
لكن هاتين القيمتين، وإن تشابهتَا في التعلق بالمثل العليا ، فهما تختلفان. فمهمة الأخلاق هي أن تقوِّم المعوجَّ من سلوكنا، ومهمة الفنون ومنها الشعر هي أن تفسر سلوكنا لا أن تقوِّمه.

ولكن هل يؤثر الشعر في أخلاق الناس؟ الجواب لا فهي ليست مهمته. إنما يأتي التأثيرٌ بطريق غير مباشر ولا مقصود.
الفيلسوف أبي نصر الفارابي في نظريته في طبيعة الشعر قال : يحقُّ لنا، بل يجب علينا نحن الوارثين لهذا التراث العقلي العظيم أن نفاخر بها أصحاب المذاهب النقدية المعاصرة، فقبل أن تتحدث ألسنتنا بما قاله فلان أو علان من غير أهلنا، ينبغي أولًا أن نستمع إلى ما قاله ذوونا فيما نريد الحديث فيه، ثم نقارن به ونزيد عليه مما قاله الآخرون.
للفارابي نظرية في طبيعة الشعر، جديرة أن نهتم بها لأنها تُلقي شعاعًا قويًّا من الضوء على علاقة الشعر بالأخلاق، وملخصُ هذه النظرية أن الشعر في طرف، وسلوك الإنسان في طرف آخر، وتأتي على ثلاث مراحل:
أ — صورة يرسمها الشاعر،
— خبرة ماضية مخزونة في الذاكرة، فإذا ما طالعنا الصورة التي رسمها الشاعر، استدعت من مخزون الذاكرة شيئًا من الخبرة الماضية، ذات علاقة، من تشابه أو تباين.
اما المرحلة الثالثة، وهي أن نبني على تلك الخبرة المستدعاة من الذاكرة وقفة سلوكية إزاء العالم، وعلى ذلك فيمكن القول بأن الصورة الشعرية كانت هي المحرك لنا في توجيه سلوكنا، وإن يكن ذلك قد تم عرضًا وبلا قصد صريح.
ويبدو أن هذه النظرية الفارابية في طبيعة الشعر، تحلل الإشكال الذي ما انفك قائمًا بين النقَّاد، وهو: هل يخضع الفن لمبادئ الأخلاق؟ أو بعبارة أخرى:
هل يكون الفنُّ هادفًا أم لا يكون؟
فلو كان الفارابي حيّاً لأجاب: كلَّا، ليس الفن هادفًا بطبيعته، ولكن ذلك لا يمنع أن تأتيَ منه النتائج السلوكية التي نريدها، وذلك شبيه بقولنا:
إنه لا مناص لنا من التفرقة الفاصلة بين مجال الشعر من ناحية، ومجال الأخلاق من ناحية أخرى، فلكلٍّ من المجالين طبيعته ومعياره، وإن الشعر ليظل شعرًا، سواء أرضيت عنه مبادئ الأخلاق أم لم ترضَ، ما دام قد حقق لنا ما تقتضيه طبيعةُ فنِّه، فلا فرق عند الفن بين أن يصور الشاعر فضيلة أو أن يصور رذيلة، طالما هو قد أجاد الفن في كلتا الحالتين.

إن عالم الشعر يرحب بأبي نواس ترحيبه بزهير بن سلمى ، وإن ملتن بفردوسه المفقود لَشاعرٌ في الجانب الإلهي من قصيدته كما هو شاعر في جانب تصويره للشيطان.
ومع ذلك فالنظرية الفارابية تُريحنا من العناء، وتقف بنا موقفًا وسطًا؛ لأنها تؤدي إلى تصوير الشاعر يعقبه تغيُّرٌ في سلوك الإنسان. دون أن يكون ذلك التعاقب عن سببية حتمية. فالشعر يظل شعرًا بقيمته الفنية، حتى لو لم يعقبه تغيُّرٌ في السلوك، فلو قلنا إن الغاية الخلقية هي مدار البناء الفني، وجب أن نضيف إلى هذا القول بأن الشعر يبطل أن يكون شعرًا، إذا هو قدَّم لنا تلك الغاية الخلقية وعظًا مباشرًا، إذ لا بد بحسب نظرية الفارابي من بناء الصورة الخيالية وهي الصورة التي لا تراعي في بنائها إلا معايير الفن الشعري وحدها، ثم يترك الأمر لما تُوحيه الصورة المرسومة لمن يطالعها، فإذا كانت صورة محببة إلى نفسه، تقمَّصها وسلك على هداها، أو كانت صورة منفرة، تركها ، وهكذا يحقق الفن الشعري ما يُراد له أن يحققه في مجال الأخلاق بطريق غير مباشر، ودون أن يفرط في شروط الفن الشعري وما يقتضيه.
لكن ما ينبغي على الشاعر العربي ان يكون. ضليعاً باللغة العربية وأن يُخرج إلى الآذان مكنون سرِّها، وإنه لهراء العابثين بمجدنا ذلك الذي نسمعه من بعض شعرائنا اليوم من دعاة العامية، أو من القائلين باستخدام الشعر وسيلة لغاية أسمى منه. فإذا كنت شاعرًا، فالأولوية هي للشعر ذاته، ثم تأتي بقية الأغراض عوارض طارئة على الجوهر.

ليست كلمات اللغة مقتصرة على كونها رموزًا ، بل هي تُشبه الكائنات الحية في تطورها كلما امتدَّ بها زمنُ استعمالها؛ إذ تظلُّ اللفظة تزداد امتلاءً بأبعادها الوجدانية مع تنوع الظروف التي تتقلب فيها مع القلوب، وليست كلُّ ألفاظ اللغة في هذه الغزارة الوجدانية سواء، بل منها ما لا يجري مع تيار المشاعر إلا بأقل القليل، وعندئذٍ يكاد يقتصر على دلالته المنطقية وحدها، ولكن منها كذلك منها ما يرتبط مع تيار المشاعر حتى لتصبح اللفظة كنبضة القلب، ومن هذا النوع الغزير بأغوار الوجدانية ينسج الشاعر شعرَه.
الشعر هنا على نقيض العبارة العلمية، لذا فإن المثل الأعلى للقول الشعري هو أن يحمل من المعاني ما لا حصر له إذا استطاع الشاعر ذلك، بحيث تتعدد زوايا الرؤية عند مختلف السامعين أو القارئين؛ وذلك لأن الشاعر إذ ينتقي لشعره أغزر الألفاظ قدرة على استثارة المشاعر، فإنما يسوق لنا في قوله الشعري ما يمكن أن تكون له استجابات مختلفة عند مختلف المنشدين؛ ولذلك فسؤالنا الأول عند تقدير القيمة الشعرية ليس هو: ماذا قال الشاعر؟ بل هو: كيف قال الشاعر ما قاله؟
ولكي ترى الفارق البعيد في الألفاظ بين دلالاتها المنطقية ومضموناتها الوجدانية،
إن الشعر — كغيره من الفنون — يقف عند وسيلته لا يريد وراءها وراء، فإذا رأينا وراء تلك الوسيلة هدفًا فإنما جاء ذلك هدفًا غير مقصود.
ومن هذه النقطة ذاتها، انبثقت مناقشات، وما تزال تنبثق، وأغلب الرأي هو أنها سوف تظل، ما دامت في الدنيا فنون ينتجها ناسٌ ويتلقَّاها آخرون، وهي مناقشات مدارها هذا السؤال: أئذا كانت وسيلة الفن هي في الوقت نفسه هدفه الأول والأهم، بحيث إذا وجدنا له هدفًا آخر وراء تلك الوسيلة، عددناه هدفًا جانبيًّا لم يُقصَد لذاته، أفيكون الفن إذن منحصرًا في ذاته وبغير معنى؟
الناقد المعاصر رتشاردز حين تعرَّض لطبيعة الشعر قال :بصفة خاصة، والفن كله بصفة عامة، وهو أن الفن يعني ما يعنيه بالإيحاء لا بالتوجيه المباشر؛ فقد توحي إليك قصيدة الشعر بما توحي، في الأخلاق وفي غير الأخلاق، على أنها في الوقت نفسه، قد توحي لغيرك بمعنى آخر، دون أن يكون لأحدكما حجةً على الآخر، ومن هنا يجيء للشعر ثراؤه في تنوع التأويل. وأمَّا إذا أردنا أن نعثر له على المعنى الواحد الوحيد قصد إليه الشاعر والذي لا يختلف في تحديده قارئان، فذلك أمر عسير، لسبب بسيط وهو أن ذلك المعنى الواحد الوحيد إن وُجد فهو في بطن الشاعر كما كانوا يقولون. لذا إن وسيلة الشعر، والتي هي اللفظ، هي في الوقت نفسه هدفه الأوَّل والأهم. يقف الشاعر عند لفظه وقفةَ المصور عند ألوانه، والموسيقي عند أنغامه،
رُويَ أن الخنساء سمعت حسان بن ثابت يُنشد في عُكاظ قوله:
لنا الجفنات الغُرُّ يلمعن بالضحى وأسيافُنا يقطُرن من نجدة دمًا
فقالت له الخنساء تنقده، وهي الشاعرة الخبيرة باللغة وسرها: ضعَّفت افتخارك وأنزرته في عدة مواضع.
قال: كيف؟
قالت: قلت لنا” الجفنات “والجفنات ما دون العشر، فقلَّلت العدد، ولو قلت «الجفان» لكان أكثر، وقلت «الغر» والغرة هي البياض في الجبهة، ولو قلت «البيض» لكان أكثر اتساعًا، وقلت “يلمعن ” واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت “يشرقن “لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم في اللمعان، وقلت “بالضحى “ولو قلت “بالعشية” لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت “أسيافنا” والأسياف دون العشرة، ولو قلت “سيوفنا” لكان أكثر، وقلت “يقطرن ” فدللت على قلة القتال، ولو قلت “يجرين ” لكان أكثر لانصبابِ الدم، وقلت “دمًاء و”الدماء”أكثر من الدم.
ومن نقد الخنساء الشاعرة لحسان بن ثابت ترى كيف يغوص الشاعر في جوف اللفظة، ولا يكتفي بظاهر دلالتها، أو بمجرد كونها تُشير إلى مسميات بعينها؛ وذلك لأن الشاعر يريد لكل لفظة في شعره أن تجيءَ مترعة بمعناها وفحواها. إنه يستخدم اللفظة على نحوٍ فريد، لا يشبهه أيُّ ضرب من ضروب استخدامها الأخرى، إنه يريد من اللفظة أن توحي وأن تستثير عند السامع حلوَ ذكرياته أو مرَّها.
لقد قيل كلام كثير عن المترادفات في اللغة العربية ، إن اللفظتين المترادفتين في المعنى عند المتكلم من عامة الناس تُغني إحداهما عن الأخرى لأنها تساويها، فلو هذه أمي أو هذه والدتي سيان، أو قُلت ليث أو إنه اأسد،أو غضنفر فقد دللت عليه. لكن الأمر مختلف عند الشاعر الذي يحس باللفظ إحساسًا آخر أغنى وأغزر؛ إذ اللفظتان المترادفتان عنده تتقاربان، لكنهما لا تتطابقان، فتراه ينتقي منهما ويختار.
تلك هي طبيعة الشعر أو قُل إنها طبيعة الفن على إطلاقه،، فمن الإجحاف بالشعر أن نطالبَه بالخروج عن نفسه وبالتنكُّر لطبيعته، فيخدم شيئًا آخر سواه. أخلاقًا أو غير أخلاق،
إن الشاعر إذا سها عن فنِّه لحظة فوقف منَّا موقف الواعظ المرشد، فإنه في هذه اللحظة عينها ينفي عن نفسه أن يكون شاعرًا، فأفضل ما يكون الشاعر معلمًا أخلاقيًّا حين لا يحاول أن يعلم. ولقد يكون عند الشاعر شيء من حكمة الحياة يريد أن يعلمنا إياها، بل هو أحق الناس بجمع الحكمة من تضاعيف الحياة؛
ومهما يكن من أمر فليكن واضحًا أن تجميع الحكمة على هذا النحو ليس هو الشعر لأنها ضرب من التعميم، والتعميم في الأحكام عمل عقلي، لا شأن للذوق الشعري فيه اللهم إلا أن يكون جانب الفن منه هو طريقة الصياغة. الشعر في أخص خصائصه يقف عند الجزئيات المفردة، من سلوك أو مرئيات أو غير ذلك.
فإذا رأيت أحكامًا عامةً تردُ في سياق الشعر، فاعلم أنها إنما جاءت لا لتكون شعرًا بذاتها، بل جاءت لتكمل صورة جزئية فردية فريدة أراد أن يصورها الشاعر، ولم تفُت هذه التفرقة بين الحكمة والشعر شعراؤنا القدامى ، فقال بعض نقاد العرب الأقدمين: المتنبي والمعري حكيمان، والشاعر هو البحتري

يتبع …… الجزء الثالث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق