مقالات

تمثيلية .. رياض الصالح

عزيزتي .. أكره أن ألعب دور المعلِّم أو الحكيم أو حتى الناصح .. تعرفين ادعائي هذا جيداً .. فلطالما استنكرت عليّ هذا الادعاء .. وأثبتّ لي بقوّة أنّه مجرد أمنية أو رغبة ذاتية معاكسةٍ للطبيعة السائدة التي تكسو كلماتي وتصرفاتي التي تصدر منّي على الغالب مرتديةً زيَّ المعلّمِ أو عباءة الحكيم الزاهد المنعزل في صومعته على سفوح الجبال وبين سيقان الأشجار العالية ..
أعلم رأيك هذا ولا أقدر على إنكاره مع حرصي دوماً لعدم تقمّص هذا الشكل ولا التلوّن بهذا اللون .. لكنها الأطباع يا سيّدتي والتي غالباً ما تخالفُ الرغبات .. ولعلك لا تعلمين كميّة المحاولات التي أمارسها لأغيّر هذا الطبع الذي لا زلت أعاني منه على كافة مستويات حياتي .. حتى أضحى اختلالاً أشعر به في أي تجمّعٍ عاديّ أو نزهةٍ تُسمّى ترفيهيّة كما يحلو للكثير تسميتها .. ولا يعلم أحدٌ إلا أنتِ مقدارَ ما أبذُلُ من جُهدٍ لتمضِية هذه الأوقات دون إشعارِ المشاركين بها بمدى معاناتي وشرود ذهني واشتعال خواطري تجاه أي حركة تصدر بقصد أو دون قصد، فليس غرضي جرح مشاعر أحد ولا تشكيل رأيٍ عنّي قد يقلب مزاجي ويكدّر روحي إذا وصل إلى مسامعي ..
دعكِ من أحاديثي المملّة .. فأنا على يقين أنّ وضوحي في صفحَةِ مرآتك يفوقُ كلّ التصورات، ولولا هذا الوضوح لما تجشّمتِ عناءَ صُحبَتي ومتابعَة كلامِيَ الفارغِ طيلَة هذا الوقت .. لكنّ ما أردتُ إضافَتَهُ هنا بعض المشاعِرِ التي تعتريني كلّما حاولتُ التمثيلَ لادّعاء مشاعِرَ مُرضِيَةٍ للآخر مع انعدام شعوري بها أصلاً .. ثمّ ما يطرأ على عقلي من هوَسٍ واضطرابٍ ينشأ بعد ادعاء تلك المشاعرِ الزائفة الضروريةِ للعيش والعلاقات، لكنّها قاسِيَةٌ جدّاً على نفسيّتي يا عزيزتي .. فلا أحبُّ أن أكون غيرَ ما أنا عليه .. ولو للحظةٍ واحدة ..
أرهقني كثيراً متابعتي لذلك الهراء الذي مثّلَ نظرَة الوحش المعاصر تجاه الفرائسِ البسيطة .. وأزعجني كيف يكونُ الفخرُ بالتعذيب والتنكيلِ وتوعّد الجشع الأعظمِ عندَ وقوع الفريسةِ على الأرض صغيرَةً كانت أو كبيرة، شعرتُ وأنا أتابع مجلس حيوانات الغاب متحلّقةً حول مصدر الهراء هذا مدّعيَةً الإعجابَ والذهول .. وتحاولُ بالتصفيق فرضَ خرَسٍ من نوعٍ جديد يوجّههُ شعورٌ لا واعٍ يحرِصُ على اغتنام أي لحظة سكوتٍ ولو كانت نتيجةَ تصفيقٍ أرعَن ..
لقد سئمتُ العصريّة والعصريّينَ يا عزيزتي .. سئمتُ الحداثَة الحاضِنَةَ للمصالح ولو على حسابِ المستضعفين البسطاء .. سئمتُ الأكاذيبَ حولَ الرفق بالحيوان أو الأطفال .. وإغاثةِ الجوعى بالمساعدات والإغاثة .. ومكافحَة الأمراض .. والمطالبَة بحقوق المسحوقين .. تبيّن لي أن كلّ ذلك تمثيلٌ صار رديئاً مكشوفاً بعد انتشار هذه المهنة وإنتاجياتها الدرامية بعد العولمة.. فلم يعُد التمثيلُ يخفى على أحد .. لقد وحّدتنا لغة المصالح يا عزيزتي .. واختفى الإنسان القديم قبل الحداثة وما بعدها .. حتى أنهم لم يُنشئوا له متاحِفَ ولم يحتفظوا له بصُوَر .. يكرهون أن يسعى لإرجاعه أحد أو يجدد به الذاكرة المفقودة.. فيُفتَضحَ عصرٌ يسعى للمفاخرة والمكابرة ونيوليبراليّةٍ تتقنُ تمثيلَ دور الضحيّة الساعي للمساعدَة ومدّ الأيادي لبشريّةٍ متحجّرةٍ طفوليّةٍ لا تعرفُ مصلحتها ولا تحافظُ على مواردها .. ليُصفّقَ له من تعلّمَ التمثيل على شاكِلته وشارك في سرقة فتات الموارد الضخمة المسروقةِ أصلاً من أولئك المتحجرين ..
فهل عرفتِ يا عزيزتي لماذا يحرقني الشعور المصاحب للتمثيل الذي بدأت بالحديث عنه .. وإن كان هدفي عدم جرح المشاعر .. فكيف سيكون شعور أولئك الممثلون وأهدافهم جرح المشاعر والأجساد والمبادىء الإنسانية .. أعلم أنك ستقولين عنّي مدافعة .. أنّهُم بلا قلوب .. أعلم ذلك .. ولا وجه بيني وبينهم بأيّة مقارنة .. لكنّ التمثيلَ يبقى تمثيلاً .. ولا زلت أرفض أن أشارك في أيّة تمثيليّة .. ولو اضطررت لذلك .. فدعيني أعاني لوحدي .. يا عزيزتي ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق