مقالات

نِعمُ الوسادة في زمن الإبادة:

إشراق كورونة

مازال مشهد فِراق شخصيّة “رشدي” عن أمّه “خضراء” في مسلسل التغريبة الفلسطينية مشهدا مزلزلاً. وسيظلّ مشهد اللقاء بينهما بعد عشرين عامًا المشهد الذي أنتظر أن يمرّ عليّ فأعيشه لتخرج مني صرخة “خضراء”. صرخة مدوّية كأنّها صرخت بدلا من هاجر وهي تلهج بحثا عن الماء ولا يذبح العطش إسماعيلَ. ولعلّ ما يعنيني في هذين المشهدين هو قدرتهما على حملي إلى صراخ أحتاجه بقدرما أخجل من أن يصدر عنّي كبرياءً وأنفةً. إنّه مشهد قاسٍ يعجن الشوق والخوف والغربة والخذلان والانتظار والتضحية والجسارة والصمود والإباء والتحدّي والأمومة. يعرّف المشهدان الأمومة تعريفا إنسانيا خالصًا لا يتكوّر في أشهر تسعةٍ ويتجاوز ألم العطاء الطويل بلا مقابل ألم الوضع المؤقت. إنّه المشهد الذي أتسمّر أمـامه كلّما أرهقني السغب. ألم يمت المهجّرون في مشاهد حقيقة أيّام النكبة عطشا؟ ما أقسى السغب المجازي حين يكون نكبة بلا نهاية وبلا ذكرى وبلا اعتراف. وما أقسى السغب حين يتفيّأ الشوق اسم “وليدك” المرويّ ماء عنوانا لحسن اختيارك “وحسن ابتداء” أمومتكَ فتراه في الفيء يُحجب عنه “ظلّك” كما تُمنع أنتَ عن ظلّ نصف وارفٍ يُبقي الأمل حيا في الصحراء التي تحاصرك من كلّ الجهات ، وأن تعوي وتسعى بين “صفا” “ومروة” لا ينفجر بينهما سوى دمعك المالح. تشبه صرخة “خضراء” حين تعرّفت إلى ولدها “رشدي” بعد أن شبّ هو وشابت هي صرخة الطلق الأخير الذي يبشّر بانتهاء المخاض..
عاد إلى شخصيّة خضراء”رشدها” عندما شمّت ريح ابنها لحما ودما وقميصا فصدر عنها ثغاء مبحبوح لكنّه مجلجل كأوّل الصوت من الوليد. ولأنّ الحيلة أعيتني في إقناع الأرض والسماء والطبيعة بأحقيّتي “في رشدي” اخترت له من الأسماء “روّي” البحور الشعرية، أحاول تطويع الصبر خوفا على رشدي وتجاهلا للضمأ الذي يجتاح مسامي ويجفّف عروق جلدي. ألم ينتظر يعقوب يوسفَ حتى ذهب عنه بصره قبل أن تردّه الريح إليه؟ أعزّي نفسي بنور البصيرة وأدفعها نحو التجلّد. غير أنّني أعترف أنّه لولا مشهد صرخة خضراء كنتُ نفقت مثل الجوارح النادرة في بريّة بعيدة قفرٍ بلا قبر وبلا حرب. بريّة مجازها اشدّ فتكا من وضوح الواقع المفضوح. بريّة “أهيم” فيها وأحثو الشعر الذي جاء منه اسمه، كما أحثو النثر الذي ينزّ منه هذا الصراخ الصامت في انتظار الإنفجار الكبير.
وبين هذين المشهدين الذين يجري بينهما قلبي والهًا وعطشا دون أملٍ ولا “زمزمٍ” كأمل الرقوب، أستعيد مشهدا ثالثا لشخصيّة رشدي بحنّوه على أمٍّ جنّت تماما عندما أدركت أنّها سحبت من بيتها وسادة بدلا من ابنها لحظة تهجيرها وأنّها خلّفت وراءها ابنها فاحتضنته وسادة إلى الأبد. تخدّر الوسادة ليل انتظاري الطويل. إنّه زمن رخو. وتشير الوسادة إلى ملامح الإبادة في زمنها الفاضح. إلاّ أنّ مشروع الإبادة الفردي على وسادتي لا يلفت أنظار أحدٍ ولا يسيل لعاب الشجب والتنديد ولا يلهب الشوارع. ولذا هي صرختي وحدي أمام إبادة لمشاعر فرديّة. ولذلك أيضا، لم يبق أمـام نثري المصفّى هذا سوى عزاء خالص من أمّ موسى. فهل في اليمّ ملح يكفي فألقيه بحرا شعريا جديدا أنذره من نثري هذا محرّرا؟
تضمّد الخنساء قروح الخدّ المتورّم إذ تنشدُ: “قذى في عينكِ أم بالعين عوّار / أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدّار؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق