مقالات

“ست الشام” بقلم علي الشافعي

ست الشام بقلم علي الشافعي
الشام وما ادراك ما الشام , يا شام يا وجع العروبة , سلام الله يا شام , الشام ( شام شريف )هكذا سميت في العهد العثماني , الشام ــ يا دام مجد اجدادكم الاوائل ــ اسم يطلق على الاراضي الواقعة غرب العراق الى البحر المتوسط , وجنوب تركيا الي الحدود السعودية وتضم الدول حسب تقسيمات اتفاقية سيكس بيكو (طيبة الذكر والرائحة) , تضم سوريا ولبنان والاردن وفلسطين . هذه البلاد عادات اهلها وتقاليدهم واعرافهم وحتى احسابهم انسابهم واحدة ولغتهم واحدة باستثناء بعض المفردات المحلية , وكذلك ثقافتهم وذوقهم العام وفنونهم وآدابهم .
تشتهر الشام بحلوياتها التي أخذت أسماءها من البلاد التي اشتهرت بها , فيقال مثلا حلاوة الشام , والكنافة النابلسية وكرابيج حلب , وليالي لبنان والفيصلية والمأمونية والحلبية . وأما ما اشتهر باسم الشام نفسها ؛ فبلح الشام ومشبك الشام و ورد الشام , وهي اطباق حلو تصنع من الدقيق والماء والسكر . لكن ست الشام ما عرفناها , سالت من حولي فما عرفوها ايضا , لكنهم رجحوا أن تكون طبقا مثل باقي أطباق الحلو التي اشتهرت بها الشام . تعالوا بنا اذن نتعرف على ست الشام , فقد تكون طبقا لذيذ المذاق محببا للنفس مغذيا للروح .
تعالوا ــ ايها السادة الكرام ــ ننبش مقبرة التاريخ لننفض الغبار عن سيدة لا ككل النساء , سيدة قل مثيلها في التاريخ الاسلامي , سيدة غيّبت كما غيّب الكثيرون من القامات الشامخة في تاريخنا المغيب قصدا , وساعد أهله على تغييبه , ليقال ان الاسلام اهمل المرأة , ولم يكن لها دور في الحياة السياسية والاجتماعية , كمثيلاتها من بنات بني الاصفر . سيدة تستحق هذا اللقب والاصل ان تكون ليس فقط ست الشام بل ست بلاد بني عرب من محيطهم الى محيطهم . من هي ست الشام ؟ ولِمَ لقبت بهذا اللقب ؟ وهل تستحقه ام هو لقب فضفاض عليها , ام شحيح وتستحق ما هو اكبر منه . اذن دعوني اقول لكم وعمر القارئين يطول :
ست الشام : هي الأميرة فاطمة خاتون بنت الملك نجم الدين ايوب ، فخر نساء عصرها , الملقبة ايضا السيدة الأميرة ، وأم الفقراء ، وراعية العلم . وخاتون هو لقب للسيدة عريقة النسب والسيدة المهذبة , ويطلق على سيدات المجتمع من الطبقة الراقية في بعض البلدان الإسلامية ، وهي كلمة تركية مغولية انتقلت إلى عدة لغات لعدد من الشعوب الإسلامية وفي مقدمتها العربية والفارسية والأوردية . وكثيراً ما كانت تطلق على زوجة الخليفة أو السلطان وأمه , وباقي الأميرات وكذلك على زوجات الوزراء والأعيان والباشوات . وأصل تسمية خاتون من تأنيث كلمة «خاقان – تون» والذي يعني الملك أو السلطان , ويكون بذلك معنى خاتون السيدة أو المعظمة أو السلطانة . ظهر هذا اللقب في العالم العربي في العهد العباسي في بغداد اثر احتكاك العرب بالترك ، وممن سمّين بهذا الاسم السيدة زبيدة خاتون زوجة الخليفة هارون الرشيد . يرادف هذا اللقب لقب هانم عند المصرين (هوانم غاردن ستي) وخانم عند الشامين .
ست الشام ابنة ملك ، وزوجة ملك ، وأم ملك، و الأخت الصغرى للملك : (صلاح الدين الأيوبي) لها من الأقارب المحارم خمسة وثلاثون ملكا . لكن هذه المكانة الرفيعة ، لم تحرك فيها الغرور, بل سخرت مكانتها وثراءها للعلم الشرعي ، وخدمة الفقراء , فكان بيتها منارة للعلم وماوي للفقراء . وأمها هي ست الملك خاتون أحسنت تربيتها وجميع إخوانها، ــ ومنهم صلاح الدين ــ على التقوى والصلاح .
كانت ست الشام أحب الناس إلى قلب أخيها صلاح الدين ، وكانت تتبعه في كل شيء بل وتتفوق عليه ، درست معه عند علماء الفقه وعلماء الحديث ، وبرعت فيهما وحتى صارت عالمة من علماء الشافعية , واصبح بيتها منارة للعلم يقصده القاصي والداني . أنشأت ست الشام المدرسة الشامية البرّانية , والتى عرفت بالمدرسة الحسامية نسبة لولدها الامير حسام الدين ، كما بنت المدرسة الشامية الجوّانية سنة 582 هـ ، أوقفت عليها أملاكا تكفي حاجتها المالية يذكر أن من طلاب هذه المدرسة “شمس الدين بن الشيرازي”، “المقدسي”، “تقي الدين السبكي”،” شهاب الدين الزهري” وغيرهم . واستمرت في العلم , فتعلمت الطب وصناعة الأدوية وتفوقت فيهما أيضا ، وأكثر من ذلك أقامت مصنعا للأدوية . فكانت أول امرأة تملك مصنعا للأدوية ، وعملت في هذا المصنع مائة امرأة كلهن حافظات لكتاب الله ، ماهرات في ركوب الخيل . وكان هذا هو شرطها للعمل في هذا المصنع . وعندما سئلت : لماذا حافظات فارسات ؟ قالت : ما أراهن إلا مجاهدات يحتجن إلى ركوب ظهور الخيل ليكنّ في قلب الجيش ، وما أرى امرأة في قلب الجيش تطبب المرضى إلا ويكون الإيمان في قلبها راسخ ، وما أرى رسوخ الإيمان إلا بحفظ كتاب الله . قال صلاح الدين رحمه الله : ” ما غِرْت من أحد قدر غيرتي من أختي ست الشام لما تفوقت عليّ في الطب وصناعة الدواء ، وما كان هذا إلا لانشغالي بالملك ، والفروسية ولم يشغلها” . كان المصنع يورد الأدوية لجيش صلاح الدين . ومما يذكره عنها أبو شامة المقدسي في ذيل الروضتين مايلي : (قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: كانت سيدة الخواتين ، عاقلة كثيرة البر والإحسان والصدقات , وكان يعمل في دارها من الأشربة والمعاجين والعقاقير في كل سنة بألوف الدنانير . وقد ذكر ابن خلكان و عماد الدين ابن كثير ، أن ست الشام أعطتنا درساً في أصول الرحمة وصلة الرحم حين أمرت ببناء تربة بجانب المدرسة لتضم رفات شقيقها الأكبر الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين تورانشاه بن نجم الدين أيوب المتوفى في الإسكندرية بشهر صفر عام 576هـ
ست الشام لم يشغلها عملها عن بيتها وزوجها . فكانت نعم الزوجة ونعم الأم، فهى زوجة لابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه ، انجبت منه ابنها الوحيد حسام الدين البطل الذي كان يحبه صلاح الدين , ويفخر به حتى ظن البعض أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن أخته . وعن سر محبة صلاح الدين لابن أخته قال : ما رأيت فتى نشأ وتربى كما تربيتُ إلا حسام الدين ، وما رأيت امرأة ربت ولدها كما ربت أمي ولدها إلا ست الشام . بمعنى أنها هي الأشبه بأمها ست الملك خاتون . حضر حسام الدين معركة حطين سنة 583 هـ /1187 م ، فكان لصلاح الدين من أعظم الأعوان ، فأرسله عقب المعركة مع فرقة من العسكر إلى نابلس ففتحها بالأمان ، فولاّه عليها حتى وفاته بدمشق في رمضان سنة 587 هـ/1191 م ، وفُجع صلاح الدين بوفاته، وفُجعت ست الشام بوحيدها ، ودفنته في مقبرة العوينة ، فأصبحت تعرف بالتربة الحسامية نسبة إليه.
قبيل معركة حطين المجيدة قالت ست الشام لزوجها وأخيها قبل القتال : أريد عدة وعتاد لكتيبتي . قال صلاح الدين : ولماذا ؟ قالت : لكي نكون جاهزات عند قيام الحرب . فقط أريد منكم الخيل . ولا آمن على الخيل إلا أن يختارها ناصر الدين زوجي . لما له من خبرة في الخيل . وقادت ست الشام الكتيبة الطبية التي تسمى كتيبة الحافظات . يطببن المرضى ، ويسعفن الجرحى . وكن فوق تضميد الجراح يقاتلن .
وبعد ايها السادة الافاضل فهذه هي السيدة الملقبة بست الشام , السيدة العالمة العابدة وسيدة الأعمال والقائدة ماتت في حياة زوجها فلم يتزوج بعدها ولما سئل قال: ما أرى امرأة تعطيني من الحب ما كانت تعطيني ست الشام . ومن قبلُ سألها ولدها : لماذا تحب والده بهذا القدر ؟ قالت : ما طلبت طلبا إلا سارع به , افتقدت نبتة تصنع منها خلطة دواء ، فأتى بها من بُرقة (في ليبيا) . وقال : علمت أنك تريدينها ليس لنا ولكن لعامة المسلمين .. وقد كانت رحمها الله كثيرة البر والصدقات , وبابها ملجأً لكل قاصد .
توفيت ست الشام رحمها الله في يوم الجمعة الموافق للسادس عشر من ذي القعدة سنة 616هـ بدمشق في دارها المقابلة للبيمارستان النوري , ودفنت بتربتها بالمدرسة البرانية (الحسامية) وقد شيعت في جنازة رهيبة تحدث عنها الركبان , فقيل : ان جنازتها كانت فريدة إذ لم تشيع امرأة قبلها بمثل ما شُيعت به خاتون ست الشام , ودفنت فوق ولدها حسام الدين .
رحم الله ست الشام , فخر نساء عصرها , والان ما رايكم ــ يا دام مجدكم ــ هل تستحق هذا اللقب ؟ ام تستحق لقب ستهم كلهم . طبتم وطابت اوقاتكم .

مقالات ذات صلة

إغلاق