لعلها أكثر المستفيدين من الحرب على غزة، فقد استغلت انشغال الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، وصبت جام قوتها على أوكرانيا، وألقت بكل ثقلها العسكري عليها، وركزت قصفها على مختلف مناطقها، وكثفت غاراتها الدقيقة على مئات المرافق الحساسة والأهداف الاستراتيجية، التي يؤثر تدميرها على مسار الحرب، ويضعف الجبهة الداخلية الأوكرانية، وحققت خلال الأشهر الثلاثة الماضية ما لم تحققه على مدار عامٍ كاملٍ من العمليات الحربية.
استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الظروف الدولية المستجدة، وعمل بجدٍ وصمتٍ على مختلف الجبهات الأوكرانية العميقة والبعيدة والحدودية، وانتقم بشدةٍ من القيادة الأوكرانية التي كانت تتيه وتتشدق، وتتعالى وتتغطرس، معتمدةً على الدعم الخارجي والإسناد الدولي الكبير التي حظيت به، متجاهلة سياسة الغربالخبيثة التي غررت به واستغلته، واستخدمته في القتال ضد روسيا لتحقيق مصالحها وخدمة أهدافها في إضعاف روسيا وتحجيم دورها، ولو على حساب تدمير أوكرانيا وقتل مواطنيها.
أدرك بوتين أن خطوط الإمداد الاستراتيجية الأمريكية والغربية قد قطعت، وأن شحنات الأسلحة قد توقفت، وأن حملات الدعم والإسناد قد تعطلت، وأن الحملة الإعلامية ضد بلاده قد تراجعت، وأن النظام في أوكرانيا بات ضعيفاً في المواجهة، وعاجزاً عن الدفاع وحماية المناطق، فضلاً عن أن الجبهة الداخلية قد تصدعت، وأن صفوف الجيش قد تفككت، وأن حراكاً عميقاً واسعاً داخل المؤسسات العسكرية والسياسية الأوكرانية قد بدأ يتململ، فانتهز الفرصة واستغل الظرف، فزحف وسيطر، وقصف ودمر، وحقق الكثير مما كان يحلم به ويتمنى، وما زال يواصل حملته ويطوي الأرض تحت أقدام جنود جيشه، ويحقق الأهداف على مدى قذائف دباباته ومنصات صواريخه.
يدرك الفلسطينيون أنهم الذين منحوا الرئيس الروسي وبلاده الفرصة الذهبية لتحقيق أهدافه، و أنه لولا انشغال الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا بالحرب على غزة، والتفرغ لدعم وإسناد وحماية الكيان الصهيوني، لما تمكن من تعويض ما فاته، وجبر الكسر الذي أصابه، واستعادة الردع الذي فقده، والتفوق الذي خسره، ولربما مضت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في استنزاف روسيا وكسرها، وتدمير اقتصادها وعزلها، ولعلهم نجحوا في مخططاتهم ضدها على مدى أكثر من عامٍ طويلٍ من القتال العنيف المرير.
بالمقابل فإن الفلسطينيين يتطلعون من القيادة الروسية أن تعترف بفضلهم، وأن ترد عليهم بمثله أو أكثر، فتساندهم وتؤيدهم، وتقف إلى جانبهم وتساعدهم، وتحبط المؤامرات التي تحاك ضدهم، وتعطل القرارات التي تتخذ للنيل منهم وتفكيك قضيتهم، على ألا تكون المواقف نظرية ضعيفة، أو باهتة غير مؤثرة، بل جادةوعملية، تخيف العدو وتقلقه، وتجبره على التراجع والانكفاء، ووقف الحرب والكف عن الاعتداء.
ربما بلغ الفلسطينيين شكرُ الرئيس الروسي لمقاومتهم، وإشادته بصمودها، وإعجابه بعملياتها، وهاله صبر الشعب وعطاؤه، واحتضانه للمقاومة واحتماله، وقد علموا أنه نقل مواقفه إليهم عبر وسطاء ومن خلال حلفاء، لكن الفلسطينيين يرون أن الشكر لا يكفي، وأن الدعم النظري لا يفيد شيئاً ولا يغير الواقع أبداً، وأن مشاعر الإعجاب وكلمات الإشادة التي يبدو أنها سريةٌ وخفيةٌ، وأنه يخشى أن يعلم بها أحد، أو يعرف بها الكيان، ولهذا كانت مكالماته الطويلة مع رئيس حكومة العدو مزعجة ومقلقة، فماذا قال له حتى أرضاه، وماذا شرح له حتى أسكته، وماذا وعده حتى طمأنه.
إن الفلسطينيين الذين وقفوا ابتداءً إلى جانب روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وأيدوها ودافعوا عنها، قبل أن يشن العدو الإسرائيلي حربه المدمرة على قطاع غزة وأهله، التي استفادت منها روسيا وما زالت، يرون أن الشكر لا يكفي، وأن عبارات التأييد التي تأتي على استحياء لا تنفع، وأن محاولات استرضاء رئيس الحكومة الإسرائيلية تقلق، فهل تغير القيادة الروسية وتبدل في مواقفها، وتكون أجرأ وأقوى، وأوضح وأصدق، وتتخذ مواقف عملية مؤثرة، وتهدد بسياساتٍ جديدةٍ تتوافق مع مصالحنا ومصالحها، أم أن هذا هو آخر ما عندها، وأقصى ما تستطيع تقديمه، فلا نرجو منها أكثر، ولا نتوقع منها غير الإدانة والاستنكار، والتأييد الصامت والشكر البارد.
بيروت في 2/1/2024