مقالات

سجون : رياض الصالح

اتكأ صاحبنا على جذع شجرة قديمة .. يستظل بها من شمس الظهيرة .. و يطل على قفص الطيور لديه .. كانت الحمائم التي يطلق سراحها صباحاً .. تعود إلى القفص هرباً من أشعة الشمس الحارقة .. و كذلك فعلت الدجاجات .. لم يكن لحظتها يفكر بشيء .. فأقصى رغباته لا تتعدى رغبة جميع طيوره بالحصول على قيلولة هانئة .. يريح بها بدنه التعب .. و يحاول إقناع دماغه المدمن على الحركة .. أنه لا بأس بقدر طفيف من الراحة .. فلا شيء يدعو للقلق .. و ليس في هذا القيظ فكرة طائرة .. ليتسلى باصطيادها ..
تمطى في مكانه .. لتسري دغدغة مريحة في أنحاء عضلاته المشدودة .. أحس بصلابة جذع الشجرة .. و خشونة لحائها .. و فاته أن دماغه المتعب كان ينتظر إشارة البدء تلك .. و التي تبرع صاحبنا بضغطه على زر التشغيل .. دون أن ينتبه ..
.. ترى .. هل يشعر الشجر بالحرية .. هذه السواري الضخام المتعالية نحو السماء .. إنها متجذرة في الأرض .. ألا تشعر بالملل .. ألا تشتاق للتحرر من قبضة التراب و تسلط قيود الجذور .. و هل تكتفي بالتمدد العمودي المتمطي .. و الارتقاء المتصاعد الوهمي .. كبديل موازٍ للحركة الأفقية .. و التنقل الجسدي من مكان لآخر .. يا ترى كيف سيكون الأمر لو استبدلت هذه الشجرة أقداماً أو أجنحةً بجذورها .. هل ستبقى ملازمة لنفس المكان .. و لهذه المدة الطويلة .. و هل سيكون خيارها التحليق سماءً .. أم التشبث أرضاً .. هل ستجتمع بنظائرها من الشجر .. و تكوِّن غابات ضخمة متنقلة .. كأن روحها متعلقة بالأرض حتى الثمالة .. أم ستختار التحليق مبتعدة .. لا أظنها ستتبع أحلامها .. حتى لو رغبت ذلك بشدة .. و لو أظهرت لنا تطاولها الدائم .. فمن كانت الأرض داءه و دواءه .. ملجأه و منفاه .. منبته و مقبرته .. منحته و نفقته .. فلن يبرحها .. و لو وجد لها خير بديل ..
أية حرية تلك التي نطمح إليها .. مجرد لفظ يتشدق به السياسيون .. و يتغنى به الرومانسيون ..مجرد ريشة ندق بها على أوتار العواطف .. فتهتز الروح طرباً .. لكنها لا تفعل أكثر من ذلك .. لماذا تعود الحمائم التي تحررت صباحاً .. إلى أقفاصها عندما تلفحها الشمس .. أو يخيفها الظلام .. أية حرية تلك التي تخضع للحاجة .. و تتقيد بالمسؤوليات .. و تشعر بتأنيب الضمير لفكرة الانتماء .. و تعاني من النظرات المستفزة .. و اللمزات المستمرة .. و استنكار القطيع .. و جلد الذكريات .. و لوعات الشوق .. و حرارة الحنين .. و تخشى صراعات السيطرة .. و لؤم المنافسات .. و الاتهمات الوقحة .. بأنه يطمح ليكون مجرد نكرة مشردة قذرة .. كلما فكّر أو حاول أو جاهد من أجل ملامسة طرفٍ بعيدٍ من ثوب الحرية ..
أليست الدواجن المستكينة و المستسلمة لكونها دواجن بيتية .. اقتنيت للتدجين .. و لمنح البيض .. مرتاحة أكثر .. فليس في قاموسها مثل ذلك اللفظ .. و ليس في قوائم أحلامها ما يذكرها بما لا تستطيع فعله أصلاً .. فلم تلد الحياة أمثالها أحرارا ..
عندما تقطن العبودية قلباً .. فلن يستنكر فكرة سوق النخاسة .. بل سيكون في ذلك السوق رزقه و مأكله و مشربه و ملجأه و كفايته .. فمن ارتضى أن يختزل معنى الحياة بهذه الحاجات .. كان حقاً عليه أن يقبل النخاسة فعلاً و قولاً و حلم حياة ..
تضايق صاحبنا من هذا العقل الأفاك الذي لا يدعه ينام .. أرغد و أزبد و نثر قمامة لسانه في الهواء .. فقد كانت مزرعته ذات يوم عبارة عن حلمٍ جميل .. و قد عانى كثيراً و تحمل أعباءً .. كلها هانت عنده بمجرد إحكام القبضة على ذلك الحلم الشارد .. فقد تسلق جدار سجنه السابق .. ترك الزملاء الكسالى .. تعلم السباحة خشية الغرق في محيط التغيير .. و ودع جزيرة الذكريات المتعبة .. لينفض الماء عن جسمه في الأرض الجديدة.. و يتسلق جداراً جديداً .. و يدخل بإرادته سجناً جديداً أكبر .. و يخالط سجناء جدد.. و يرتدي ثياب السجن الجديدة ..
فكيف تراوده الأفكار الآن و في هذه اللحظة التي يسعى فيها للراحة .. لتقلب له الطاولة .. و تكشف له الخبايا تحتها .. ليرى طول السلاسل التي تقيده .. و ثقل المسؤولية التي تحبسه .. و حجم الغباء الذي ركض لأجله .. ظناً منه أنه يسعى للحرية .. فإذا به يسعى نحو السجن .. و يقابل الكثير من المخدوعين مثله .. فيؤاكلهم و يجاملهم و يمازحهم .. و يشاركهم قصص النضال .. و حكايات الثورة .. ثم يحتفل معهم بالتحرر .. و الاستقلال .. في أنحاء السجن الكبير .. الموسوم بشعارات الحرية ..

# بقلم
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق