مقالات
كَلِمَةٌ في الأدَبِ الْمَنثورِ: أ.د. لطفي منصور
هذا الْجَنِر الأدَبي مِنْ أَجَلِّ ما أَلَّفَتِ العَرَبُ في القُرونِ الْماضِيَةِ. لَيْسَ الْمُرادُ بِالْمَنْثُور النَّثْرَ الَّذِي هُوَ عَكْسُ النَّظْمِ؛ وَإنَّما ذَلِكَ الأَدَبُ الَّذِي لا يُعالِجُ مَوْضُوعًا واحِدًا، بَلْ مَواضيعَ مُتَعَدِّدَةً شائِقًَةً لَطيفَةً، خَفيفَةً عَلى الْقَلْبِ، لا يَحْتاجُ القارِئُ فيها إلَى إعْمالِ الْفِكْرِ وَالتَّعَمُّقِ في فَهْمِ الْعِبارَةِ. فَبِجانِبِ الطَّرائِفِ الأدَبِيَّةِ الجميلَةِ الْأَلِقَةِ الرّاقِيَةِ الْمُعَلِّلَةِ تَجِدُ أخْبارَ النّاسِ، فهو أَقْرَبُ إلَى الأَدَبِ الشَّعْبي الفَصَيحِ الْجَزْلِ، فَإذا تَناوَلْتَ مُؤَلَّفًا وَفَتَحْتَهُ لِتَنْظُرَ فيه تَشْعُرُ أَنَّكَ في بُسْتانٍ تَضَوَّعَ أريجُهُ، مُتَعَدِّدِ الثَّمَراتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَذاقِ وَالْأَلْوانِ، أوْ في خَميلَةٍ مِنَ الأزاهيرِ يُعْجِبُكَ مَنْظَرُها، وَتَنْشَقُ عِطْرَها، وَلا تَمَلُّ قُرْبَها.
تَعَدَّدَتِ الْمُؤلَّفاتُ في هذا النَّوْعِ مِنَ الأَدَبِ الَّذِي هو الأَصْلُ، وَصَدَرَتْ مِنْهُ مُوَسَّعاتَ تَشْمَلُ عِدَّةَ مُجَلَّداتِ، بِجانِبِ الْمُجَلَّدِ والْمُجَلَّدَيْنِ.
الْجاحِظُ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ (ت ٢٥٥هج) مِنَ الأوائِلِ الذِينَ طَرَقُوا هذا الْفَنَّ، في رَسائِلِهِ، وَفي بُخَلائِهِ، والبيانِ والتَّبْيِينِ، وَكِتابِ الْحَيَوانِ. غَيْرَ أنَّ الْجاحِظَ بَقِيَ في بُرْجِهِ الْعاجيِّ، لَمْ يَهْبِطْ إلَى دَرجاتِ الشَّعْبِ لِيَصِفَ حالَهَم، اللَّهُمَّ إلّا في البُخَلاء ونوادرِ القضاةِ والْمُعَلِّمينَ وَالْحَمْقَى وغيرِهِمْ.
وَبَعْدَ الٍجاحِظِ جاءَ محمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِي (ت ٢٧٦ هج) مِنْ كِبارِ الْمُؤَلِّفِينَ في القَرْنِ الثّالِثِ الْهِجْري، وَصَلَنا قِسْمٌ لا بَأْسَ بِهِ مِنْ كُتُبِهِ مِثْلِ الشِّعْرِ وَالشُّعَراءِ، أَدَبِ الكاتِبِ، مُشْكِلِ القُرْآنِ، الإمامَةِ والسِّياسَةِ وعِيونِ الأخْبارِ وهوَ أرْبَعَةُ أَجْزاءٍ بِمُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ يَضُمَّانِ ألْفًا وَخَمْسَمِائَةِ صَفْحَةٍ، وَهُوَ في الأَدَبِ الْمَنْثورِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى الأَبْوابِ الآتيةِ: كِتابُ السُّلْطانِ، كِتابُ الْحَرْبِ، كُتابُ السُّؤْدُدِ، كِتابُ الطَّبائِعِ والأخلاقِ الْمَذْمُومَةِ، كِتابُ العِلْمِ والبَيانِ، كِتابُ الإخْوانِ، كِتابُ الطَّعامِ، كِتابُ النِّساءِ.
وَلِكُلِّ كِتابٍ فُصولٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُسَهِّلُ عَلَى الْقارِئِ الإلْمامَ بِمَضْمونِ الْكِتابِ. مِنْ هنا نَرَى أَنَّ ابنَ قُتَيْبَةَ هْوَ مَنْ نَظَّمَ هَذِهِ المادَّةَ الْمُهِمَّةَ، ومن جاءَ بَعْدَهُ كانَ عالَةً عليْهِ. الْكُتُبُ عِنْدَ ابنِ قُتَيْبَةَ تُعادِلُ الْأَبْوابَ عِنْدَ غَيْرِهِ.
مِنَ الَّذينَ ساروا عَلَى نَهْجِ. ابنِ قُتَيْبَةَ أبو عُمَرَ أحمدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الأنْدَلُسِيُّ الشَّاعِرُ صاحِبُ كِتابِ “الْعِقْدِ الْفَريد”. وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ كِتابِ عُيونِ الأَخْبار لابنِ قُتَيْبَةَ، لأَنَّهُ نَقَلَ كَثيرًا مِنْهُ.
نَظَّمَ ابْنُ عَبْدِ رَبِّهِ كتابَهُ مُحْتَذِيًا طَريقَةَ ابنِ قُتَيْبَةَ في أسماءِ الْكُتُبِ، مُعْطِيًا لِكُلِّ كِتابٍ اسمًا مِنَ الجواهِرِ، مَثَلًا كِتابُ اللُّؤْلُؤَةِ في السُّلْطان، كِتابِ الْفَريدَةِ في الْحُروبِ، كِتابُ الزَّبَرْجَدَةِ في الأجْوادِ وَالأصْفادِ (الْعَطاء) وَهَكَذا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جميعَ الكُتُبِ لِيُشَكّلَ مِنْها الْعِقَدَ الْفَريدَ المَعْروفَ.
فائدَةٌ: اشْتَهَرَ الْعِقْدُ الفَريدُ في الْغَرْبِ والشَّرْقِ الإسْلامِيَّيْنِ. وَوَصَلَ ذِكْرْهُ إلَى بَغْدادَ وَفيها الوزيرُ الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ الذي كانَ يَطْمَعُ أنْ يَحْصُلَ عليْهِ، ظَنًا مِنْهُ أنَّ فيهِ أَخْبارَ الأنْدَلُسِ وَشَمالَ إفْرِيقِيَّةَ. وَعِنْدَما حَصَلَ علَيْهِ خابَ ظَنُّهُ، وَقالَ جُمْلَتَهْ الْمَشْهورَةَ؛ “هَذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إلَيْنا” وكانَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى كِتابِ ابنِ قُتَيْبَةَ.
وَمِنْ أهِمِ جَوْهَرَةٍ في هذا الكتاب هِيَ ” الْجَوْهَرَةُ الثّانِيَةُ في أَعاريضِ الشَِعْرِ وَعِلَلِ الْقَوافي” كتابٌ رائِعٌ لَمْ يُؤَلَّفْ مِثْلُهُ وَلا يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ (المجلَّد الخامس، ص: ٤٢٤- ٥١٨، وَقَدْ نَظَمَهُ شِعْرًا سَهْلًا).
وَمِنَ الْكُتُبِ الْمُهِمَّةِ في هذا الأدَبِ كِتابُ “نثْرُ الدُّرِّ” لِلْأَديبِ الْكاتِبِ أبي سَعيدٍ مَنْصُورِ بنِ الْحُسَيْنِ الآبِي (ت ٤٢١ هج) وَهوَ أشمَلُها، يَقَعُ في ثَمانِيَةِ مُجَلَّداتٍ مِنَ الْقَطْعِ الْكَبير، صَدَرَ عَنِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعامَّةِ لِلْكِتابِ. وهوَ قِمَّةُ الأدَبِ العَرَبِيِّ، لمُ يَتْرْكُ زِيادَةً لِمُزِيدٍ.
لا أَسُتَطِيعُ في هذهِ الْعُجالَةِ أنْ أذْكُرَ مَصادِرَ هذا الأَدَبِ لِكَثْرَتِها، وَهِيَ تُنيرُ مَكتَبَتي، ولكنِّي سَأذْكُرُ مَصادِرَ أخْرَى مُهِمَّةً يَحتاجُها الدّارِسُونَ والباحِثون في الأدبِ الْعَرَبِيِّ:
– مِرْآةُ الزَّمان لِسِبْطِ ابْنِ الْجوزي وَذَيْلُها لِلْيونيني. – نِهايَةُ الأَرَبِ في فُنونِ الأَدَبِ لِلنُّوَيْري وهي كامِلَةٌ في ثَلاثينَ مُجَلَّدًا.
– مَسالِكُ الأبصار في مَمالِكِ الأمْصار لِابْنِ فَضْلِ اللَّهِ العُمَري كاتِبِ صَلاحِ الدِّين، كامِلَةً في ثلاثينَ مُجَلَّدًا.
الآنَ يَأْتِي دَوْرِي في هذا الأَدَبِ. لَمُ تَقْتَصِرْ مَعْرِفَتِي لِلأدَبِ الْمَنْثورِ عَلَى اقْتِناءِ كُتُبِهِ والقِراءَةِ فيهِ.
وَفَّقَني اللَّهُ أنْ أُحَقِّقَ مَخْطوطَةَ كِتابِ “سُرورُ الصَّبا والشَّمول وَمُرورُ الصِّبا والمَشْمول” لِعَبْدِ الْحَيِّ بْنِ عَلِيٍّ الطّالَوِي الْمَعْروفِ بِابْنِ الطَّويلِ الطّالَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت ١١١٧ هج)، وَهُوَ كِتابٌ ضَخْمٌ في الأَدَبِ الْمَنْثُورِ أكَثَرَ مِن سِتِّ مِائِةِ صفحَةٍ مِنَ الْقَطْعِ الكبيرِ، اختَصَرَ مُوَسَّعاتِ هذا الأَدَبِ، وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْنا زُبْدَةَ هذهِ الْكُتُبِ، فَأغنانا عَنِ النَّظَرِ فيها إلّا لِزِيادَةِ بَحْثٍ.
يَضُمِّ الكِتابُ ثَمانِيَةَ أَبْوابٍ كَبيرَةٍ اشْتَمَلَت عَلَى سَبْعَةٍ وَأربَعينَ فَصْلًا في مَواضيعَ مُخْتَلِفةٍ. الأَبْوابُ هي:
البابُ الأَوّلُ في الْكَرَم، الثّاني في الْحِكَمِ، الثّالِثُ في الْحِلْمِ، الرّابِعُ في الفصاحَةِ، الْخامِسُ في الْوَقاحَةِ، السّادِسُ في أخْبارِ الْمُغَفَّلين، السّابِعُ في اللَّطائِفِ والظَّرْف، الثّامِنُ في أَخْبارِ الْحُبِّ وَالْعِشْقِ.
وَقَدْ أَرْدَفَ ابنُ الطَّويل الطّالَوي الدِّمَشْقي كَتابَهُ هذا بِكِتابِ الشِّعْرِ . وهو مَوْسوعَةٌ شِعْرِيَّةٌ يُناهِزُ تِسْعَ مِائَةِ صَفْحَةٍ مِنَ الْقَطْعِ الْكبيرِ بِتَحْقيقِنا ودِراسَتِنا وَضَبْطِنا صَدَرَ سنَةَ ٢٠١٦م. يُطْلَبُ الْكِتابان من دار الْهُدَى أ، كفر قرع بِإدارَةِ الأستاذ عبدُ الْفَتّاح زحالْقة.
إلَى هُنا.