شعر وشعراء
مِنْ شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ النّادِر: مِنَ الْوافِر
مِنْ شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ النّادِر: مِنَ الْوافِر
كانَ امْرؤُ الْقَيْسِ الشّاعِرُ يُحِبُّ أنْ يَكُونَ لَهُ مالٌ كَثيرٌ، وكانَتِ الإبِلُ خَيْرَ ما يَمْلِكُهُ الإنسانُ في عَصْرِهِ، يُحْمَلُونَ عَلَيْها، وَيَأكُلونَ مِنْ أَلْبانِها وَلُحومِها، وَيَسْكُنونَ مِنْ وَبْرِها وَيَلْبَسَونَ، وَيَنتَعِلونَ مِنْ جُلودِها، وَيَصْنَعُونَ مِنْها خِيامَهُم وَأَخْبِيَتَهُم.
لَكِنْ أَنَّى لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ طَريدُ أَبيهِ، اِلْتَفَّتْ حَوْلَهُ ثُلَّةٌ مِنْ أَقْرانِهِ، يَقْضونَ أوْقاتَهُمُْ بالصَّيْدِ واللَّهْوِ، يَنْتَقِلُونَ مِنْ غَدِيرٍ لِآخَرَ، يُعاقِرُونَ الْخَمْرَ وَتَعٍزِفُ لَهُمُ الْقِيانُ وَيُغَنِّينَ.
جَلَسَ يَوْمًا تَحْتَ نَخْلَةٍ، فَأَخَذَ يُفَكِّرُ في أَصْحابِهِ الّذِينَ يُفْدُونَهُ بِأَنْفُسٍهِم ماذا يُقَدِّمُ لَهُمْ مِنْ طَعامٍ وَشَرابٍ، وَكانَ لا يَمْلِكُ سِوَى أَرْبَعَةِ أفْراسٍ بِسُروجِها وَأَلْجِمَتِها، وَجَمَلٍ قَوِيٌّ يَحمِلُ أثْقالَهُ وَخِباءَهُ.
وَبَيْنَما هُوَ في هَمِّهِ وَفِكْرِهِ إذا راعٍ يَسُوقُ قَطيعًا مِنَ الْماعِزِ كَثيرَ الْعَدَدِ، وَقَد بَدَتِ السُّمُنَةُ عَلَى أَجْسادِها، وَانْتَفَختْ ضُروعُها بِاللَّبَنِ، فَاهْتَمَّ امْرُؤُ الْقَيْسِ بُالأَمْرِ وَساوَمَ الرّاعِيَ عَلَى مُقايَضَةِ القطيعِ بِأفْراسٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَبِلَ الرّاعي بِالْمُقايَضَةِ، وَسَلَّمَهُ القَطيعَ مُقابِلَ فَرَسَيْنِ لِامْرِئِ الْقَيْسِ. فَهَدَأَتْ نَفْسُ الشَّاعِرِ وّاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ، وَقالَ أبْياتًا عَلَى الْبَديهَةِ يَصِفُ قَطيعَ الْماعِزِ ، والرِّضا بِالأدْنَى مِنَ الثَّمين: مِنَ الْوافِرِ
-أَلا إنْ لا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى
كَأَنَّ قُرونَ جِلَّتِها الْعِصِيُّ
(أَلا: أداةُ اسْتِفْتاحٍ وَتَنْبيهِ لِجَذْبِ الأسْماعِ، الْجِلَّةُ جَمْعُ الْجَليل وَهُوَ الْمُسِنُّ مِنَ الْغَنَمِ وَغَيْرِها. يَقولُ: إنْ لَمْ يَكُنْ غِنًى كَالْإبِلِ ، فَبُلْغَةٌ مِنَ الْعَيْشِ تُغْنِي. وَقَدْ شَكَّ الأصْمَعِيُّ بِنِسْبَةِ هذا الْبَيْتِ لِامْرِئِ الْقَيْسِ، مُعَلِّلًا هذا بِأنَّهُ مَلِكٌ، وَالْمُلوكُ لا تَرْضَى إلّا بِرُؤُوسِ الأَشْياءِ وَقِمَّتِها. وهو القائِلُ: مِنَ الطَّويل
فَلَوْ أَنَّ ما أَسْعَى لِأدْنَى مَعِيشَةٍ
كَفاني – وَلَمْ أَطْلُبْ – قليلٌ مِنَ الْمالِ
وهوَ القائِلُ أَيضًا: مِنَ الطَّويلِ
بَكَى صاحِبِي لَمّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ
وَأَيْقَنَ أَنّا لاحِقانِ بِقّيْصَرا
فَقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْنُكَ إَنَّنا
نُحاوِلُ مُلْكًا أوْ نَموتَ فَنُعْذَرا
وَمِثْلُهُ فَعَلَ أبو فِراسٍ الْحَمَدانِيُّ عِنْدَما قالَ: مِنَ الطَّويل
وَنَحْنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِنْدَنا
لَنا الصَّدْرُ دُونَ الْعالَمينَ أَوِ الْقَبْرُ
– وَجادَ لَها الرَّبِيعُ بِواقِصاتٍ
فَآرامٍ وَجادَ لَها الْوَلِيُّ
(جادَ مِنَ الْجودِ، وَهْوَ العَطاءُ الْكَثيرُ، الرَّبيعُ: الْمَطَرُ، الْواقِصاتِ: مَوْضِعٌ، الْآرام: عَلاماتُ الطُّرُقِ الْواحِدَةً إِرَمٌ، الْوَلِيُّ: الْمَطَرُ الَّذِي يَلِي الْوَسْمِيَّ.
– إذا مُشَّتْ حَوالِبُها أَرَنَّتْ
كَأَنَّ الْحَيَّ صَبَّحَهُمْ نَعِيُّ
(مُشَّتْ: مُسِحَتْ بِالْأصابِعِ ، الْحَوالِبُ: الضُّروعُ التي تُدِرُّ اللَّبَنَ. أَرَنَّتِ الْمِعْزَى: ثَغَتْ مِنَ الثُغاءِ.
شَبَّهَ ثُغاءَ الْمِعْزَى عِنْدَ الْحَلْبِ بِضَجيجِ وَصِياحِ قَوْمٍ في صَباحٍ نُعِيَ لَهُمْ فَقيدٌ)
– فَتُوسِعُ أَهْلَهَا أَقِطًا وَسَمْنًا
وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيُّ
(تُوسِعُ: تَمْلَأُ، الْأَقِطُ: طَعامٌ يُصْنَعُ مِنَ السَّمْنِ والْجُبْنِ وَالتَّمْرِ أوِ الْعَسَلِ يَأْتَدِمًُونَ بِهِ مَعَ الْخُبْزِ،
حَسْبُكَ: يَكْفيكَ. وَقَدْ شَكَّ الأصْمَعِيُّ بهذا البيتَ لِلسَّبَبِ الَّذي ذَكَرْناهُ).
وَأنا لا أقْبَلُ اعْتِراضَ الأصْمَعِيِّ هَذا، فَلَعَلَّ امْرَأَ القَيْسِ قالَها في فاقَتِهِ، وَذلِكَ عندَما فارَقَتْهُ الْقَبائِلُ.