مكتبة الأدب العربي و العالمي
دعه يهرب .. بقلم رياض الصالح
احتشدت جموع من الناس حوله بعدما وقع .. كانت العيون ترقبه من كل ناحية .. في تلك اللحظة .. صاحبنا مترنِّحٌ تَعِب .. يحاول جاهداً أن يجمع ما تبعثَر من قُوّتِه المنهارة .. و يحاول أن يوقف ذلك البندول المُتأرجحُ في عينيه .. ليس من أجل شيء عظيم .. فقط .. هو يريد أن يعرف على أي أرض قد وقع .. و أين هو الآن .. و ما مصدر هذا الألم الفظيع .. مع أن جسده كان خالياً من الجراحات ..
كان الصراخ حوله رهيباً .. و الآلام بداخله قاتلة .. و لا أحد يعرف حجم رهابه من الأصوات العالية إلا أعصابه المتوترة و أوتاره المشدودة .. نظر ببؤس يتفحص الجموع .. بعدما استقرّ رأسه من الدوران .. كان معظمهم من معارفه و مقربيه .. فَرِحَ بدايَةً .. لكنه سرعان ما أصابه الذهول .. فالعيون التي كانت ترمُقُه قد تغَيّر رونقها .. أدرك لحظتها أن ليس للعيون لغة واحدة .. بل عدة لغات و لهجات .. بعضها يتطلبه سنينٌ لإتقانها و فهمها .. أما الأيادي الممدودة له.. كانت مشغولة في حمل أثقالٍ خاصة بأصحابها .. حتى الأيادي الفارغة .. كانت مشغولة بفَركِ فراغها ..
كل المشاعر التي تقاطرت على فؤاده تلك اللحظة .. تدعوه للوقوفِ المؤقّت .. و تحُثّه على الهرب .. فأطاعها مستسلماً .. و لم يلتفت إلى الدعوات المختلطة في حدّة جِرسها .. بين مطالب له بالمواجهة و تحمّل المسؤولية .. و بين شامتٍ لم يقدر على إخفاء فرحته .. أو مُشفِقٍ اكتفى بنظرةٍ صامته .. لم يَثبُت في أذنه إلا صرخَة مجهولٍ شتَّت بها جمعهم و هو يجأر بانفعال .. اتركوه .. دعوه يهرب ..
جريان الزمن لا يتوقف .. و صاحبنا يتقلب في مجراه المؤلم بلا ثبات .. كل لحظة كانت تمر عليه.. تعيد تشكيله من جديد .. عرف أن الزمن لا يلتقي بجوهر الإنسان إلا مرة واحدة في الحياة .. فكل لحظة لها شكل و فكر و طبع لا يشابه اللحظة التي قبلها أو بعدها ..
ما أنعمَ الماء و ما أصفاه و ما أجمله .. و هو في ذلك المجرى قبيل السقوط عبر الشلال .. و ما أقسى الشلال و هو يبعثر القطرات ليعيدها إلى أصلها وحيدة بلا شوائب .. و يشتت تناغم ذكرياتها .. و يفكك بضجيجه الصاخب تلك الهيئة الأولى لذلك الانسياب القديم الهاديء .. لكن تلك المفاجآت تزول .. عندما يتحسس الماء هيئته الجديدة .. و موطنه المُتشكل في تلك البحيرة .. لقد أضحى أكثر سكوناً و استقراراً .. و أطول عمقاً .. و أوسع مساحة .. و أبهى صفاءً ..
عرف أن صوت الكون وقتها هو الذي هتف به و بمن حوله .. أن دعوه يهرب .. كان يريده أن يخوض رحلته الخاصة .. و يلاحظ بعينه البصيرة .. تغيراته التي لا تحصى كلما تقلب في ذلك المجرى .. يريده أن يخفف تعلقه بالآخرين .. فهم جميعاً سيرِدون مورده .. و يمشون نفس الطريق .. فلا داعٍ لأية ملامة .. أو تهمة بالتقصير ..
جلس صاحبنا بعدها .. على تلٍّ مرتفع .. يراقب ذلك النهر الطويل من بعيد .. كل ما في ذلك المجرى كان جميلاً .. لوحةٌ سريالية غامضة تُعرَضُ أمامه .. يحتسي فنجان قهوته و هو يشاهدها و يتفحصها و يحللها بدقة .. فيبتسم حيناً .. و يذرف دمعته حيناً آخر .. تخالطه مشاعر أكثر وضوحاً .. و يبهره تلك القدرة الغريبة على الفهم .. و البراعة في الصياغة .. ثم يتساءل .. كيف لو أنه لم يسقط من البداية .. و لم يخض تلك الرحلة .. و لم يعاني ذلك الألم .. كيف سيكون طعم قهوته .. و هل كان ليجلس نفس هذا المكان و يرى جمال هذا المشهد .. أم سيمر عليه مرور الكرام .. أو مرور اللئام ..
# بقلمي
# رياض الصالح