بني إسرائيل لم يكن لهم أي مقدسات في فلسطين، ولا سليمان بنى هيكل في فلسطين لأنهم لم يدخلوها، ولم يدخلوا حتى “الأرض المقدسة ” مكة بصحبة موسى (ع). يورد القرآن الكريم قصة نبي الله موسى مع بني إسرائيل وأحداثها مفصّلة من مصرايم إلى ما بعد الجواز نحو الأرض المقدسة،:﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ ﴾.. ومعلوم ما لاقاه هذا النبي من عنت وعصيان من قومه لا يحتمله إلا أولوا العزم من الرسل، وبعدما امتنعوا عن دخول البيت الحرام عاشوا في التيه أربعين سنة، وعليه فقد تدرج مكان تعبدهم مع مراحل تنقلهم عبر أرجاء الجزيرة العربية، وقد أمرهم النبي موسى بالتوجه إلى الكعبة بيت الله الحرام في صلاتهم أينما كانوا. وسنتناول موضوع قبلة اليهود بإيجاز فيما يلي.
أولا: القبلة في مصرايم:
في خضم التضييق والظلم الذي مورس عليهم من طرف فرعون، أوحى الله إلى نبيه موسى بأن يأمر قومه بالصلاة ليخفف عنهم الكرب، ولما كانت إقامتهم الصلاة علناً مستحيلة في ظل تنكيل فرعون وملائه بهم، أُمروا بأن يتخذوا من بيوتهم مصليات في قوله تعالى:﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 87/يونس. فكانت صلاة بني إسرائيل وهم في مصرايم داخل بيوتهم يقيمونها خفية. لكن ما يزال السؤال؛ أين كانت قبلة هذه البيوت؟
ينقل ابن كثير في تفسير قوله تعالى “واجعلوا بيوتكم قبلة” عن مجاهد قوله:” لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سراً. وكذا قال قتادة و الضحاك” [1] وكذلك نقل الطبري عن مجاهد: بيوتكم قبلة، قال: نحو الكعبة [2].. فالكعبة إذن كانت قبلة بني إسرائيل الأولى منذ عهد إبراهيم (ع)، يتوجهون شطرها عند صلاتهم، واستمروا على ذلك الحال إلى حين خروجهم مع موسى من مصرايم في اتجاه بيت المقدس، تطبيقاً لوعد الله لأبيهم إسرائيل وأبيه إسحاق من قبله، وهنا تبتدئ مرحلة أخرى اتخذوا لها قبلة أخرى.
ثانياً: القبة في التيه:
يطلق التيه في تاريخ بني إسرائيل على الفترة التي قضوها في بلاد الحجاز تائهين لا يهتدون على خروج، منذ خروجهم من مصرايم إلى غاية دخولهم مدينة الجبارين بقيادة يوشع بن نون، وقد لبثوا فيه بنص القرآن أربعين سنة وفيه أنزل الله عليهم المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، وفجر لهم اثنتي عشرة عيناً من الحجر، وفيه مات هارون وموسى. ولما كانت وضعية التيه تنافي حالة الاستقرار، فقد أمر الله تعالى نبيه موسى باتخاذ قبة للعبادة، عين الوحي شكلها و لوازمها وجعل خشب السنط مادة صنعها، جعل فيها مرافق لإقامة طقوس بني إسرائيل، وقد نصبت بين خيامهم وكانوا “يصلون إليها ويتقربون في المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عندها” .
ووردت في العهد القديم باسم “خيمة الشهادة” ومن أسمائها أيضاً “قبة العهد” و “قبة الزمان” وقد كانت متنقلة يحملها بنو إسرائيل في تيههم من أرض إلى أرض، واستمر ذلك مدة أربعة عشر سنة، ثم نقلوها إلى شيلوة عند وفاة يوشع ابن نون، وخَيْمَةُ ٱلشَّهَادَةِ كذا سُميت في (عدد ١٧: ٨) لأنه وُضع فيها لوحا الشريعة التي كانت تشهد بمشيئة الله ولأنها كانت هي نفسها تشهد بحضور الله فيها بين الكروبين (خروج ٢٥: ٢٢(، يَعْمَلَهَا عَلَى ٱلْمِثَالِ، ذكر استفانوس أن نظام الخيمة والهيكل كان بأمر إلهي دفعاً لتهمتهم أنه جدف على الهيكل. وأمر الله لموسى بذلك في (خروج ٢٥: ٤٩). والظاهر أن مراده من هذا الكلام أنه يمكن أن يرضى الله عبادته في غير الهيكل بعده كما رضي أن يعبد في الخيمة قبله.. ٤٥«ٱلَّتِي أَدْخَلَهَا أَيْضاً آبَاؤُنَا إِذْ تَخَلَّفُوا عَلَيْهَا مَعَ يَشُوعَ فِي مُلْكِ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ طَرَدَهُمُ ٱللّٰهُ مِنْ وَجْهِ آبَائِنَا، إِلَى أَيَّامِ دَاوُدَ». (يشوع ٣: ١٤ نحميا ٩: ٢٤ ومزمور ٤٤: ٢ و٧٨: ٥٥ وص ١٣: ١٩) ٱلَّتِي أَدْخَلَهَا ؛ أي الخيمة التي أدخلها الآباء إلى أرض الميعاد. إِذْ تَخَلَّفُوا عَلَيْهَا ؛ أي أخذوها بالوراثة لأنه مات الجيل الأول الذي خرج من مصرايم وقام خلَفه وأخذ الخيمة وأدخلها إلى الأرض المقدسة مَعَ يَشُوعَ قائدهم بعد موسى. فِي مُلْكِ ٱلأُمَمِ؛ أي البلاد التي سكنها الأمم في أرض كنعان. إِلَى أَيَّامِ دَاوُدَ ؛ أي أنهم حفظوا الخيمة وعبدوا الله فيها إلى أيام داود حين طرد اليبوسيين من أورشليم فتكون مدة الخيمة نحو خمس مئة سنة أيام موسى إلى نهاية ملك داود.
واستمرت القبة على ذلك الحال إلى أن نقلها سليمان (ع) إلى مسجده الذي بناه و يسمونه الهيكل. وهيكل سليمان هذا كان في عاصمته أورشليم باليمن كما أوضحنا، حيث قطع الطريق من الجنوب إلى الحجاز شمالاً ماراً بوادي النمل ووادي السديرة قرب الطائف حتى وصل مكة وحررها من العماليق، وكان هذا هو الدخول الأول للأرض المقدسة “البيت المُقَدَّسْ” التي لم يتمكن موسى من دخولها بسبب تقاعس بني إسرائيل.
تعرض هيكل سليمان باليمن للهدم أكثر من مرة، كانت أولها على يد نبوخذ نصر 587 ق م حينما اجتاح كل مناطق الجزيرة العربية واكتسح ممالك اليهود )السمرا ويهوذا وبقايا مملكة داود وسليمان باليمن جنوباً)، حيث تم هدم كل معابدهم وتدنيس مقدساتهم وتم سبيهم خلال ما عُرف بالسبي البابلي. وبعد تحريرهم من السبي البابلي عادوا وتجمعوا في فلسطين بدلاً من موطنهم الأصلي، وحاولوا إعادة إحياء هيكل سليمان في هذه المنطقة الجديدة، ثم بعدما عادوا من السبي البابلي بدؤوا في تشييد هيكل رمزي في فلسطين على نموذج هيكل سليمان القديم باليمن، لكنه هُدم على يد المكدونيين إثر ثورة اليهود ضدهم، ثم هدم للمرة الثالثة، على يد الرومان سنة 70 للميلاد، وجعلوا مكانه مطرحاً للقمامات إلى أن فتح المسلمون إيلياء، فلم يهدموا بيتاً ولم يطرحوا قمامة، وإنما أمر الخليفة عمر أن يكنس مكان الصخرة فبنى قربها مسجداً اعتنى الوليد بن عبد الملك برفعه والاحتفال في بنيانه لما بنى مسجد قبة الصخرة .وكانت هذه الصخرة يضعون عليها التابوت للصلاة بعدما هُدمت معابدهم ولهذا قدسوها واستقرت في وجدانهم واعتبروها موطن الهيكل ! برغم أن هذا ليس منطقاً بأي حال، فلا عقل يقول أن أحداً ضاقت به الدنيا ليبني هيكل في مكان به صخرة مثل هذه دون إزالتها وتمهيد الأرض.
غير أن اليهود بعد سليمان فقدوا البوصلة العقائدية إلى الأبد، فلم يعودوا يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة “بيت المقدس” أو “البيت المُقَدّس” وإنما صاروا يتجهون إلى الخيمة أو القبة، وبعدما فقدوها اتخذوا صخرة يضعون عليها التابوت، وبعدما فقدوا التابوت اتخذوا صخرة رمزاً، وكانت آخر هذه الصخور هي الصخرة الموجودة حالياً (داخل مسجد قبة الصخرة)، وهي إشارة عجيبة لتقديس المسلمين عقيدة اليهود القائمة على الوهم![3]فمن الضروري تغيير اسم هذا المسجد العظيم وإزالة هذه الصخرة وتنظيفها من الداخل وتهيئته للصلاة، والمشكلة أنها ليست هي قبلة اليهود، فاليهود لا يتوجهون اليوم في صلاتهم إلى مسجد قبة الصخرة الذي بداخله الصخرة إنما يتوجهون ناحية الوهم الذي قالوا أنه كان مكان هيكل سليمان الذي كان مكان ” البيت المقدس !، وأما المسيحيون فيتوجهون في كنائسهم ناحية الشرق )قبلة فلكية)، هكذا تم بناء معابدهم، وكنائسهم. وهذا في مجمله يعني أنه لا قيمة لهذه الصخرة في الإسلام ولا حتى في التوراة سوى كونها كانت محطة مؤقتة اتخذها اليهود متكأً ليضعوا عليها تابوت الألواح ويجعلونها أمامهم في الصلاة، دون أن تكون هي بذاتها قبلة.
وعندما جاء الإسلام وبدأ النبي محمد (ع) بالصلاة تجاه الكعبة، فكان النبي محمد يتجه في صلاته في الفترة الأولى إلى الكعبة قبلة الأنبياء جميعاً، وأسوة بالنبي إبراهيم، وهكذا كانت عبادة بعض العرب اليهود والمسيحيين الذين كانوا يتعبدون في غار حراء مثله بعيداً عن الكفر والزندقة، كان غار حراء معتكف للعابدين من النصارى والحنيفيين، ولم يكن هناك قبلة سوى الكعبة. وكان باقي العرب يقدسون الكعبة ويستقبلونها أيضا بعبادتهم الشركية ويحجون إليها، لكن نظراً لانتشار الشرك والكفر والفساد العقائدي، وانصراف اليهود عنها في صلاتهم إلى اتجاه الشام، فأراد الله أن يبتلي (يختبر) المؤمنين من المنافقين واليهود فأمر نبيه محمد بإدارة القبلة تجاه الشمال مع اليهود ليعلم المؤمن من المشرك والمنافق الذي يستقبل الكعبة على كفره. واستمر ذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، ولم يكن النبي راغباً في هذه القبلة، لكنه استمر تنفيذاً لأمر الله، ولو كان الموضوع برغبته لانصرف إلى الكعبة مباشرة، إنما كان تغيير القبلة بأمر مباشر من السماء دون رغبة النبي، ولما اختبر الله الناس عاد وقال لنبيه:﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾144/البقرة .. إنما لو كان تغيير القبلة إلى الشام برغبة النبي، فما كان في حاجة إلى تقليب وجهه في السماء هكذا، ولما قال الله له: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾
فهذا يدل على أنه كان يستقبل قبلة لا يرضاها، وهي ليست الكعبة بدليل أن الأمر نزل ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وهي الكعبة التي يرضاها مسبقاً، إنما كان التوجه ناحية الشمال مجرد اختبار للعرب، ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾143/البقرة، اقرأ:﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا﴾ كلام عن قبلة في الماضي وهي ليست محل رضا النبي، وقوله (جعلنا: يؤكد أنها لم تكن باختيار النبي وإنما كانت بالأمر المباشر) وهذا الأمر جعله الله ابتلاء وامتحانا لأتباع النبي حينئذ ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾.
والملاحظ أن الأمر بتغيير القبلة من الكعبة التي كان يستقبلها النبي بصلاته بداهة إلى جهة غيرها أتى خارج النص القرآني وذلك لأنه أمر ظرفي مؤقت وليس ثابتاً، وأما الأمر بالرجوع إلى القبلة الأولى فجاء واضحاً ظاهراً في النص القرآني لأنه أمر ثابت سيتمتع بالديمومة والاستمرارية، وقد أوضح معه الغاية من وراء التدوير الاستثنائي الذي حدث في القبلة. فالقبلة الأولى هي الكعبة، والثانية هي الشام، وبعدها رجعت القبلة الأولى (الكعبة)، وهذا ينسف نظرية النسخ في القرآن التي طالما نادى بها السلف الصالح، وقالوا أن أول نسخ في القرآن كان هو نسخ القبلة ! فالأمر بتدوير القبلة للشام جاء خارج النص القرآني، ما يعني أن النسخ كان لما هو خارج النص وليس هناك في القرآن نسخ إطلاقاً، إلا لمن أراد تعطيل بعض آيات القرآن !
وجهة الشمال للمدينة المنورة جغرافياً يحدها امتداد أرض الحجاز والأردن وقسم من العراق، وسورية، أما فلسطين؛ فهي في جهة الشمال الغربي بالنسبة للمدينة. انظر للخبر الذي أورده البخاري ومسلم في صحيحهما، عن ابن عمر قال:(بينما الناس بِقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن النبي قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة). أي لم تكن الصخرة هي قبلتهم وإنما الشام وهذا ما تؤكده حقيقة أن الصخرة ذاتها ليست قبلة اليهود وإنما اتجاه الشمال، فاتخذ الله من اتجاه الشمال هذا حجة واختبار لليهود إن كانوا سيؤمنون.
ويذكر الهمداني مواضع العبادة في جزيرة العرب في صدر الإسلام فيقول:” هي مكة، واللاّت بأعلى وادي نخلة، وذو الخلصة بناحية تبالة، وكعبة نجران، وريام في بلد همدان” ويظهر من هذا النص الذي أورده الهمداني أنه لم يتحدث عن أي قدس، بالرغم أنه يتحدث عن مواضع العبادة في صدر الإسلام، وهذا دليل واضح أن العرب جميعاً لا يعرفون قدساً أرضياً غير البيت الحرام، ويعترفون بأنه البيت الذي وضعه الله لجميع الناس، والقرآن الكريم قد حسم مسألة المواضع الحقيقة للعبادة الحقة حين أعلن أن البيت الحرام بمكة هو القبلة الوحيدة لله في الأرض في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾96/آل عمران، والقرآن الكريم أيضاً قد حسم مسألة البيت الوحيد الذي رفع قواعده إبراهيم الخليل (ع)، وأكد القرآن الكريم أن إبراهيم (ع) لم يبن بيتاً غيره كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ 127/البقرة، فهذه الآية قد تحدثت عن بيت وحيد، فلو كان هناك بيتان أو قبلتان لذكرتهما هذه الآية، وهل جعل الله لإبراهيم قبلة غير الكعبة؟ وهل جعل لأحفاده الإسرائيليين قبلة غير الكعبة؟ لكن من المعروف أن اليهود لم يكن لهم قبلة وإنما كانت الصخرة يضعون عليها تابوت الألواح ويستقبلونها في آخر مرحلة استقروا وتجمعوا فيها في فلسطين بعد القرن الثاني قبل الميلاد.
فهل بعد هذا يمكن القول بأن لله قبلة أخرى؟ هي تلك الصخرة التي ابتدعها اليهود في فلسطين؟ فالله طالما تحدث عن بني إسرائيل في كثير من آيات القرآن وأفاض في الحديث عن طور سينا والوادي المقدس طوى وعن الوصايا العشر للتوراة، فهل تحدث عن قبلة لليهود غير البيت الحرام ؟ فالموضع الوحيد الذي أشار فيه القرآن لقبلة اليهود أفصح فيه بكذب اليهود وتزويرهم وأنهم يعلمون ما يفعلون؛ ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾
لما كان أبو الأنبياء مكلفاً بالحج والصلاة لبيت الله الحرام، ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقاً لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا (يعايرونهم بجهلهم وضلالهم) فلما جاءهم (الإسرائيليين) ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين… ولما كان القرآن مصدقاً لما بين أيديهم، ويأمر بالحج والصلاة للكعبة، فهذا يحتم أن صلاتهم تجاه الشمال تزوير وتحريف لشريعة الله الواحدة، وأن الأصل في الإسلام والتوراة والإنجيل هو الصلاة والحج للكعبة وليس الشمال والشرق، وكل ما في الأمر أننا نضطر للاعتراف بشرعية صلاة اليهود تجاه الشمال تجنباً للقول بأن الرسول محمد كان يصلي خطأ في بداية الدعوة، لكن في الواقع أنه كان يصلي خطأ بالفعل، لأنه صلى بداية الأمر تجاه الكعبة، ثم تحول بأمر إلهي لاختبار كلا الفريقين، اليهود والعرب المنافقين، ثم كشف الله له أن ذلك ليس صحيحاً وإنما من تزوير اليهود، وأمره بالعودة إلى بيت الله الوحيد، أي أن موضوع القبلة هذا ما كان إلا محض مناورة مع اليهود والمنافقين ليسد عليهم باب الحُجج وليطهر قلوبهم.
قال صاحب الظلال:” فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي.. ولمَّا كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم.. فقد نزعهم نزعاً من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه – فترة- إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعاً مجرداً من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازاً بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير، أي تلبس من قريب أو من بعيد..”[4]
والدليل قوله تعالى:﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿144﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾145/البقرة، ففي عجز الآية الأولى يوضح ربنا أن اليهود يعلمون أن القبلة هي بيت الله الحرام وأن الله ليس بغافل عما يعملون من تزوير وتحريف، وفي عجز الآية الثانية نجد الله تعالى يحذر نبيه الكريم من اتباع قبلتهم بوصفها من أهوائهم ولا يجوز اتباعها بعدما ظهر من الحق. ويقول تعالى:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿146﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿147﴾ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿148﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿149﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ 150/البقرة.. أي ليس المسجد الحرام قبلة جديدة للعبادة والصلاة إنما هو الحق من ربك، وما سواه باطل باطل.. لكن اليهود جعلونا نحتفل بهذا الباطل باعتباره (أولى القبلتين) !! بينما كان ذلك في مرحلة مؤقتة فقط لابتلاء قوم معينين.
ومن الملاحظ أن جميع الآيات القرآنية التي تتحدث عن البيت الحرام لم تكن في حاجة إلى التفريق بين البيت الحرام وغيره من البيوت التي زعم البعض أنها قبلة، فقد جعل الله الكعبة البيت الحرام الوحيد كما قال تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس)، والمعنى هو أن الله قد صير البيت الحرام قبلة بعد أن خلق السموات والأرض، والمعنى أيضاً أن الله قد جعل للناس كل الناس الكعبة بيته الحرام كما جعل البيت المعمور وجهة للملائكة ونلاحظ أن الآيات القرآنية قد أشارت إلى بيت واحد وقبلة واحدة فقط، ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ ..﴾، وقوله تعالى: ﴿وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي..﴾،وقوله تعالى: ﴿وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا..﴾
ومن المعلوم بالضرورة عند كل مؤمن موحد أن هناك صله قوية بين توحيد الله وبين وحدة القبلة، ولهذا فقد أخبر الحق سبحانه بأن السفهاء من اليهود سيشاغبون على المؤمنين في شأن القبلة والبيت الحرام، والتي ثبت بأدلة القرآن الكريم أنه لا قبلة غيرها، فقد ثبت بطلان خرافات اليهود والنصارى التي تزعم أن مدينة القدس قبلة ثانية، أو أنها القبلة الأولى كما زعم كعب الأحبار، وصار المسلمون يتغنون بعده بأولى القبلتين ! إن اختلاف القبلة بين الناس في العصور المختلفة لم يكن سوى اختلاف على أمرين الحق والباطل، فقبلة منها كانت الحق وغيرها من القبلات كانت الباطل، هذا ما يمكننا فهمه من ما ورد في القرآن .
كل هذه الأدلة والتبيان كي نصل إلى نتيجتين؛ الأولى مفادها أنه ؛ لا قدسية في فلسطين لا لليهود ولا للمسلمين، ولا يوجد شيء اسمه (أولى القبلتين، إنما كانت هي مرحلة تحدي من الله لليهود والمنافقين بالسير على نهجهم الباطل لحظة لإفساد حججهم فقط، فقد منحهم الفرصة حينما قالوا لو استقبل محمد قبلتنا لاتبعنها، فأراد الله أن يعطيهم الفرصة، لكن ذلك لا يجعل من هذه الفرصة فرصة لليهود كي يركبوا بها المسلمين على مدار التاريخ ويقتنصوا منهم دليل اعتراف بأن إيلياء كانت قبلة أولى للنبي محمد. وأما النتيجة الثانية؛ وهي أنه لا قدسية لليهود في فلسطين، وهي ليست قبلة لهم، ولا يوجد سوى الصخرة التي زعموا استخدمها موطئاً للتابوت حين الصلاة، وهذا يعني بوضوح أنه لا يوجد مسجد أقصى في فلسطين ولا بيت مقدس ولا غيره.
[1] – تفسير القرآن الكريم – تفسير ابن كثير – على الرابط :
http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura10-aya87.html
[2] – تفسير القرآن الكريم – تفسير الطبري – على الرابط :http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer-tabary/sura10-aya87.html#tabary
[3] – ولا شك لدينا في أن من تطوع وأشار على عبد الملك ابن مروان بإنشاء هذه القبة حول الصخرة هو شخص يهودي حتى النخاع استغل الخلاف الذي وقع بين الزبير وعبد الملك في الحط من قيمة الكعبة بإنشاء نموذج منافس لها في إيلياء، والغريب أن يكون هذا النموذج المنافس للكعبة هو صخرة اليهود ذاتها ! … فالواقع أن العرب كانوا أمة بربرية همجية لا دين لهم من أولهم آخرهم، ودينهم فقط هو القتل والسياسة، ولهذا فعلوا ما فعله اليهود، لعبوا بدينهم في السياسة وبالسياسة في الدين، ما فتح الباب لليهود لتوجيه البوصلة الدينية الإسلامية بمؤشر يهودي سياسي وليس ديني حتى ! [4]))- صاحب الظلال (1/126-127)
يُتبع …
بقلم/ #الباحث_محمد_مبروك #من_كتاب_مصر_الأخرى
#مصر_الأخرى_في_اليمن
#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني..
(رابط الكتاب على نيل وفرات).
https://tinyurl.com/25juux8h
(رابط الكتاب على أمازون).
https://2u.pw/124aO