مقالات

رؤية * 4 هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –

* السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة: “التدجين الدعوي: هندسة الطاعة باسم النّص”
* عنوان المقالة: “التفسير الانتقائي: هل يُسوّق النص للسلطة؟” (4)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* بين قداسة النص وشهوة الهيمنة
حين يُنتزع النص الديني من سياقه الشمولي، ويُفصّل على مقاس السلطة، يصبح أداة طيّعة لإنتاج الطاعة وتبرير القهر، هنا لا تُزوّر الكلمات، بل يُزوّر ميزانها، ويُختزل النص في زوايا تخدم الغرض السلطوي، ويُهمّش كل من ما يعارضه، هذا هو التفسير الانتقائي، الوجه “الشرعي” لتدجين الوعي.
* التفسير الانتقائي: حين يصمت النص الناقد
السلطة، بطبيعتها، تنزع إلى الاستقرار والسيطرة، وقد تجد في النصوص الدينية معينًا لا ينضب من المفاهيم التي يمكن إعادة توظيفها: الطاعة، الصبر، الفتنة، الجماعة، درء المفسدة وما إلى ذلك من المفردات… كلّها مفاهيم صحيحة في أصلها، لكنها حين تُنتقى دون قريناتها من النصوص التي تفضح الظلم وتأمر بالعدل وتُقرّ بحرية الكلمة، تتحول إلى سلاسل توثق الناس باسم الدين.
ولذلك، فالسؤال هنا لا يجب أن يكون: “ماذا قال النص؟”، بل: “لماذا قُرئ النص بهذا الشكل؟ ولماذا سُكت عن سواه؟”. فالسكوت الانتقائي يضاهي النطق المُضلّل في الأثر.
* توظيف الخطاب الديني: سلطة تُعيد تشكيل الإيمان
في فضاءات الطغيان، لا تكتفي السلطة بتكميم الأفواه، بل تمتد لتشكيل الضمائر، وهنا يأتي دور بعض الدعاة، حين يُصبح التفسير الانتقائي منهمكًا في صناعة خطاب يشرعن الواقع، لا في نقده. فالحاكم العادل يُوصَف في خطبهم، لكن دون أن يُسأل الحاكم الموجود عن عدله. والظلم يُذمّ، لكن كشيء مجرّد، لا كسياسة يومية تمارسها السلطة.
هكذا، يتحول التفسير من جهد علمي إلى وظيفة سياسية، وتُصبح الآية ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ (النساء: 59) مطيّة لتأليه الحاكم، وتُنسى آيات القصاص، والعدل، والنهي عن الركون إلى الظالمين، وكأن القرآن جزء منه يصلح للمنبر، وجزء آخر مكانه الخفاء.
* مجتمع مخصيّ الوعي
النتيجة أن المجتمع يُربّى على طاعة مفرغة من شروطها، وعلى صبر لا يسنده أمل بالتحرر، وعلى دين منزوع النقد، يفقد الناس القدرة على التساؤل، لأن من يعترض يُصوَّر كخارج عن الصف، أو ناقم على الدين، وهكذا يتماهى الدين مع النظام، ويُقاس الإيمان بمدى الولاء لا بمدى اتباع الحق.
ولعل أخطر ما في التفسير الانتقائي أنه يمنح الغطاء الشرعي للعجز، ويحوّل الإحباط العام إلى فضيلة، والسكون إلى عبادة، والاستسلام إلى حكمة. وهذا تمامًا ما تريده الأنظمة؛ شعوب تخاف من السؤال، وتكتفي بالأجوبة المعدّة سلفًا، مغلّفة بالنصوص، لكنها مفصولة عن روح الوحي.
* العودة إلى ميزان النص لا إلى ميزان السلطان
لا يُعاب على التفسير أن يكون متعدد الأوجه، فذلك من سعة النص، لكن يُعاب عليه أن يكون خادمًا لوجهة واحدة، تُفرض قسرًا باسم الدين، والمطلوب هنا أن نُعيد الاعتبار للمنهج، لا للأهواء، وأن نقرأ النصوص كما أُنزِلت: حاكمة على الواقع، لا محكومة به.
فالنص القرآني لم يُنزّل ليجمّل وجوه الطغاة ويحمي مناصبهم ويحافظ على كراسيهم، بل ليقيم القسط بين الناس، وإن إعادة امتلاك أدوات الفهم، وتحرير التفسير من هيمنة البلاط. فهذه ليست مجرد مهمة علمية، بل واجب أخلاقي، تبدأ من رفض السكون والسكوت والركون باسم اليقين، وتنتهي بقراءة الدين بعين الحق لا بعين الحاكم… أليس كذلك يا سادة يا كرام؟.. ولكم منّي كل تحية وسلام.

• -عنوان مقالة الغد إن شاء الله: ” المنبر بين الحرية والتقييد: واقع الخطباء والدعاة ”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أبناء شعبنا وأمتنا، وجمعة مباركة
* مقالة رقم: (1969)
* 25. ذو القِعدة . 1446 هـ
* ألجمعة . 23.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق