مقالات

* أعطِ من وقتك ثلاث دقائق لتستفيد الكثير الكثير رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – سلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة حول: (أدبِ الخِلاف في الإسلام)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

* الخلاف المذهبي: كيف نحفظ الوُد مع بقاء التمايُز؟ (11)
– من سنن الله في الخلق أن تختلف العقول والأنظار، وتتعدد الفهوم والاجتهادات، ولهذا كان الخلاف المذهبي في الفروع الفقهية واقعًا لا مفر منه، لكنه خلاف داخل دائرة الإسلام، وهو ليس شرًّا كله، بل فيه الخير إذا ضُبط بضوابطه، وخضع لأدب العلم، وحُفظ فيه الودّ مع بقاء التمايز.
– لقد نشأت المذاهب الفقهية الكبرى على أيدي علماء مخلصين، اجتهدوا في فهم النصوص، وانطلقوا من أصول علمية متينة، وتلامذتهم دوّنوا اجتهاداتهم، وعمّروها عبر القرون، فصارت مذاهب معتبرة ومناهج فقهية راسخة، فيها ثراء الفهم وسِعة الاختيار، ومرونة التطبيق، دون أن يعني ذلك أن أحدها معصوم من الخطأ أو مكتفٍ عن الاستدراك.
– غير أن الذي نراه في بعض البيئات الإسلامية اليوم من تعصب مذهبي، أو إقصاء للمخالف، أو تهوين من اجتهادات المذاهب الأخرى، أمر ينافي روح الشريعة ومقاصدها، ويسيء لتراث علمائنا الكبار، ويقطع أواصر المحبة بين المسلمين، في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى الاجتماع والتعاضد.
– إن الحفاظ على الودّ لا يعني تذويب التمايز أو الإنكار على المخالف، بل يعني أن يكون الخلاف وسيلة للتعلم والتكامل، لا للاتهام والتفريق، فكما قال الإمام القرافي: “الاجتهاد لا يُبطل باجتهاد، والمخالف في الفروع لا يُبدَّع ولا يُفسَّق”، وقال الإمام النووي: “ليس للمجتهد أن يُنكر على مخالفه في المسائل الاجتهادية”.
– إننا بحاجة إلى تربية تُعلّم الأجيال أن الخلاف الفقهي لا ينبغي أن يتحول إلى خلاف قلبي، وأنّ لكل مذهب أصوله، وأنّ من اتبع مذهبًا بأدبٍ وورع، فهو مأجور، ولا يجوز الحطّ منه ولا ازدراء اختياره، كما أن من الإنصاف الاعتراف بأن كل مذهب فيه من القوة والضعف، والرجحان والمناقشة، ما يجعل التعصب له علامة على قلة الفقه، لا على كماله.
– ومن المؤسف أن بعض محاولات التقريب بين المذاهب تنتهي إلى دعوات للتمييع أو لتجاوز الثوابت، فيفقد التقريب معناه، ويزداد الشقاق بدلاً من أن يُردَم، فالتقريب الحقيقي لا يكون بإلغاء التمايُزات العلمية، بل يكون بإحياء أدب الخلاف، واحترام الاجتهاد، واستحضار وحدة المقصد، إننا لسنا بحاجة إلى مذهب واحد، بل إلى قلوب واسعة تتقبل تعدد المذاهب، وعقول ناضجة تُفرق بين الأصول والفروع، وبين الخلاف السائغ والانحراف عن الجادة.
– إن التمايز المذهبي لا يُعدّ شرًّا ما دام تحت مظلة الإسلام الجامع، بل هو دليل على رحابة هذا الدين، واتساع أفق الاجتهاد فيه، وقد قال الشاطبي: “الاختلاف في الفروع رحمة وسَعة، ورفع للحرج عن الأمة”، ولكن الرحمة لا تكون إذا غابت المحبة، والسعة لا تُثمر إذا غاب احترام المخالف.
– فحفظ الودّ يبدأ من التربية العلمية التي تغرس في القلب أن الحق لا يُحتكر، وأن المخالف قد يكون معه الصواب وأنت لا تدري، ويكتمل بالحوار الهادئ، وقراءة كتب المخالفين بنَفَسٍ متفهم، ونقل آرائهم بعدل وأمانة،
وإذا تأملنا واقع علماء المذاهب الأربعة وجدناهم أكثر الناس احترامًا لبعضهم رغم الاختلاف، فالإمام أبو حنيفة دعا تلامذته لتيسير الفقه على مذهب الشافعي، والشافعي ترحّم على الإمام مالك وقال: “إذا ذُكر العلماء فمالك النجم”، وأحمد بن حنبل قال عن الشافعي: “ما تحت أديم السماء أعلم من الشافعي”.. ومقالة الغد ان شاء الله سوف أفردها لنتعرّف على نماذج من خلافات العلماء.
الخلاصة:
إننا لا نُطالب بإلغاء المذاهب، ولا بتوحيد الاجتهاد، بل نطالب بفقه التعايش المذهبي، حيث يُحترم المخالف، ويُحفظ الودّ، وتبقى الخصوصيات، ويُتقبّل التنوع باعتباره من مظاهر سعة هذا الدين، ولن ننجح في ذلك إلا إذا جمعنا بين وضوح المنهج، وسمو الخلق، وصدق النية… ولكم مني التحيّة والسلام
• عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “نماذج من أدب الخلاف عند العلماء”

• اللهم احقن دماء المسلمين واجعلهم أذلة على أنفسهم أعزة على الكافرين.
* مقالة رقم: (1929)
* 14. شوال . 1446 هـ
* ألسبت. 12.04.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق