ثقافه وفكر حر

محمد بن مفتاح رسام يقيم بين اليومي والأسطوري

فنان يغص عالمه بكائنات تجتمع لأول مرة على سطح تصويري غير أنها سبق لها وأن اجتمعت في الخرافات.

الرسم باعتباره عملا روحيا يجمع بين التقنية الغربية والرؤية الشرقية

ليس من اليسير أن يجمع الرسام بين التقنية الغربية والرؤية الشرقية. يحلم الكثير من الرسامين العرب بأن يصلوا إلى ذلك المستوى الرفيع من الأداء وهم يفكرون في الهوية. تلك مشكلة بدأت في خمسينات القرن الماضي ولم تكن الحلول إلا وصفات جاهزة.

قلة من الرسامين العرب سعت لأن تعيد المحاولة بعد أن هربت الغالبية في اتجاه التجريب الفني الغربي. من بين تلك القلة يقف التونسي محمد بن مفتاح في المقدمة. بل قد تعتبر تجربة هذا الرسام هي الأهم في ذلك المجال في المشهد الفني العربي المعاصر. يقول الرسام في حوار مع نجاة الذهبي “أن أتعلم كيف أسكن في الرسم وأن يسكن الرسم في من خلال إتقان التفاصيل الدقيقة وغير المرئية. بيني وبين الفن أسرار روحانية ركيزتها قدرتي التامة على إتقان الرسم”.

تلك ملاحظة مهمة ستوضع بين قوسي تجربة الفنان الذي يؤكد على مفهوم إتقان الرسم وهو مفهوم يتوزع بين التقنية والرؤية. وليس صدفة أن يكون الجسد الأنثوي هو المختبر التجريبي الذي اختاره بن مفتاح ليكون المجال الحيوي الذي يتحرك فيه. سيجد أن كل الأسئلة الوجودية متاحة هناك كما أن الرسم سيحقق نوعا من الارتجال الذي يكون بمثابة عامل مشترك يزاوج بين عالمين متناقضين.

فإذا كان بن مفتاح يرسم بمنظور غربي فإنه في الوقت نفسه يُخرج الجسد الأنثوي من دائرة ذلك المنظور ليرسمه بطريقة تلامس السطح كما لو أنه جزء خطي منه من غير أن يطوي غواياته في أبعاده الحسية المثيرة. غواية الجسد مرسوما هي غير غوايته الحقيقية.

جسد المرأة لغز غامض

 

بن مفتاح يعرف كيف يقودنا إلى أسرار الجسد الأنثوي من خلال طريقة شرقية في النظر
بن مفتاح يعرف كيف يقودنا إلى أسرار الجسد الأنثوي من خلال طريقة شرقية في النظر

 

يعرف بن مفتاح كيف يقودنا إلى أسرار الجسد الأنثوي من خلال طريقة شرقية في النظر. ذلك يشير إلى مفهوم خاص للجمال لا علاقة له بما يثيرنا بصريا. لا تخفي طريقته في الرسم جمال المرأة بل تعززه من خلال الكشف عن معانيه الخفية. “علينا أن نتفق أنه لغز غامض. جسد المرأة” لم يقل بن مفتاح ذلك بشكل مباشر غير أن رسومه قالته.

ذلك الكيان المبهم تعلم بن مفتاح أن يرسمه بالأسلوب الغربي غير أنه ظل حريصا عبر خمسين سنة من الرسم على أن يمنحه القدرة على تنفس هواء مختلف. ذلك هو الهواء الذي تنفسه الفنان نفسه.

بن مفتاح يرسم بمنظور غربي، إلا أنه في الوقت نفسه يُخرج الجسد الأنثوي من دائرة ذلك المنظور ليرسمه بطريقة تلامس السطح كما لو أنه جزء خطي منه

ولد بن مفتاح في  تونس عام 1946. عام 1966 حصل على الدبلوم من مدرسة الفنون الجميلة بتونس. بعدها مباشرة ذهب إلى باريس ليدرس حتى عام 1970 تقنيات الحفر الطباعي في المدرسة العليا للفنون الجميلة. عام 1973 أقام في الحي العالمي للفنون بباريس. منذ عام 1974 وهو يدرس الفن في المعهد التكنولوجي للفن والهندسة المعمارية والتعمير بتونس.

أقام أول معارضه الشخصية عام 1971 في قاعة يحيى بتونس عرض فيه رسوما مائية وطبعات غرافيك. بعده أقام أكثر من عشرة معارض شخصية.

من بين عناصر الرسم يولي بن مفتاح الخط اهتماما استثنائيا. تلك مهنة الحفار التي تتخطى السطح التصويري إلى ما تحته. وهو ما يقود إلى التنقيب عن جذر الشكل الذي يقع خارج منطقة الغطاء اللوني. ذلك ما أضفى على عالم بن مفتاح نوعا من الصرامة في مواجهة اليسر الذي يمكن أن يسببه التعامل مع الأشكال بالاستعانة بالأصباغ. لقد اعتمد الرسام مفهوم الشكل الخام لكي يصل من خلاله إلى جوهر المعاني الوجودية التي تطرحها أعماله. التعبير الأمثل عن تلك المحاولة يكمن في مقولة الرسام “يبدأ الفن من قدرة اليد على التنفس”. وهنا حلت اليد محل العين. اليد التي تفكر وتتخيل وهي في الوقت نفسه تملك الكثير من الحلول الجمالية.

ما يصحّ على الشكل الخام لا يصح على الخط الخام. فالخط يشكل أساسا متينا لما تُقام عليه من أشكال وهو بذلك لن يكون المادة التي يتم تداولها على مستوى النظر. صحيح أنه يُرى غير أنه في الوقت نفسه لا يكتفي بوجوده بل يجذب إليه باقي العناصر لتكون اللوحة مسرحا.

اللوحة المسرح. ذلك مصطلح يمكن من خلاله اختزال عالم بن مفتاح. ذلك واحد من أهم مفاتيح ذلك العالم المليء بألغاز الحكايات التي لم يروها أحد بعينه، بل روتها شعوب.

الذهاب إلى القاع

 

في غير لوحة سعى الرسام لبعث الحياة في الخلوات النسائية. ذلك المجال السري الثري بعجائب خياله وموهبة لغته
في غير لوحة سعى الرسام لبعث الحياة في الخلوات النسائية. ذلك المجال السري الثري بعجائب خياله وموهبة لغته

 

بين اليومي والأسطوري كانت موضوعات بن مفتاح تتنقل بخفة وقد تجمع لوحة واحدة بينهما من غير أي شعور بالتناقض. لا لدى الرسام ولا لدى المتلقي الذي سيكون في وضع بصري يسمح له بتلقي المفاجآت المدهشة وهو على قناعة بأن ما يراه إنما يشكل بحثا عن أصول الحكاية وليس الحكاية.

يقول بن مفتاح “لا أهتم بالموضوعات الوجودية في المطلق. كل الموضوعات يمكن أن تُرسم في التفاصيل الصغيرة الصعبة” يخاطب نجاة الذهبي قائلا “انظري إلى كل الأيدي التي أرسمها وستكتشفين خشونة الحياة”.

في غير لوحة سعى الرسام لبعث الحياة في الخلوات النسائية. ذلك المجال السري الثري بعجائب خياله وموهبة لغته المحلقة التي تكسب العادي طابعا خارقا. على خطى ديلاكروا يسير الرسام التونسي ليتمكن من أن يحيل كائناته إلى ممثلات يتشبّهن بالشخصيات الواقعية غير أنهن لا ينتسبن إلى الواقع بل إلى الرسم.

ذلك عالم يُرسم ويزداد غنى من خلال الاستمرار في الرسم. وهو مسرح استعراضي ليست الحكاية فيه إلا الجزء الأقل قيمة. لا يمكننا حين ننظر إلى رسوم بن مفتاح أن نفكر في الحكاية إلا إذا شئنا تضييق العلاقة والإفلات من المنظور العمودي للتجربة البصرية. أعمال هذا الرسام تجرنا إلى قاع، يفكر الرسام في نشوة الوصول بمتلقيه إليه.

الروح النقية وهي الخاتمة

 

بن مفتاح لا يستلهم الموروث الشعبي جماليا بقدر ما يحاول أن يضع مفردات ذلك الموروث في مكانها الواقعي
بن مفتاح لا يستلهم الموروث الشعبي جماليا بقدر ما يحاول أن يضع مفردات ذلك الموروث في مكانها الواقعي

 

عالم بن مفتاح يغص بكائنات تجتمع لأول مرة على سطح تصويري غير أنها سبق لها وأن اجتمعت في الخرافات. وإذا ما كان الرسام يهتم بالعلامات والإشارات التي تكشف عن منابع الإلهام ذات الأصول الأمازيغية فإنه ينفي شبهة التقرب من الموضوعات الفلكلورية. إنه يحتفي بالعلامات من جهة قدرتها على الإحالة إلى وضع إنساني متأزم وليس تعبيرا عن حالة جمالية.

الاستعراض الذي تشهده اللوحة يجسد لقاء بين متناقضات تقف عند خطوط بدء مختلفة في سباق لا زمن له. ذلك ما يشير بشكل مؤكد إلى أن الرسام لا يسكن في إطار هوية بعينها

بن مفتاح لا يستلهم الموروث الشعبي جماليا بقدر ما يحاول أن يضع مفردات ذلك الموروث في مكانها الواقعي كونها مصادر إلهام للتفكير. يقول “نحن أجزاء معاصرة من حيوات موغلة في القدم. وظيفة الفن هي إحياء ماضينا الذي لا نعلمه” الرسم يشبه المبارزة. غير أن الخصم فيه مجهول الهوية. وهو على العموم يعيش في الماضي. رسوم بن مفتاح لا تقوم على فكرة إحياء الماضي بتلك الطريقة الدعائية الفجة. فالرجل لا يبحث عن هوية. ليست لديه مشكلة هوية.

الاستعراض الذي تشهده اللوحة إنما يجسد لقاء بين متناقضات تقف عند خطوط بدء مختلفة في سباق لا زمن له. ذلك ما يشير بشكل مؤكد إلى أن الرسام لا يسكن في إطار هوية بعينها ولا يتخذ من الرسم وسيلة للوصول إلى تلك الهوية.

وحين يقول “لا وجود لمواد نقية. هناك روح نقية” فإنه يختم علاقته بالأشياء المتاحة. بالنسبة إليه فإن المواد وسيلة أما الغاية فإنها الروح. ذلك رسام يجد في الروح خاتمة لعمله.

المصدر : نبض الاناضول فاروق يوسف كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق