ثقافه وفكر حر

حكايا القرايا / عمر عبد الرحمن نمر

(وجهة نظر قابلة للنقاش، قابلة للتحوير والتعديل، وحتى الدحض والنفي)
تذهب إلى بيت الفرح، تسير مسافات كي تؤدي واجبك تجاه الناس، وتشاركهم فرحهم، فترى أمامك العجب. ترى طابوراً من الناس، جاؤوا تلبيةً للواجب، جاؤوا بلباسهم الأنيق، وياقات عنقهم المرتبة. وجاء مشايخهم بلباسهم الشعبي الأصيل. تراهم جموعاً يمشون في طابور، حُدِد بطبَقيْن، وضع على الأول أشكال من عصائر الفواكه، وعلى الثاني أشكال أخرى من الشوكولاتة، وما أن يصل الضيف هاتين المحطتين حتى يتناول قنينةً من العصير في يد، وفي الأخرى قطعة من الشوكولاتة، ثم يذهب ليفتش عن كرسي فارغ، يتسع له لدقائق، هي زمن قضاء الواجب.
ياه! ألهذا الحد وصل مؤشر احترام الواحد للآخر؟! أو قلّ احترام المعزّب للضيف؟ لماذا هذا الإفلاس في التواصل، والبؤس في اللقاء، وتدمير النسيج الاجتماعي؟ بالأمس القريب، كان المعزّب يلهج بالترحاب والتهليل عند ملاقاة ضيفه، وقالوا في المثل” لاقيني ولا تغديني”.
نعم إن الكرم للأضياف لا يكون بكمية من العصائر، ولا يقدر بكميات من الشوكولاتة، إنما يتجسد الكرم في تحية الضيف، وإشعاره بقيمته وقدره، لذا كان الضيف يجلس على الوثير من الفراش، ويقدم له المعزب بيديه ما طاب من مأكل ومشرب، ذاك هو الكرم، والاحترام، والتقدير.
واليوم، صرنا نرى غياب المعزّب، وقد أحضر نيابةً عنه صواني الضيافة، حيث يتناول الضيف منها حاجته ويمشي، وكأنه أمام صرّاف بنكي، حيث يغيب موظف البنك، ويبقى الصرّاف يقدم خدماته.
ما هذا يا عالم، أهي ثقافة البيرجر؟ أم سلامات الفيس بوك؟ أم هو المجتمع الافتراضي في النت؟ تصوروا رجلاً محترماً مقدّراً يحمل قنينة عصير في يد، وفي الأخرى قطعةً من الشوكولاتة، ويضطر لمصافحة مجموعة من الأصدقاء بيد ثالثة!
إن هذا لمضحك فعلاً. تصوروا حالةً أخرى، رجلاً يشرب العصير أو يلعق الشوكولا وهو ماشٍ في ممر، قبل أن يجد كرسياً يجلس عليه، ويقتحمه في هذه اللحظة ضيف آخر من الحضور.. يقتحم مسلّما معانقاً مصافحاً بيد، ومقبلاً بشفتين.. إنها صورة كاريكاتورية فعلاً، تجسد انحداراً في ممارساتنا، وعاداتنا، وتقاليدنا.
والسؤال الذي يظهر عليناجميعاً: لماذا نذبح عاداتنا بسكين “بادح”.. ونحيلها إلى إجراءات ممسوخة؟ والإجابة هنا جاهزة، سيقولون: لقد ازداد عدد الناس، وأصبحت عملية تقديم الضيافة لهم عملاً شاقّاً، والناس اليوم في عالم السرعة،الكل يريد قضاء غرضه بأبخس الأثمان، وبأيسر الطرق، وأقصر زمن. بعبارة أخرى فإن الجميع يريد تعبئة استمارة اجتماعية لا تسمن ولا تغني من جوع. المعزّب يريد القول أنه قام بالواجب، والضيف يريد أن يثبت أنه قام بالواجب أيضاً… هكذا بهذه الطريقة الجافة التي لا معنى لها، سوى أنها إسقاط فرض اجتماعي.
مبرر مضحك فعلاً، وصبياني أيضاً، يتهم منظومة قيمنا وعاداتنا في التقصير، وإظهارها بمظهر المتخلف العاجز، وهنا لا بد أن نطرح بدائل أخرى؛ لتقصير الزمن، وتسهيل مهمة الضيافة، لعلها تكون أكثر نجاعةً، وكرماً، ونجاحاً. ونقول لهؤلاء العصريين: جربوا أن توزعوا عصائركم وسكاكركم مع بطاقات الدعوة، أليس في ذلك توفير في الشقة والمشقة، والكلفة، والزمن؟ إنه لأمر مضحك والله. أرسلوا ثلاث سيارات: واحدة توزع بطاقات الدعوة، وأخرى توزع العصائر، وثالثة للسكاكر، واطلبوا من ضيفكم المفترض التوقيع على استلام بضاعته، وكفى الله المؤمنين شر الضيافة وخيرها. شيء مضحك… والله… ولمزيد من التسهيلات، إن كان هذا البديل متعباً، أو مكلفاً، فوزعوا كوبونات على مدعويكم حيث يكون بمقدورهم صرف هذه الكوبونات في أي دكان.
أفيقوا يا عالم، اصحوا، فإعصار العولمة يجبهكم، ويجرف معه كل عناصر هويتكم، ومكونات تراثكم، وسحر الغرب الخلاب الكذوب يهاجمكم بسرابه المادي، وفقره الروحي، وأحلامكم المادية تتساوق مع تجليات حضارة مزيفة، وتقيض لخراب اجتماعي. يا ناس الضيف ليس متعطشاً لعصائركم… ولا هو مبروع بسكاكركم… وحلوياتكم.
الضيف يا سادتي، جاء مهنئاً، مشاركاً فرحكم، مباركاً لما تقومون به، فاستقبلوه… استقبلوه بابتسامتكم البشوشة، المفعمة بالمحبة، رحبوا به لفظاً واشارةً ومعنىً، حتى يعرف أنه إنسان محترم ومقدّر، وأنه جاء إلى العنوان الصحيح. أجلسوه في مكان مريح، ودعوه يستريح، في مكانه، ثم قدموا له ما تيسر من ضيافة. ويبقى المعزب يصب قهوته للضيف، حتى يهزً الآخر الفنجان باليمين…
المسألة – إخواني- تكمن في حفظ منزلة الضيف واحترامه وتقديره، فأنزلوا الناس منازلهم، وبالتأكيد فإن ذلك يتجاوز شرب العصائر… وتناول السكاكر… ويكفي لتقديم الضيافة في أي مناسبة شابّيْن نشيطيْن، أحدهما يقدم العصائر… والثاني يتولى أمر السكاكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق