زاوية الاقتصاد
الأجور في فلسطين.. الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة
مطلع عام 2020، كان من المفترض أن تنطلق “ثورة 1450″، للمطالبة برفع الحدّ الأدنى للأجور، وسمّيَت كذلك لتشيرَ إلى مبلغ 1450 شيكلاً (428 دولاراً)،1 وهو الحدّ الأدنى للأجور في الضفة الغربيّة والذي لم يُعدَّل طيلة العشر سنوات الماضية. انطلقت الحملة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ودعا حينها “الحراك الفلسطينيّ الموحّد لإقرار هيكل أجور عادل”2 إلى تظاهراتٍ شعبيَّة واعتصامات. نُظّمت أولى هذه الاعتصامات في فبراير/ شباط 2020 في مدينة رام الله، طالبَ الناشطون فيه بإعادة النظر في الحدّ الأدنى للأجور، التزاماً بآلية احتساب منظمة العمل الدولية،3، وإعادة النظر في عمل “اللَّجنة الوطنيّة لتحديد الحدّ الأدنى للأجور”، إضافةً إلى مطالبة الاتحاد العام للنقابات بالالتزام بمسؤوليّته، وبالرقابة على المنشآت. دعا الحراكُ إلى مظاهرةٍ أخرى في مارس/ آذار، لكنّها لم تتمّ بسبب إعلان حالة الطوارئ بعد تسجيل أولى حالات الإصابة بفيروس “كورونا”.
اقرؤوا المزيد: “ما المُفزع أكثر من كورونا؟”.
كيف وصلنا إلى الـ1450؟
في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2012، أقرّ مجلسُ الوزراء الفلسطينيّ التوصيةَ التي رفعتها اللجنة الوطنيّة للأجور، حول الحدّ الأدنى للأجور في فلسطين.4 اشتملت اللّجنة على 15 عضواً يمثّلون أطراف الإنتاج الثلاثة، أيْ ممثّلي الحكومة، وهم: وزير العمل (رئيساً للجنة)، ووزراء كلّ من: الماليّة والاقتصاد والتخطيط والعدل، إضافةً إلى خمسة من مُمَثِلي أصحاب العمل، تختارهم نقاباتُ أصحاب العمل، وخمسة من مُمَثلي العُمّال، يتم اختيارهم من نقابات العمال.5
في المقاييس العالميَّة، توجد مدرستان رئيسيّتان لـمنهجية تحديد الحدّ الأدنى للأجور. ترى المدرسة الأولى أنَّ الحدَّ الأدنى يجب أنْ يُقرَّ على ضوء تكاليف المستلزمات الحياتيَّة الضروريَّة (الغذاء والمسكن، والتعليم، والخدمات العلاجيّة)، بينما تعتمدُ المدرسةُ الثانية في إقرارها للحد الأدنى للأجور على المتغيرات الاقتصاديّة مثل إنتاجية العمل، ومستويات الأجور والدخول الفعليّة للاقتصاد.
يوضح محللون اقتصاديون أنّه من غير الملائم تطبيق أيٍّ من المنهجيتيْن السابقتيْن على الحالة الفلسطينيَّة، لأنّ بنية الإنتاج والتشغيل والإنتاجيّة في الاقتصاد الفلسطينيّ هي بُنية اقتصاد ضعيف، بينما يُعدّ مستوى تكاليف الحياة قريباً من الاقتصاديات الغنيَّة المتطورة.
وفي الحالة الفلسطينيّة، أُخذت بعين الاعتبار نسبة الإعالة،6 والتي تصل إلى 1.6، حسب جهاز الإحصاء الفلسطينيّ، وتمّ تقسيم تلك النسبة على الخطّ الوطنيّ للفقر حينها: 2290 شيكلاً، فنتج عن ذلك 1450 شيكلاً. لكنّ الرقم بقيَ موضع جدل، واستمرَّت الجلسات والنقاش بين أعضاء اللّجنة الوطنيَّة للأجور ما يقارب العامين، دون نتيجة.
تمسكت النقابات بـ1750 شيكلاً كحدٍّ أدنى، وتمسك أربابُ العمل بـ1250 شيكلاً. وضع أحمد مجدلاني- وزير العمل آنذاك (2012-2013)- حدّاً للخلافات واقترح “حلّاً وسطاً” ففرضَ 1450 شيكلاً كحدٍّ أدنى للأجور، ثمّ خرجَ الرقمُ إلى النور. وافق 13 عضواً من أصل 15 في اللَّجنة على مقترح وزير العمل، على أن يتم تطبيق القرار في بداية عام 2013. وبالرغم من أنَّ الاتّحاد العام للعمّال قد قدَّم مقترحاً بأنْ يكون الحدّ الأدنى للأجور 1750 شيكلاً، وألّا يكون أقلّ من خطّ الفقر العادي، لكنّه تعرّض لضغوطاتٍ عديدة جعلته يقبلُ بالحدّ الأدنى المقدَّم من قبل لجنة الأجور، كما سجّل اعتراضه على نسبة تمثيلِهِ المحدودة في هذه اللَّجنة.
اقتصاد فقير، وتكاليف باهظة
في ظلّ ارتفاع تكاليف المعيشة، فإنّ الحدّ الأدنى للأجور غير كافٍ لتلبية احتياجات متقاضيه. بافتراض أنَّ متوسط عدد العاملين في الأسرة ھو 1.6، فإنَّ الحدّ الأدنى الشهريّ للأجر يضمن للعائلة دخلاً يصل إلى 2320 شيكلاً (1450*1.6)، وهذا يزيد عن مستوى دخل الفقر المدقع للعائلة المكوّنة من شخصيْن بالغيْن وثلاثة أطفال،7 بل يزيد قليلاً عن حدّ الفقر العادي للعائلة الفلسطينية.8 ولكن إذا قلّ متوسط عدد العاملين في الأسرة الواحدة عن 1.6، فإنَّ الحدّ الأدنى للأجر سيُلقي بالأسرة إلى ما هو أدنى من مستوى الفقر.
يلاقي عمّال المياومة صعوبةً أكبر من العاملين بأجورٍ شهريَّة، فهمْ لا يتلقوْن أجراً شهرياً ثابتاً، إنما يعتمد أجرهم على احتسابِ ساعاتِ العمل. إذا اعتبرنا أنَّ أجر الساعة ھو الثابت، فإنّ الراتب الأدنى الشهريّ يفترض يوم عمل من 7 ساعات، في 6 أيام في الأسبوع. بينما يعدّ الحال مختلفاً بالنسبةِ لعمّال المياومة، فهم يجبَرون على العملِ أكثر من ذلك، لتحقيق الأجر الأدنى ذاته. يفترض أجر المياومة الأدنى يومَ عمل من 6.7 ساعة، أي أنَّ العامل بالمياومة يجب أن يعمل 1/2 ساعة أكثر يومياً، حتى يحصل على الأجر الأدنى نفسه الذي يحصّله العامل الشهريّ.
قطاعات أقل حظاً
بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطينيّ، فقد أشارت بيانات القوى العاملة للربع الأول من العام الجاري-2020 إلى أنّ حوالي 43% من العاملين في القطاع الخاصّ في الضفَّة وغزَّة يتقاضون رواتب أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور. وبشكلٍ عامّ، فإنّ القطاعات التي تنتشر فيها مسألة دفع أجورٍ أقلّ من الحدّ الأدنى هي قطاعات التجارة والفندقة، ثم يليها قطاع التعدين والصناعات التحويليّة، ثمّ قطاع البناء والتشييد، وصولاً إلى قطاعي الصيد والزراعة.
ولا يقتصر اختلاف الأجور بين قطاع وآخر فحسب، بل هناك تفاوت بين أجور الذكور والإناث حتى في القطاع نفسه. وبشكلٍ عام، تتقاضى العاملات ما هو أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور، مقارنة بالعمال الذكور. إذْ بلغت نسبة الذكور الذين يتقاضون أقلّ من الحدّ الأدنى حوالي 39% تركزوا في نشاط التجارة والمطاعم والفنادق، مقابل 48% من الإناث في القطاع الخاص، يتركّز عملهنّ في الحضانات ورياض الأطفال والمدارس الخاصة.
ما بين المُرّ والأكثر مرارةً
تعمل المعلّمة، أمل خلف، سبع ساعات يوميَّاً في روضة أطفال خاصّة في محافظة جنين، وذلك مقابل 500 شيكل شهرياً فقط. تقول: “قبلت بهذا الرقم لأنني أعلم أنّني إنْ لم أقبل، ستقبل به غيري.. إنَّها 500 شيكل أو لا شيء”. لا تختلف قصَّة أمل كثيراً عن (م.ق)، الذي يعمل في مصانع التمور مقابل 60 شيكلاً في اليوم، وهو المعيل الوحيد لأسرته.
“ما جَبرك على المُرّ غير الأَمَّر منّه”؛ ينطبق هذا المثَل هنا. إذْ يقع الفلسطيني في حيرة من أمره، هل يقبل بهذا الأجر القليل أم يقع فريسة للبطالة التي تتوحش في المجتمع؟ إذْ بلغت نسبة المُعطَّلين عن العمل 49٪ في قطاع غزّة مقارنة بـ 19٪ في الضفة الغربيّة.9 وتختلف نسبة البطالة بين المحافظات الفلسطينيّة وهذا ما يفسر تدني الأجور في بعض المناطق دون غيرها، ويفسّر وصول أجر العاملات في الحضانات أو قطاع السكرتارية في مدينة جنين مثلاً إلى 500 شيكل شهرياً فقط، أيْ أقلّ من نصف الحدّ الأدنى للأجور. إذْ، وبحسب جهاز الإحصاء الفلسطيني في تقريره لعام 2019، فإنّ جنين تسجّل ثاني أعلى معدل بطالة في الضفَّة، بحوالي 22%، تسبقها محافظة بيت لحم بنسبة 23%.
ويبلغ عدد المربيّات في رياض الأطفال في مدنِ شمال الضفة الغربيّة ما يقارب 4000 معلمة، تتراوح رواتبهن من 400- 1000 شيكل. وتُعيد الحضانات ورياض الأطفال سبب هذه الأجور المنخفضة بأنَّها ستضطر لرفعِ التكاليف على أهالي الأطفال، لو قررت رفع أجور العاملات، وهو ما لا يناسب مدخولات الأهالي، فطالبت نقابة رياض الأطفال بتخفيف الأعباء الضريبيّة ودعم هذا القطاع ليتمكن من تطبيق الحدّ الأدنى للأجور.
قليلٌ لا يُطَبَّق
من وجهة نظر المشغِّلين وأصحاب العمل، يعدّ رفع الأجور خسارة. يتساءل صاحب محلّ تجاريّ: “نحن لا نستغل أحداً، نقول للعامل إنّ الراتب 1000 شيكل، وهو يقبل.. فأين الاستغلال؟”. إضافة لوجود قطاعات غير قادرة على تحمل عبء القرار، حسب قوله، لأنّ إنتاجية العامل فيها تقلّ عن الحد الأدنى للأجور، مثل قطاعات الغزل والنسيج والخدمات العامة، والذين يعتمد ربحهم على عدد قطع النسيج أو الملابس التي ينتجها العامل.
وفي حال أُجبرت بعض هذه المصالح على تطبيق القرار قد تضطر لإغلاق أبوابها أو تقليص عدد موظفيها، لذلك كان لا بد أن تتم دراسة القرار أكثر وربطه بالإنتاجية وكذلك بالمناطق الجغرافيّة، وتكاليف الحياة المتفاوتة في كلٍّ منها. قد يبدو هذا الادّعاء منطقياً بالنسبة للمصالح التجاريَّة الصغيرة أو العائليَّة، ولكنّه يبقى محل تساؤل حين نتحدث عن الشركات والمصالح التجاريَّة التي تحقق أرباحاً عالية.
وفي ضوء ما سبق، يتضح لنا أنَّ الرقابة على تطبيق الحدّ الأدنى للأجور غائبة. يعود ذلك لأسباب متعددة، من أهمها قلة الإمكانيات المتوفرة لدى دائرة التفتيش ووزارة العمل. ما يحول دون متابعة الكمّ الهائل من المنشآت، والتي قارب عددها 100 ألف منشأة، يعمل داخلها حوالي نصف مليون عامل في كلّ المحافظات، يقابلهم 40 مفتشاً فقط.
كما يساهم ضعفُ تمثيل العمّال وتشتيته وتسييسه في عدم وجود آلية رقابة، وعدم قدرة العمّال أحياناً على المطالبة بحقوقهم لعدم توقيعهم عقد عمل قانوني مع ربّ العمل، فيستغل الأخير ذلك ويحرم العامل من حقوقه. وتشير تقارير الإحصاء المركزي الفلسطيني لعام 2019 إلى أنّ 188 ألفاً من الموظّفين بأجر في القطاع الخاص يعملون دون عقد عمل.
حسب قانون العمل الفلسطينيّ، إنَّ أي مخالفة من قبل صاحب العمل للأحكام الخاصة بالأجور، بما في ذلك عدم التزامه بدفع الحد الأدنى للأجور، يترتب عليها أن يعاقب صاحب العمل بدفع غرامة بين 50-100 دينار أردنيّ، إضافة إلى إلزامه بدفع فرق الأجر- أي الفرق بين الحد الأدنى من الأجور والأجر الذي دفعه فعلاً- للعامل.
انطلقت عام 2018 مفاوضات وجلسات حوار جديدة، خاضها أعضاء اللَّجنة الوطنيَّة للأجور، لدراسة حدّ أدنى جديد، ليناسب التغيرات الاقتصادية الجديدة، وتحديداً الغلاء المعيشي. ولكن توقَّفت هذه الجلسات في عام 2020، بسبب انتشار فيروس كورونا، على أن تستكمل في وقت لاحق. ينتظرُ إلى حينها أكثر من ثُلث عمّال القطاع الخاص مع رواتبهم الضئيلة دون الحدّ الأدنى للأجور، وغيرهم ممنّ يتقاضون الحدّ الأدنى ولا يكفي لتلبيةِ أبسطِ احتياجاتهم وتجنيبهم الفقر، وتبقى الفجوة بين التكاليف الباهظة وبين الأجور الأدنى التي بالكاد تكفي لتوفير حياةٍ كريمة.