صحيحٌ أن الخبر هو قيس سعيّد، ماذا سيفعل، أو على الأصحّ ماذا ينوي أن يفعل. بماذا يفكّر، وعلى أي مزاجٍ يقيم سيأخذ البلاد عليه. صحيحٌ أن الرجل يزدري الجميع، ويدّعي احتكار الصحّ والصواب، وأن في باله “موّالاً”، سيُحدِث بموجبه التغييرات التي يراها في نظام الانتخابات، وتاليا في الدستور الذي أقسم اليمين على احترامه، ثم صار يحتقرُه. صحيحٌ أن ربّ العزة وحده يدري سقوف الأزمنة المضمرة في قول الرئيس “إلى إشعار آخر” ستبقى إلى حينها إجراءاتُه وتدابيره الاستثنائية. صحيحٌ هذا كله وكثيرٌ غيرُه، ولكن الموضوع في الحالة التونسية الراهنة لم يعد قيس سعيّد، وإنما الساكتون عما يشرّق فيه ويغرّب، وهو يُعمِل ما يراه في الدستور والبرلمان والحكومة، وفي ما تقع عليه عيناه، المهادنون، الممالئون، المنتقدون بخفرٍ وحياء، الغاضبون قبل شهر من إجراءاته، ثم صاروا يطالبونه بالالتزام بالمسار الديمقراطي (عذرا لهذه النكتة)، ثم تفهّموا ما فعل. ولقائل أن يقول إن هذا كلامٌ تقليديٌّ سيّار، كأنه تأويلٌ للمثل الذائع عن الذين فرعنوا الفرعون. ولكن، هذا دقيق، ويطابق اللفظُ فيه منطوقَه، فالفرعون التونسي لم يُواجَه بسخطٍ معلن، بجبهة قوية، بقوى ديمقراطيةً حقيقية، تعتصم أمام قصر الرئاسة في قرطاج، أو تُرابط في شارع الحبيب بورقيبة، وتُطالب بعزل الرئيس الذي اعتدى على الدستور، وازدرى المؤسّسات، ويذهب في البلاد إلى مجهولٍ يوافق هواه، ولم يتّبع الوسائل الديمقراطية المعمول فيها من أجل ما يقترحه من إصلاحٍ في النظام السياسي الماثل.
يخبرنا أصدقاء وزملاء في تونس بأن مزاج الشارع العام في تونس يساند قيس سعيّد. ولا يدري صاحب هذه الكلمات مقادير الدقّة في هذا، ولكن حتى إذا صحّ، فإن المشهد لا يتعلق بفريق كرة قدم، ولا بتشجيع ناد رياضي، ولا بالتصفيق لمغنٍّ محبوب، إنما بتونس نفسها، مستقبلها وراهنها، حيث الأداء الاقتصادي ومؤشّراته غير مطمئنة، والأوضاع المعيشية مقلقة، سيما في الأطراف. وإذا جاز الطخّ في تعيين المسؤوليات عن هذا الحال على من تولّوا مواقع المسؤوليات العديدة في الحكومات التي تتالت بعد خلع الثورة بن علي في مفتتح 2011، وإذا جاز التباري بشأن أنصبة حركة النهضة من المسؤولية عن بؤس الحال، فذلكما لا يعنيان أبدا أن الشخص المهووس بذاته، المتعالِم على الجميع، هو خشبة الخلاص والإنقاذ، هو صاحب الحل المشتهى الذي سيأخذ تونس إلى ما يريد التوانسة لبلدهم. لا شاهد من أي نوع يسوق إلى أن قيس سعيّد هو الكفاءة الاستثنائية التي لديها الرؤية العملية لإنعاش دورةٍ اقتصاديةٍ ملحّة، ولا لتأطير نظام سياسي يوازي بين حرّياتٍ عريضةٍ في دورة انتقال ديمقراطي مرتبكةٍ وأداءٍ مُرضٍ من الدولة في قطاعات الخدمات والصحة والتشغيل و.. إلخ. لم يمنحنا الرئيس الذي ترشّح لموقعه هذا ضد إرادته، على ما أخبر التونسيين مرّة، ما يدلّ على درايةٍ لديه بأنسب الوسائل لإصلاحٍ عام في تونس. يبيع الرجل كلاما يصلُح لكتاب المسرح، ولا ينفع مواطنيه في شيء، إلا إذا اعتبرنا أن زجليّاته عن الفساد والفاسدين منجزاتٍ عظمى.
ثمّة جفّافٌ ظاهر، ومروّع ربما، في الملعب السياسي الفارغ في تونس. ليس من قوى حقيقية، ديمقراطية منظورا وممارسةً، لا ترهن مواقفها بشعبوياتٍ عابرةٍ ومرتجلةٍ، ليس ثمّة أي فاعليةٍ لأحدٍ يمكن أن تُرجرج الخُيَلاء التي يمكُث فيها قيس سعيّد، وهو يشرح الدستور كما يريد، وهو يحتكر تعيينات المناصب الأمنية من أجل ولاءاتٍ شخصية له. ولمّا كان بعض التوقع إن الاتحاد التونسي العام للشغل سيكون جدارا قويا أمام سعيّد، فالذي تبيّن أنه صار من لبنات جدار سعيّد نفسه أمام ناقديه القلائل. والبادي أن حركة النهضة متعبةٌ، تستشعر في نفسها قلّة حيلة، وربما لا تسعفها أحوالها التنظيمية الداخلية على قيادة حركةٍ جماهيريةٍ ميدانيةٍ لا تكتفي بالطلب من قيس سعيّد أن يرعوي، وإنما أن يرحل. ..
إذن، الأنسب أن نتوقف عن الاستسلام لغواية الكلام والكتابة عن قيس سعيّد، وقراءة الجديد عنه، من قبيل الذي أخبرتنا به فيفيان لي في “نيويورك تايمز” قبل يومين، وقد كتبت إن هذا الرئيس كان إبّان تدريسه في الجامعة يحذّر الطلاب في أول يوم، لكي يتأكّد من صمتهم المطبق. وهو الآن لا يستمع إلا للقلّة (منهم زوجته). الأنسب أن نقرأ في أرشيف الرئيس المكتظّ إعجابا بنفسه، وفي راهنه، للتسْرية عن النفس. أما إذا أردنا حديثا جدّيا وجديدا، فالأدعى هو الاكتراث في الذين فرعنوا الفرعون .. وما يزالون