- ان مفهوم الدولة ليس قديما جدا فمعظم المفاهيم التي تعبر عن القدرة والنظام تعود بالأصل الى المدينة اليونانية والامبراطورية الرومانية، انما المفهوم الحديث للدولة نشأ بالتدريج في اوروبا بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر ودخل منذئذ في المصطلح السياسي واكتسب معناه الفني (التقني) واصبحت الدولة تؤلف الطريقة الوحيدة لجمع المجتمعات في العالم المعاصر في اطار سياسي وفي نهاية هذه الفترة اتخذت الدولة مفهوم المجتمع السياسي أولا في ايطاليا في عهد (الانبعاث) ومن ثم في انكلترا وفي فرنسا في منتصف القرن الساس عشر واصبحت تعبر هذه الكلمة الجديدة عن حقيقة جديدة واتخذ معناها الحاضر، أي معنى المجتمع السياسي الاعلى الذي تنضوي تحت سلطانه سائر السلطات السياسية والاجتماعية، وهذا ما يعرف في انظمة الحكم باسم (الديمقراطية) التي في ظلها تأكدت دولة المؤسسات والتي لم يعد من الممكن في ظل دولة المؤسسات ان يقول حاكم كائنا من كان ان يقول «انا الدولة» الا اذا كان ملتأث العقل أو كان ينتمي الى زمن غير هذا الزمان.
وفي الدولة الحديثة لا توجد مؤسسة واحدة ولا سلطة واحدة وانما توجد هناك سلطاتكل منها تمارس بواسطة مؤسسة دستورية. هناك سلطة تشريعية والتي تمارسهامؤسسة اسمها البرلمان» سواء تكون البرلمان من مجلس واحد أو من مجلسين وفقا لنصالدستور. وهناك سلطة تنفيذية تمارسها كل المؤسسات التنفيذية. وهناك سلطة القضاءتمارسها المحاكم على اختلافا انواعها. وكل سلطة من السلطات لها اختصاص محددفي إطار الدستور، فاذا هي خرجت عن هذا الاختصاص المحدد كان خروجا غير مشروع. وبذلك لا يستطيع أحد التدخل في اختصاص أي منها لأن الدستور وزع الاختصاصاتوحدد لكل مؤسسة اختصاصها وجعل المشروعية مقرونة بالاختصاص القانوني، وهذاهو جوهر فكرة دولة المؤسسات.
والمؤسسات دائما متجددة على حين ان الاشخاص الذين يمارسون سلطة المؤسسةباسمها وفي حدود الدستور متغيرون وزائلون، ولكن المؤسسات باقية ولا تتأثر بتغيروزوال الاشخاص، اذ ان المؤسسات في الدولة الحديثة هي اجهزة الدولة للقيامبوظائفها واختصاصاتها في الإطار الذي يحدده الدستور والقانون ويعهد الىاشخاص معينين لممارسة تلك الوظائف والاختصاصات باسم المؤسسة وليس باسمهمالشخصي.
وان نجاح بناء مؤسسات الدولة اليمنية الحديثة مرهون بقيامه على قاعدة اللامركزيةفي كافة الشئون المحلية وعلى مبدأ المشاركة الشعبية الواسعة في الحكم ومبدآ النهجالديمقراطي، باعتبار ان الحكم اللامركزي هو الشكل الديمقراطي الراقي وهو الأساسالموضوعي والذاتي المتين لبناء الدولة اليمنية الحديثة. والاضمن للحفاظ على وحدةكيان الأمة وتجنيبها سيادة الفردية الدكتاتورية والتسلط ونهج الحكم المركزي السلاليوالعشائري القبلي والطائفي. كما ان نجاحها مرتبط بتوفر شروط تثبيت سيادةالشريعة والقانون والنظم على كل هيئات ومؤسسات وافراد الدولة والمجتمع وعلى طولوعرض البلاد.
مفهوم دولة القانون
انطلاقاً من قاعدة ان سيادة القانون تشكل شرطاً أساسياً من شروط المجتمع الحديث. فكيف نفهم دولة القانون؟ وكيف نصف دولة معينة انها دولة قانون؟
تبلور مفهوم دولة القانون تدريجياً في أوروبا كتصور بديل عن الدولة الامبراطوريةدولة الحكم المطلق والسلطات المطلقة الذي يحظى فيها الملك والامبراطور بحق منحالحياة وزرع الموت تجاه (رعاياه).
اتخذ المفهوم في البداية سمة مثال سياسي يهفو اليه وكشعار سياسي يتجه نحوتطبيقه. اتسم بمفهوم دولة الحق والقانون منذ البداية لكونه مفهوما مقارنا صراحة اوضمنا لأن الحديث عن دولة القانون يتضمن الإحالة على نقيضها الدولة الامبراطوريةالتقليدية مطلقة السلطات او الدولة العصرية المستبدة الشمولية، دولة القانون بهذاالمعنى هي دولة مجردة، دولة المؤسسات بالقياس الى الدولة التقليدية التي هي دولةمشخصنة دولة الأمير او السلطان. فإذا كانت السلطة في الدولة التقليدية متمركزة كلياوبشكل مطلق في شخص واحد هو بمثابة الواهب للخيرات او الحارم منها مثلما هوالسيد المطلق واهب الحياة والموت فإن دولة القانون اي الدولة العصرية والديمقراطيةهي دولة يتم فيها توزيع السلطة واقتسامها لا على أفراد بل على مؤسسات: مؤسساتتشريعية، مؤسسات تنفيذية، مؤسسات قضائية.
توزع هذه المؤسسات السلطة بل تشكل – في الصيغة المثالية لهذا التصور – بالنسبةلبعضها سلطات مضادة وظيفة كل منها هو الحد من سلطة أخرى.
وما يوحد ويربط بين هذه السلطات الموزعة هو وحدة الفضاء القانوني الذي يرسم لكلسلطة مجالها واختصاصاتها وحدودها فالمعيار والمرجع والحكم في دولة القانون هوالقانون سواء تعلق الأمر بالقانون الأساسي الذي هو الدستور او بالقوانين الفرعية.
وتقوم الدولة الحديثة على احلال العلاقات القانونية محل العلاقات الوجدانية والقرابية(العائلية) والعرقية والمهنية والمالية والأخلاقية والدينية وغيرها فسلطة القانون هنا هيالسلطة المرجعية الأعلى التي تستمد منها كل الهيئات والقطاعات والممارساتوالتيارات مرجعيتها الرسمية.
سيادة القانون
تفترض وتستلزم دولة القانون بجانب سيادة القانون وتوازي وتقابل السلطاتومراقبتها لبعضها البعض وجود فضاء من الحرية السياسية يمكن كل فرد من أن يكونكائنا متمتعاً بالحرية مساويا لغيره (مساواة صورية) ممتلكا للحقوق الضامنةوالمؤطرة لهذه المساواة وفاعلا سياسيا بالقوة او بالفعل اي بكلمة واحدة (مواطنا).
دولة المؤسسات والقانون
أن المؤسسات قديمة قدم المجتمع البشري، ولكن تحول الدولة نفسها إلى مؤسسة من المؤسسات، أي انفصال سلطتها عن شخص الحاكم، واكتساب هذه السلطة لطابع قانوني لا شخصي، هو إنجاز كبير لهذه العصور الحديثة. ولهذا تتبوأ مؤسسة الدولة في عصرنا الحاضر مكانة سامية.
إن أكثر ما يميز الدولة الحديثة عن الدولة القديمة هو أنها دولة قانون، بينما ليس للدولة القديمة من مرجع سوى شخص حاكمها.
من هذا المنطلق – تحديدا – تبدو الدول العربية دولا تعاني بقدر يكبر أو يصغر من الفوات التاريخي، فهي مازالت أقرب إلى دولة القوة منها إلى الدولة الشرعية، وأقرب إلى دولة القبيلة والحزب الواحد، منها إلى دولة المؤسسات. وهي أقرب إلى دولة الأشخاص، منها إلى دولة الدستور. وأخيرا وليس آخرا حتى على الصعيد الإداري والقضائي نجد أن الدول العربية أقرب إلى دولة الولاء الشخصي، منها إلى دولة الموضوعية القانونية. وبدلا من أن يكون الدستور في الدول العربية سابقا على شخص الحاكم، فإنه لا يزال في غالبية الأحوال يتبعه كظله، ويرتهن بإرادته، وغالبا ما يزول بزواله، أو وفاته.
والدولة التي لا تلتزم على أعلى مستوياتها بالمبدأ المؤسساتي لا يمكن أن تفرض تطبيقه حتى على المستويات الدنيا، وهذا هو السبب الرئيس للفساد الإداري، والقضائي في الدول العربية.
إن الدولة الحديثة تقوم على مبدأ تساوي المواطنين جميعا في الحقوق والواجبات أمام القانون، وفيما بينهم مجتمعين مع الحكام، على اعتبار أن المفروض بالحكام في دولة المؤسسات أنهم أناس عاديون، يخضعون للقانون خضوع سائر المواطنين له. أما في دولنا العربية فتفتقد العلاقات الطابع الموضوعي المؤسسي، وتقوم على عصبيات تتناقض مع مبدأ المساواة أمام القانون في الدول الحديثة، ويصبح المتحكم فيها – بدلا من المساواة – العلاقات الشخصية والعائلية والقبلية والسلالية والتحزبية.
إن إشكالية وجود الدولة في المجتمع العربي معقدة للغاية، ولها جوانب متعددة، فحتىالآن لا توجد دولة واحدة يتفق عليها الجميع، فالبعض يراها دولة الأمة الإسلامية،والبعض يراها دولة الأمة العربية، والآخر يراها دولة الكيانات القطرية…، وتعود هذهالإشكالية إلى اختلاف عميق بين تقاليد العالم العربي وتقاليد العالم الغربي، وهواختلاف ينبع من حقيقتين:
أولا“: إن الفكر السياسي الغربي يختلف عن الفكر السياسي العربي من حيث أن الأوللم يجاوز كونه عملية ضبط للسلطة في تعسفها إزاء المواطن، ونلاحظ أن كل الفكرالسياسي الغربي تمحور حول قضية منع الدولة من الاعتداء على المواطن، وكيفية جعلالدولة ممارسة لسلطاتها دون الجور على المواطن. فتاريخيا ومن أيام العصر الرومانينرى أن الرومان أدركوا أن التعدد يمنع الانفراد بالسلطة ، وبالتالي يمنع التعسف، ولهذاأعطوا صلاحيات واسعة – نوعا ما – لما يسمّى بمجلس النبلاء آنذاك، أيضا اليونانيونالقدماء أدخلوا مفهوم القانون إلى مجتمعهم، وحققوا “المجتمع المدني” من خلالتطويره عمليا، وكانوا سباقين في تحقيق “المجتمع المدني” عن طريق إنشاء “القانونالمدني“، بعدها جاء مونتسيكو ليقول بثلاث سلطات، سلطة تنفيذية، وسلطة تشريعية،وسلطة قضائية، انطلاقا من مبدأ أن السلطة توقف السلطة، وهناك قول له: “كل من لهسلطة يميل إلى إساءة استعمال السلطة“. فهو يعتبر أنّ إساءة استعمال السلطة سمةعامة في طبيعة الإنسان البشرية، ومن هذا المنظار لا يمكن أن نتصور دولة أو نظامحكم لا يتسلط فيه أحد على أحد آخر، لذا تنبع الحاجة إلى إيجاد نظام دولة يقف إلىأقصى حد من تسلط الحاكمين على المجتمع، بحيث تكون وظيفة الدولة هي إنشاءضوابط على سلطة الحاكم. أيضا لا ننسى الثورة الفرنسية والثورات الماركسية، ورغمكل ما ارتكب بعهدهم من استبداد باسم قيم التحرر، إنما كان هناك حس ديمقراطييتمثل بأن الإنسان بكيانه الشخصي له قيمة بحد ذاته، ويجب أن يستقل عن تسلطالحاكم…كل هذا أسس لما نشاهده الآن من مبدأ “سيادة الدستور“.
أما العالم العربي فلم يعرف هذا المبدأ لأسباب يطول شرحها، وأما السلطة في الفكرالعربي فكانت، ولازالت، تعني “الهيبة “أو “السيادة “. ومن هنا نرى أن صاحبالسلطة هو صاحب السيادة، فننادي الحاكم بسيادة الرئيس، كل هذا يعني أن الإنسانفي المجتمع العربي لا وجود له كفرد، ولا حماية له كشخص بشكل مستقل عن الدولة ” العربية “، لذا بسهل علينا تفسير عدم وجود معارضات منظمة بشكل جماعي فيتاريخنا العربي لأن المعارضة – كتنظيم – لم تقبلها، ولم تعرفها – أصلا“-النظمالسياسية العربية.
ثانيا“: إن تاريخ الدولة في الوطن العربي يختلف عن تاريخ الدولة في العالم الغربي،فتاريخ الدولة في الأول هو تاريخ الطبقة الحاكمة، أما تاريخ الدولة في الثاني فهوتاريخ المجتمع المحكوم.
إن الدولة في العالم الغربي هي شخص معنوي، وبهذا المفهوم المجرد نضع أيدينا علىأسّ الفكر الغربي
أما تراث الدولة في وطننا العربي فهو تراث “السلاطين“، والقواعد التي تأسست عليهاالدولة العربية كانت – في معظمها – هي “الأحكام السلطانية” التي تحكم بمقتضىالحاكم، وتؤسس حكمه، وتضمن رفاهيته دون اعتبار كبير لحقوق الرعية، أو مصالحها،ودون أن تسمح بوجود أي مؤسسات أخرى تصون هذه الحقوق وتدافع عنها ولذلكفالدولة عندنا تتبع لشخص الحاكم، لأن دولتنا ليست حقيقة مجردة.
ان نقطة البدء في بناء المجتمع تعتمد على قبول الآخر والأخذ برأيه ومراعاةخصوصيته في الاعتبار وذلك على أساس ثقافة التسامح والانفتاح وبث الثقة بينالأفراد والجماعات والمكونات لمعالجة المشكلات، وأن تسبقه اشاعة القناعة لدى أفرادالمجتمع على انهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات شركاء في الوطن ولهذافإن عميلة بناء المجتمع ينبغي أن تمر بمسارين:
الأول: اعادة بناء الدولة وضبط سلطتها وتطهيرها من الموروثات الاستبدادية.
الثاني: اجراء عملية تثقيفية شاملة تقوم على التنشئة السياسية والاجتماعية لتعبئةالمجتمع وتأهيله بما ينسجم مع متطلبات الوضع الجديد وتأهيله عبر الأدوات والقنواتالتربوية والتعليمية والإعلامية.