الرئيسيةمقالات

تسييس النص الأدبيّ: النقد في عصر علمانيّ كريم محمد

 

جزء من لوحة «أحد السعف»، جرجس لطفي، 2008.
الخطاب والأيديولوجيا

اعتدنا دائمًا أن نُحافظ على موضوعيّة جزءٍ من خطاباتنا، كخطاباتنا الوطنيّة وخطاباتنا الأدبيّة وخطاباتنا العلميّة حتى. فكثيرًا ما نرى السياسة بوصفها حقلًا منفصلًا عن الحقول الأخرى، العلميّة والأدبيّة والشعبيّة؛ حقلًا متمّيزًا بشخوصه «الكاريزماتيين» وبمحلّليه البليغين وبعلمائه المحلّلين والدارسين. ومن ثمّ، فإنّ الخطاب السياسيّ هو خطاب منفصل ومكرّس لحقله، والخطابات الأخرى، أيًّا كانت، هي خطابات تعمل على حقولها الخاصة، وما من استراتيجيّة مبطّنة بين السياسيّ (كأيديولوجيا) وبين الخطابات التي تدّعي أنّها خارج السياسة. وعلينا أن نتذكّر أنّ الخطاب يحاول دائمًا أن يتعالى على ما يشكّله، على واقعه وجغرافيته، وعلى الشرط السياسيّ الذي يعيشه.

تكتسبُ أهميّة تحليل الخطاب من كون هذا التحليل ليس مقتصرًا على حقل بعينه، فأصبح لتحليل الخطاب نوع من الاقتحاميّة؛ أي القدرة على اختراق أيّ خطاب وفضحه وكشف أيديولوجيّته التي لا تُفصح عن نفسها صراحةً. لذا، فالانطلاق من هذه الأرضيّة مناسب لتفكيك هذه الخطابات التي تقدّم نفسها بوصفها خارج السياسة وأنها تعالج مشاكل لا سياسيّة، والتي تنطلقُ من واقع سياسيّ، لكنها تنأى بنفسها عن أيّ تأويل سياسيّ محتمل. وفي حالتنا هذه، سيدور الحديث عن النصّ الأدبيّ.

إحدى تقنيات الخطاب، أيًّا كان نوعه ومجاله، هي تقنية الحياد. فكلّ خطاب، يحاول أن يُظهر ذاته كخطاب محايد، وعلى مسافة مبدئيّة من الإشكالات المطروحة، أو، بمعنى أصحّ، هو خارج هذه الإشكالات ببساطة. إلّا أنّ هذه الفرضيّة لا بدّ من التشكيك فيها، بناءً على مبدأ «دنيوة الخطاب»، أي ارتباطه بكلّ ما يحاصره من واقع معقّد وإشكالات سياسيّة ومآزق اجتماعيّة ورؤى وتصوّرات هي البنية القاعديّة المستترة لهذا الخطاب. فلا خطاب خارج شرطه الدنيويّ، والشروط التي تؤهّله لأن يكون كذلك، وهذا ما وضّحه إدوارد سعيد بجلاءٍ في كتابه «العالم والنص والناقد»،[1] عندما تحدث عن الشرط العلمانيّ للنص والنقد معًا. ووهمُ الحياد الذي يدّعيه الخطاب لنفسه هو وهْم الأيديولوجيا دائمًا، ولذا كان من طرافة المعنى الماركسيّ الأوّل للأيديولوجيا أنّها مرتبطة بالوهْم والزيف، لأنّ الخطاب، بما أنّه ينطلقُ من أيديولوجيا ما، يعمل على إخفاء هذه الأيديولوجيا لعامل «الموضوعيّة» الذي يسعى إليه.

من هذا المنطلق، أودّ إلقاء الضوء على طبيعة النصّ الأدبيّ الذي يُثير جدلًا سياسيًا أو دينيًّا، وعندما يُنقَد أيديولوجيًّا يتمّ صونه وتقديسه باعتباره نصًّا «أدبيًا». ماذا تعني «أدبيّ» في مثل هذا السياق؟ وإلى أيّ حدّ يمكن للناقد أن يشهر أسلحته النقديّة أيديولوجيًا حيال نصّ ما؟ إذ غالبًا ما يتمّ الادعاء أن النصوص الأدبيّة المثيرة خطابات متعالية عن الواقع، لا بمعنى أنّها لم تخرج منه، بل بمعنى أنّه لا يمكن محاسبتها وفقًا لأيديولوجيا ما. فقد دأب الأدباء وبعض النقّاد على اعتبار أنّ النصوص الأدبيّة التي تثير جدلًا في المجال العامّ لا يمكن محاكمتها إلّا وفقًا لمعايير «أدبيّة». لكن ما يمكننا التساؤل حوله هو ما هي تلك المعايير؟ ومن المؤهَّل باستعمالها؟ هل هم النقاد الذين يرتدون عباءة النظريّة الباردة؟

الأدب: وحيُ المحدثين؟

تعلّمنا الجينالوجيا[2] أنّ الأدب هو وحي المُحدثين، وأن الأدبَ قد استعارَ كثيرًا من الصّفات التي كان النصّ الوحيانيّ الديني يتّصف بها، حتى وإنْ كان الأدبُ وضعيًا حتى أخمص قدميه. بل منذ القرن الثامن العشر، يُنظَر إلى النّص الأدبيّ باعتباره النّص الذي يُفلت من القداسيّ، لأنّه نصّ انتهاكيّ لَعوب، ويمكن التبرير له بمحاججة أدبيّة باعتبار أنّ «الآخرين» لم يفهموا الحكمة والمراد والمقصد الذي نُصِّب النصّ له. وقد بيّن لوكاتش[3] أنّ ظهور الرواية في القرن السابع عشر كان بمثابة «الملحمة الجديدة» للطبقة البرجوازية التي ترافقت مع الثورة الصناعيّة ووجدت لها بديلًا جديدًا للتعبير عن كينونتها، ووجودها. وقد أرجعَ لوكاتش هذه العلاقة بين البرجوازيّة والرواية الناشئة إلى طبيعتها في مجاراة الحياة الحديثة، السريعة، والصناعيّة.

دأب الأدباء وبعض النقّاد على اعتبار أنّ النصوص الأدبيّة التي تثير جدلًا في المجال العامّ لا يمكن محاكمتها إلّا وفقًا لمعايير «أدبيّة» (..) ما هي تلك المعايير؟ ومن المؤهَّل باستعمالها؟

والحال أنّ النّصوص الأدبيّة التي تُثير جدلًا سياسيًّا أو دينيًّا دائمًا ما كانت تتّسم بحالةٍ من القداسة والصّون لا تكون لغيرها من نصوصٍ في حقول أخرى. بل يمكننا القول إنّ الآدباء دائمًا ما كانوا يرون أنّهم يستطيعون قول أيّ شيءٍ ضدّ السياسة والدّين دون أن تُحاكَم نصوصهم بمعايير أيّ من الاثنين؛ أي بمعيار أيديولوجيّ أو بمعيار قداسيّ. إنّ الأديب يحتلّ مكانةً امتيازيّة يبدو أنّه يكتسبُها بمحض صنعته كأديبٍ، رافضًا المحاكمة لمعيار غير أدبيّ، باعتبار أنّ كلّ الاشتباكات غير الأدبيّة مع نصوصه لا ترتقي إلى تلك المكانة الامتيازيّة للنّص الأدبيّ.

في سؤالٍ وُجِّه لنجيب محفوظ عن تأويل ثلاثيّته الشهيرة تأويلًا سياسيًّا، رفضَ محفوظ هذا التأويل، باعتبار أنّ الأدبَ متمايز عن السياسة، وبالتالي لا يُحاكم إليها. فعندما سأله المحاور[4] عن التأويل الذي قدّمه لويس عوض لعمله «بين القصرين» باعتباره مكتوبًا من أديب هو ابن للبرجوازيّة الصغيرة في رؤيته لثورة ١٩١٩، رفض محفوظ هذا بالقول إنّ «بين القصرين» عملٌ أدبيّ وينبغي الحكمُ عليه بهذا الاعتبار. وليس محفوظ وحده من قال ذلك، فإنّ استقصاءً سريعًا في حوارات الأدباء ومقالاتهم سينبِئُنا بذلك بأجلى النبأ. وفي هذا الاستقصاء، يمكننا تتبّع الطبيعة العلمانيّة للادّعاء، والتي يمكن إرجاعها إلى السرديّة الحديثة العلمانيّة باعتبار أنّ العصر العلمانيّ -الذي هو عصر بزغَ فيه الأدب هكذا بلا ريب- يعني تمايز المجالات، الدين والسياسة والاقتصاد والإنتاج والثقافة، إلخ.

لطالما حُوججَ لصالح النّصوص الأدبيّة، شأنها شأن نصوص فلسفيّة، عندما تتعرّض لنقدٍ أيديولوجيّ أو قداسيّ بأنّها وقعت «فريسة» المفسّرين الذين يريدون أن يُحلوا بالنصّ ما ليس فيه، ويرجعوه إلى تأويلات غير أدبيّة. هذا التعالي العلمانيّ لطبيعة النصّ الأدبيّ الحديث بحاجةٍ إلى مزيدٍ فحص واستقصاء، لأنّه يمتلك سلطةً مضاعفة: سلطة لغةٍ، وسلطة أيديولوجيا مختبئة، ولا يريد لنفسه أن يخضع لأيديولوجيا خارجيّة.

مثلًا، حينما ثارت الضجّة الخمينيّة ضدّ «آيات شيطانيّة» لسلمان رشدي، حاجج رشدي بأنّ إخضاع روايته إلى قراءة غير أدبيّة يعني خلطًا في المجالات بين الأدبيّ وغير الأدبيّ. ورغم التنديد العقابيّ برشدي خمينيًّا بقتله، اكتسبَ رشدي تضامنًا علمانيًّا شرقًا وغربًا على أساس هذا الحجاج الذي قدّمه. لقد اتُّهم رشدي بـ«الإساءة» -وهي مفهوم علمانيّ، وليس دينيًّا، كما يوضّح طلال أسد في «هل النّقد علمانيّ؟»- إلى المعتقدات الدينيّة الإسلاميّة التي تناولتها روايته، ولم يرد هو بكلام مضمونيّ، وإنّما بأنّ ما تفعلونه هو غير أدبيّ بالمرّة، وأنتم رجال دينٍ، وبالتالي لا تفهمون الأدب.

وعلى الرغم من الظرف الذي كتب فيه الهنديّ-البريطانيّ سلمان رشدي روايته، والتي اعتبرها كثيرٌ من المهاجرين في بريطانيا حينها «تحريضًا» ضدّهم رغم اعتراضهم على الموقف العقابيّ الأرثوذكسيّ للخمينيّ، إلّا أنّ رشدي اتهمَ نقاده بأنّهم خلطوا بين التصنيفات، أي بين الأدب والديماغوجيا. يقول رشدي مثلًا: «إنّ كاتب الرّواية يستخدم الحقائق كموقع انطلاق ثمّ يأخذها بعيدًا لاستكشاف اهتماماتها الخاصّة، والتي ليست سوى اهتمامات تاريخيّة عرضيًّا. وعدم رؤية ذلك، أي التعامل مع الاختلاق كما لو كان حقيقة، يعني ارتكاب أخطاء فادحة تتعلق بالتصنيفات[5]».

لا ريبَ أنّ سلمان رشدي، في معرض كتابته والردّ على منتقديه، ليس ملزمًا بحال أن يقبل بالسائد أو أن يعبّر عن ما لا يعتقده. إنّما، كما يوضّح الأنثربولوجيّ الكبير طلال أسد في كتابه «جينالوجيّات الدين»، عليه أن يعلم أنّه وهو يتهكّم من المعتقدات التي يتناولها فإنه يخرجُ من تقليدٍ، ليقع في صُلب تقليد آخر. يقول أسد بلغةٍ واضحةٍ: «أكرّر: أنا لا أقول إنّ نقد رشدي فاسد لأنّ موقفه يقع خارج التراث الإسلاميّ، بل أقول إنّ قوّة ذلك النّقد تعتمد على وجوده داخل التراث الليبراليّ الغربيّ، ولأنّه يُنظَر إليه على أنّه يخاطب جمهورًا يُشاركه في ذلك التراث. كذلك أقول إنّه قد يؤدي تجريح معتقدات النّاس وممارستها إلى تركهم إيّاها، ولكنّ هذا التغيير تُجريه قوة أكبر (تخلق مشاعر الخجل أو الخوف، إلخ) وليس الحجّة الأخلاقيّة. وأنا أجد من المفارقات أنّ الليبراليّة الغربيّة التي أُدخل تحت اسمها أكثر من مُجرّد الليبراليّة السياسيّة -والتي تباهي أنّها تقوم على الحجّة العقلانيّة وعلى تحاشي القسوة- تُهلّل لروايةٍ مثقلةٍ إلى حدّ بعيد ببلاغة التخويف[6]».

حساسيّة علمانيّة؟

بالمثل، يمكن تسليط الضوء على ما أحدثته رواية «عزازيل» الشيّقة، والمكتوبة بلغةٍ رفيعة، للروائيّ المصريّ يوسف زيدان، وإلى النقد الذي واجهته من الكنيسة والكتّاب الأقباط باعتبارها «إساءة» للمعتقد المسيحيّ. كان رد زيدان في محافل عدّة على نقّاده الأقباط الذين شجبوا على روايته هذه، بأنّ الكهنوتيين لا يفهمون الأدب، وأنّ الأنبا بيشوي -الذي كتب سفرًا مطولًا ردًا عليه- يحاكم النصّ لأفق منغلق، وأنّه أديب، أي يعبّر «عن الإنسانيّة جمعاء»[7] (لاحظ الطبيعة العلمانيّة الإنسانويّة لخطاب زيدان). بل إنّ التهليلَ الذي أحدثه زيدان ومناصروه العلمانيّون، من مسلمين وأقباطٍ على السواء، كان علامةً على هذه المطالبة بالتعامل الأدبيّ مع النصّ الأدبيّ.

ورغم أنّ نصَّيْ رشدي وزيدان نصّان يلعبان على قضايا تاريخيّة يظنّان أنّهما مخوّلان بالوقوف على مسافةٍ منها، إلّا أنّ لنصّيهما دور سياقيّ-سياسيّ لا مناص منه: رشدي حيث يتكلّم كهنديّ يملك الإنجليزيّة ويحمل الهويّة البريطانيّة ويتكلّم بصوت أبناء الطبقة الوسطى الغربيين، وزيدان الذي يعيد كتابة تاريخ طبيعيّ للدين لاعبًا على حساسيّة علمانيّة منذ القرن الثامن عشر ألا وهي حساسيّة هيباتيا كضحيّة لعنف دينيّ، حيث يصبح الدينُ وأربابه مجرمين، وما التاريخ سوى صراع بين العقلانيين المتفتّحين (وإنْ ألبسوا ثوبًا صوفيًّا على يد زيدان) وبين الكهنوتيين المتزمّتين.

لا أريد الاستفاضة في أمثلةٍ أخرى لطبيعة المقال، فما أودّ إلفات النّظر إليه هو كيف أنّ النّقد لا يُقبَل في عصرٍ علمانيّ إلّا إذا كان هو نقدًا علمانيًّا بالمثل، بل ما هو أكثر أهميّة أنّ الرفض الأدبيّ للمحاكمة الأيديولوجيّة للعمل نفسه تُرفَض باعتبار الأدب «غير» السياسة. هذه التمايزيّة الحديثة المعمّمة لا تطال الدينيّ فحسب، بل السياسيّ أولًا. فإذا جئتَ إلى نصّ أدبيّ ووصفته بأنّه رجعيّ سياسيًّا، بل ربّما يكون فاشيًّا، اتُّهمتَ بضيق النّظر وبـ«اللاأدبيّة» في التعامل مع الأدب. في حين أنّ النصَ نفسه يتناول موضوعات قداسيّة وسياسيّة، ويَسمح لنفسه بذلك ولكن لا يسمح للنّقد أن يكون مثله.

إنّ تلك الحساسيّة العلمانيّة الكامنة في الفعل الأدبيّ نفسه تعملُ كنوعٍ من القداسة، والحصانة. صحيح أنّ الحكومات الرجعيّة تتعاملُ تعاملًا رجعيًّا مع نصوص عديدة بالمنع والتحذير، وأنّ الروايات المُصنَّفة على أنّها مسيئة قد يُطلب من الدولة ممارسة العنف ضدّ كاتبها، بيد أنّ ما تفحصه المقالةُ غير ذلك بالطبع، فهي معنية بالكشف عن الطبيعة العلمانيّة للأدب، وما يُطالب النصّ الأدبيّ قرّاءه به. فالنقد، ولكي يُقبَل، لا بدّ أن يكون علمانيًّا، والعجيب أنّ كلمة «علمانيّ» في سياقاتٍ كالتي عرضتها أعلاه تعني «اللاأيديولوجيا» ببساطةٍ.

المصدر ؛ خبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق