الرئيسية
ربع قرن من الزمان في خدمة لغة الضاد: رحلة في تدريس العربية وآدابها
بقلم أ. د. عبد الحفيظ الندوي

لقد مرت خمسة وعشرون عامًا، أو ربع قرن كما يسميها العرب، منذ أن وطأت قدماي محراب تدريس لغة الضاد، اللغة العربية الفصحى، بكل ما تحمله من سحر وجمال وعمق. كانت رحلة أكاديمية حافلة بالعطاء والتلقي، وبناء جسور الفهم بين الأجيال الشابة وتراثهم اللغوي والأدبي الغني.
بدأت مسيرتي في التدريس في كلية البنات الإسلامية بتاليكوم، ثم انتقلت إلى كلية البنين في نفس المنطقة. كانت هذه السنوات الأولى بمثابة الحجر الأساس في بناء تجربتي، حيث تعلمت فن التعامل مع مختلف الفئات الطلابية وغرس حب اللغة في نفوسهم. بعد ذلك، تشرفت بالعمل في كلية السيدات بوندور، حيث اكتسبت خبرة أعمق في تدريس الأدب العربي وجمالياته.
سنوات التأسيس: غرس المحبة في النفوس
في بداية مسيرتي، كنت أؤمن بأن تدريس اللغة ليس مجرد تلقين لقواعد النحو والصرف، بل هو غرس لمحبة اللغة في النفوس. كنت أحرص على أن أبدأ كل حصة بابتسامة، وأن أجعل من الفصول الدراسية واحات للنقاش والحوار، لا مجرد قاعات للتلقي الصامت. أتذكر جيدًا مقولة الإمام الشافعي:
> تعلّم فليس المرء يولد عالمًا
> وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ
هذه الأبيات كانت دائمًا ما تتردد في ذهني، وتدفعني لبذل المزيد من الجهد في تيسير المعلومة وتبسيطها، وتشجيع الطلاب على التعلم المستمر. لم يكن هدفي أبدًا أن يتقنوا القواعد فحسب، بل أن يتذوقوا جمال الكلمة، وأن يشعروا بقوة التعبير التي تمنحها لهم اللغة.
فنون البلاغة وجماليات الأدب: إبحار في كنوز المعرفة
مع مرور السنوات، ازداد عمقي في فهم علوم البلاغة وجماليات الأدب العربي. كنت أرى في كل نص أدبي عالمًا قائمًا بذاته، يستدعي التأمل والتفكير. لم أكن أقدم الشعر والنثر كدروس جافة، بل كنت أحرص على أن أجعلهما رحلة استكشافية، ندعو فيها الطلاب لاكتشاف المعاني الكامنة والجماليات الخفية. أذكر على سبيل المثال، كيف كنت أستشهد ببيت المتنبي الشهير:
> الخَيْلُ وَاللَيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني
> وَالسَّيْفُ وَالرُّمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ
لشرح عظمة الفخر في الشعر العربي، وكيف يتجلى الإبداع اللغوي في صياغة المعاني القوية. كنت أرى البريق في عيون الطلاب وهم يكتشفون كيف يمكن للكلمات أن ترسم صورًا، وتثير مشاعر، وتخلد أحداثًا.
خلال هذه الفترة، حظيت بفرصة التدريس في الجامعة الإسلامية بشانتابرم، وهي تجربة أثرت مسيرتي الأكاديمية بشكل كبير، حيث تفاعلت مع طلاب من خلفيات متنوعة ومستويات متقدمة في اللغة. كما قضيت عدة أشهر قيمة في معهد الأم أزهر العلوم بآلواي، وهو المعهد الذي تخرجت منه، مما أضفى على التجربة بعدًا شخصيًا وعمقًا تعليميًا. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت في تدريس اللغة العربية في بعض المدارس الحكومية الأخرى، مما أتاح لي فرصة الوصول إلى شريحة أوسع من الطلاب وتطبيق مناهج مختلفة.
التحديات والفرص: مواكبة العصر بروح أصيلة
لم تخلُ رحلتي من التحديات، فالتطور التكنولوجي وتغير اهتمامات الطلاب كان يتطلب مني دائمًا التجديد والتطوير. لكنني كنت أرى في كل تحدي فرصة للابتكار. استخدمت التقنيات الحديثة لتقديم المحتوى بطرق أكثر جاذبية، ودمجت النصوص الكلاسيكية مع القضايا المعاصرة، لأبرهن للطلاب أن اللغة العربية ليست حبيسة الماضي، بل هي لغة حية ومتجددة قادرة على مواكبة كل العصور.
لطالما آمنت بأن اللغة هي وعاء الفكر، وأن الاهتمام بها هو اهتمام بهويتنا. وكما قال حافظ إبراهيم، شاعر النيل، مخاطبًا اللغة العربية:
> أنا البحر في أحشائه الدر كامن
> فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
هذا البيت كان دائمًا يلخص رؤيتي للغة العربية: بحر عميق من المعارف والكنوز، ودوري كمعلم هو أن أكون مرشدًا لطلابي ليغوصوا في أعماقه ويكتشفوا درره.
في الختام، أجد نفسي ممتنًا لهذه المسيرة الطويلة في خدمة لغة الضاد، والتي تشرفت فيها بالعمل في صروح علمية مرموقة مثل كلية البنات الإسلامية بتاليكوم، وكلية البنين بتاليكوم، وكلية السيدات بوندور، والجامعة الإسلامية بشانتابرم، ومعهد أزهر العلوم بآلواي، وبعض المدارس الحكومية الأخرى. لقد كانت تجربة أكاديمية ثرية، علمتني الكثير عن اللغة، وعن نفسي، وعن الأجيال التي حظيت بشرف تدريسها. وما زال الطموح يحدوني لمواصلة هذا العطاء، لتبقى اللغة العربية منارة للعلم والمعرفة للأجيال القادمة.
هذه الكلمات جمعتها من ذكرياتي، وقد ألقيتها في اجتماع عن بعد عقده مركز التميز بكاليوت، برئاسة السيد الدكتور صابر نواس.

