مقالات

رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية قِيَمٌ تُحيِي الأُمَم: “بناء الشخصية وأثرها في نهضة المجتمع” 8

* التواضع: سر العظمة الحقيقية*

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:- التواضع قيمة عظيمة، لا تنبع من ضعف أو نقص، بل من قلب يعترف بحقيقة الإنسان ومحدوديته أمام عظمة الله ﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ (الإسراء: 37). إنه خُلُقٌ يرفع صاحبه، ويجعله محطّ احترام الناس ومحبة القلوب، وهو سرٌ من أسرار العظمة التي لا تزول.

* التواضع بيَّن القوة والإنسانية

لا يمكن بحالٍ اعتبار التواضع ضعفًا، بل هو انعكاسٌ للقوة الحقيقية، حيث يتنازل الإنسان عن كبريائه في سبيل الحق والخير. وهذا سيدنا محمد ﷺ، رغم كونه أعظم البشر، كان نموذجًا في التواضع، كان يخصِف نعله، ويحلب شاته، ويكنُسُ بيته، ويأكل مع الفقراء، ويقول: “إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ” (رواه ابن ماجه).
– إن العظمة الحقيقية ليست في التفاخر أو التعالي، بل في الاعتراف بقيمة الآخرين واحترامهم، فالقائد الحقيقي هو من يخدم شعبه، والمعلم الناجح هو من يُشعر تلاميذه بأنه واحد منهم.

* ثمار التواضع في حياة الفرد والمجتمع

التواضع يجعل صاحبه محبوبًا، لأنه يقترب من القلوب ويفتح أبواب المودة مع الآخرين، قال رسول الله ﷺ: “وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ” (رواه مسلم). هذه الرِّفعة لا تقتصر على الدنيا فحسب، بل تمتد إلى الآخرة، حيث يكون المتواضعون أقرب إلى الله.
– أما على مستوى المجتمع، يُعدّ التواضع صمام أمان يحميه من التفكك والصراعات، فالتواضع يُزيل الفوارق الطبقية والاجتماعية، ويُرسّخ مبدأ المساواة، وعندما يتواضع الأغنياء للفقراء، والأقوياء للضعفاء، تتحقق العدالة الاجتماعية، ويتحول المجتمع إلى كيان متماسك.

* أمثلة من التاريخ الإسلامي

التاريخ الإسلامي مليء بالنماذج العظيمة للتواضع، فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان رمزًا للتواضع، رغم هيبته وقوته، كان يلبس الثياب البسيطة، والمُرقّعة، ويتجول بين الناس ليلاً يتفقد أحوالهم، حتى إنه حمل الدقيق بنفسه إلى بيت امرأة فقيرة وقال: لمُعاونه الذي أراد حمل الدقيق عنه: “أتحمل عني أوزاري يوم القيامة؟”
– وفي قصة فتح مكة، عندما دخل رسول الله ﷺ مكة فاتحًا، كان بإمكانه أن يُظهر عظمة الانتصار بقوة وجبروت، لكنه دخل متواضعًا، حتى أن رأسه الشريف كان يكاد يمس ظهر راحلته، تواضعًا لله واعترافًا بفضله.

* التواضع في حياتنا اليومية

التواضع ليس مقتصرًا على القادة أو العظماء، بل هو خُلُق يجب أن يلازم كل فرد، يبدأ التواضع من القلب، حيث يعترف الإنسان بضعفه وحاجته إلى الله، ثم ينعكس في أفعاله وأقواله.
– وفي الكلام: يتجلى التواضع في اختيار كلمات لطيفة، وعدم التعالي على الآخرين، والاستماع لهم باحترام.

– وفي العمل: القائد الذي يتواضع أمام فريقه يُكسبهم حبهم واحترامهم، فينجح في قيادتهم.

– وفي العلم: من علامات العلماء الحقيقيين تواضعهم، لأن العلم كلما زاد أدرك صاحبه مدى

كيف تغرس التواضع في نفوسنا

– التأمل في عظمة الله: معرفة الإنسان بحقيقته كعبد لله تجعل التكبر مستحيلًا.

– قراءة سير المتواضعين:
الاطلاع على حياة النبي ﷺ وصحابته يُلهمنا قيم التواضع.
– العمل التطوعي:
خدمة الناس وخاصة المحتاجين تنمي شعور التواضع في القلب.
– الاعتراف بالخطأ:
التواضع يعني قبول النقد وتصحيح الأخطاء بدلًا من التعنت.

 

* التواضع يحيي الأمم

الأمة التي يسودها التواضع تكون أمة مٌتَحَضِّرة، لأن التواضع يحفز التعاون، ويزيل الأحقاد، ويجعل كل فرد يرى نفسه جزءًا من كيان أعظم، قال تعالى ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحجر: 88).
– وفي الختام
في عالم مليء بالصراعات والغرور، يبقى التواضع ضوءًا ينير الطريق نحو مجتمع أفضل، لنحيا بهذه القيمة، ولنجعلها نبراسًا في حياتنا، فننال حب الناس ورضا الله.
– عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “الصدق: العمود الفقري للتعاملات اليومية”

* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، وفرّج الله عن أهلنا المستضعفين إن شاء الله
مقالة رقم: (1838)
11. رجب . 1446هـ
السبت .11.01.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق